: كلنا شركاء
هل التفت وهو في أسفل ذلك الدرج الحجري إلى أعالي الجبل؟ هل نسي – متقصداً – غرضا ًما ليعاود الصعود؟ هل جمع كل كتبه وأشيائه؟ هل ودع أهل الدير، رهبانه، راهباته، دجاجه طيوره وكل الأرواح الطيبة فيه؟ كيف كانت ليلته الأخيرة؟ هل بكى؟ هل صلى؟ هل قضاها ساهراً
قررت ترك نفسي نهباً لهذه الأسئلة التي لاتنتهي، محاولة تركيب مشهد الوداع، تلطيفه، تأخير عقارب الساعة، جاعلة سائق التكسي يستغرق في النوم مثلاً للحيلولة ما بينه وتلك الحدود.. البحث عن تفاصيل التفاصيل وذلك هرباً من الحقيقة المرة المجردة….لقد رحل
تستعيد الذاكرة مشهده في ذاك اللقاء التلفزيوني حين قال: “سوريا تبنتني” يبتسم ويكمل” “أعتقد أن طائر أبو سعد كان يجب أن يأتي بي إلى عائلة سورية، لكنه عطس فوق روما ووقعت هناك بالغلط”
كل البشر يرغمون على الانتماء لمكان ما أو دين ما أو عائلة ما بحكم الولادة..إلا هو من قلة اختارت..اختار سوريانا لتكون وطنه..انتقاها اصطفاها وغاص في موغل تاريخها، جغرافيتها، تركيبتها الديموغرافية، أًصالتها، أحبها فكانت أمه..الأم الوطن التي لم تمنحه حتى جنسية الاعتراف بشرعية البنوة..فبقي طيلة ثلاثين عاماً (الأجنبي) في سجلاتها الرسمية..ورقة بختم وطوابع..وإقامة مؤقته تجدد أو تلغى كما يشاء الحاكم.
في تلك الخرابة التي كانت على جبل مرتفع ثار باولو قبلنا جميعاً..امتلك من وسائل المقاومة السلمية ما يحاول بعضنا اليوم البحث عنه واقناع الآخرين بجدواه، كما أعلن من تلك الخرابة الجهاد بأسمى معانيه، جهاد لاجل الحق وإعلاء كلمة الله والإنسان..باولو ثائر شرس عنيد منذ تلك اللحظة التي وطأت قدماه النبك فكيف صبر عليه النظام طيلة تلك السنوات؟ وكيف لم نثور معه كل تلك السنوات؟
حين كنا نتسابق للحصول على فيزا ونشحد جنسية أجنبية كان هو يقتلع الحجارة بيديه، وحين كنا نقف طوابير على أبواب السفارات كان هو يرمم الأيقونات السورية القديمة، وحين كنا ندفع الرشى ونلعن الفساد معاً، أكمل هو بناء صرح مذهل بات محجاً وشاهداً على قدرة الإنسان على اجتراح معجزات من عدم.
في رسالته المصورة إلى السوريين حين صدرت أوامر ترحيله منذ عدة أشهر يختم باولو قائلاً: أفضل الصمت في سوريا والبقاء فيها على الكلام من المنفى”
لم يصمت باولو بل استمر يعمل بدأب، يتبع أشواقه والتزاماته كإنسان حر، يعمل لأجل ديمقراطية وتسامح وحرية، ولأجل تناغم مسيحي إسلامي.
منذ عامين تم الغاء المحمية البيئية السياحية الثقافية التي أقيمت في دير مار موسى وكذلك تم ايقاف ملتقى الحوار بين الأديان بموجب قرار الحكومة السورية، عن هذا الأمر يقول باولو في رسالته المصورة ” “أوقفوا المشروع على الرغم من أهل النبك وعموم السوريين لم يشتكو ولم يجدوا فيه أي ضرر على العكس، زادت المحبة والألفة والتسامح والترابط المجتمعي لاسيما بين الجيل الناشئ”
لا أعرف كيف يتعامل الصامتون مع طرده، لا أعرف سر قلوبهم التي لا تنبض لاسيما أولئك الذي قضوا بعض سويعاتهم في بيته ومنحهم الدفء والسكينة؟ ألم ينتفض شيء ما بداخلكم؟ ألم تضطربوا؟ ألم تخافوا؟
ملاحظة: في عام 1982 اكتشف باولو دير مار موسى الذي كان خرابة، أحبه، رممه وبناه بعرقه، بينما كان حافظ الأسد على بعد عدة كيلومترات منه يدمر حماة ويقتل فيها حتى الأجنة.