القُصَير- سـوريا: كل يوم، حوالى منتصف النهار، يجتمع الأعضاء الثمانية في المجلس الوطني (البلدي) في القصير، البلدة القريبة من الحدود مع لبنان والمنفذ الطبيعي للاجئين من محافظة حِمص، في صالة منزل الدكتور عباس. بين كؤوس الشاي الحلوة، وفناجين القهوة المركزة مع نكهة الهال، ودخان التبغ، ينخرط ممثلو البلدية في نقاشات حول كيفية حل المشكلات الأكثر أهمية، من تعبيد الشوارع المتأثرة بطلقات المدفعية الثقيلة إلى إيواء نازحي الحرب الذين يمرون بالمنطقة في طريقهم إلى لبنان.
“منذ شهور لا توجد حكومة هنا. ليس هناك شرطة ولاخدمات… لا بد أن يعتني أحد ما بالمدينة” يشرح عباس، طبيب الأسنان المؤهل ورجل الأعمال الميسور الذي رأى كيف أصبح مصنع التغليف الذي يملكه مدمراً بشكل كامل جراء عمليات القصف التي يقوم بها النظام. “ونحن أنشأنا هذا النظام: لقد أسسنا نوعاً من الحكومة البلدية من ثمانية دوائر. لكن، حذارِ: لقد قمنا بذلك بطريقة ديموقراطية”.
إلى جانب عباس يوافق ويبتسم أبو فداء، المسؤول عن دائرة الأمن -المؤلفة من خمسة وعشرين رجل شرطة محلي من المنشقين، والمكلف بـ “العمل كأي قسم شرطة آخر” كما يشرح هذا الأخير- وكذلك أحد زعماء القبائل وأحد رجال الدين وشقيق لعباس، “شكلنا المجلس قبل خمسة شهور، عندما أوقفت الحرب كل أنواع النشاط في محافظة حمص”، يواصل عباس “والآن، إن مشكلة كانت تُحل في عشر سنوات صار يمكن تسويتها في يوم واحد” يقول بنبرة اعتداد.
الحكومة الذاتية فرضت نفسها في القُصير كما حدث بالفعل في بلديات سورية أخرى مثل الزبداني، مضطرين إلى إيجاد حلول بمواجهة الفراغ الحكومي الذي تبع التمرد الشعبي ضد النظام، وخاصة في المناطق المحررة من سيطرة الديكتاتورية. يعود تاريخ المجلس إلى أوائل عام 2012، عندما تبيَّن أن حضور بعثة مراقبي الجامعة العربية لم يكن قادراً على كبح هجمات النظام على البلدات الثائرة والرد المسلح من الجيش السوري الحر، الفصيل المكون من المنشقين الذين وقفوا في وجه النظام، والذي يحظى بزياة مطردة في المساعدة التي يتلقاها من المدنيين الذين استبدلوا الأسلحة باللافتات.
بعد الهجوم الوحشي لنظام دمشق على حمص، اختار عدد كبير من السكان الكفاح المسلح، وقد أدى هذا، كما يأسف ناشطون كثيرون، إلى هجر الثورة الديموقراطية. “منذ اليوم الأول من شباط| فبراير الماضي، أصبحت حرباً أهلية. لقد خسرنا الثورة. كل شيء بدأ من أجل أشياء خالية من العيوب مثل حرية التعبير، الديموقراطية، العدالة، المساواة،… الآن هي حرب انتقام”، يتمتم خالد، الناشط الحمصي المنخرط في المظاهرات منذ بداياتها، بنبرة مريرة.
هذا الواقع لا يغير من احتياجات مدن مثل القُصير، التي تمردت بشكل خجول ضد الديكتاتورية في ربيع العام الماضي لكنها لم تثر إلى أن قُتِلَ المواطن المصور محمود فرزات جربان، الذي اقتلع مؤيدون للنظام عينيه. أوجه القصور في المدينة تفاقمت بشكل كبير، في أوائل شهر شباط| فبراير، عندما أجبر الهجوم الكبير على حي بابا عمرو وأجزاء أخرى من حمص، عشرات الآلاف من الأشخاص على الهروب باتجاه هذه البلدة، ما أدى إلى تثبيتها منفذاً هو الأكثر ازدحاماً باتجاه لبنان، وجعل البلدة، التي كانت تعد 40000 نسمة حينذاك، تحت أنظار دمشق.
انتقلت تعزيزات عسكرية إلى المنطقة، وأمر النظام بنصب المزيد من حواجز التفتيش التي يمكنه من خلالها السيطرة على المدنيين، وزادت عمليات القصف. لكن ذلك كان متأخراً: فبعد سقوط حمص، كان مقاتلو الجيش السوري الحر هم من وجه عملية هروب المدنيين عبر المحافظة. قسم كبير من المقاتلين انتهى إلى الاستقرار في المنطقة، وقد قويت شوكة الرجال المسلحين في القصير وقراها المجاورة حالياً، الأمر الذي يفسر ضراوة عمليات القصف التي يقوم بها النظام في الأيام الأخيرة.
“قبل شهرين غادر ثمانون بالمائة من السكان المدينة. مسيحيون، علويون، شيعة، دروز… أناس كثيرون قتلوا على أيدي قناصَّة النظام. الآن، تسعون بالمائة من المدينة أصبح محرراً من قِبل الجيش السوري الحر لكن لا يمكن أن يقال إنها آمنة ما لم يختفي القناصون”، يوضح لنا الدكتور عباس، راسماً خريطة ريفية متخيلة.
السكان القلائل الذي بقوا في المدينة تعودوا على التعايش مع الحرب، وعمليات القصف، والمعارك بين الجيش السوري الحر وقوات الأسـد التي تندلع في المدينة. يتجنبون ساحة الساعة، حيث يظهر مقر البلدية بنوافذه العديدة المحصنة بأكياس الرمل، وكذلك المناطق المجاورة للمستشفى الوطني: كلاهما موقعان عسكريان. “ليسا بنائين يتجنبهما الناس بسبب القناصة وحسب: قبل أيام قليلة، طار واحد من الجنود المنشقين في الهواء عندما وطىء لغماً بقدمه، ما يدعونا إلى الظن بأنهم لغَّموا المداخل”، يوضح معاذ، العنصر في الجيش السوري الحر.
الحياة تعطلت في ما كانت تُعد في أوقات أخرى مدينة حدودية مزدهرة كانت تعيش على التجارة. اليوم، السوق القريب جداً من ساحة الساحة مغلق: لوحة الأبواب المعدنية لكل محل تعرض علامات الإصابات، وآثار الشظايا. بعض المحال التجارية تفحمت. في زاوية من المدينة، آثار معركة كبيرة مازالت مرئية: أبنية مخردقة ومحروقة، متاريس خالية من الأكياس الرملية، وقنابل حارقة خالية من الذخيرة، “هنا كان يوجد موقع لجيش الأسـد”، يواصل معاذ. “تكبد الجيش السوري الحر ما تكبد للخلاص منه، لكنه تمكن من ذلك”، يثمِّن الشاب، الذي كان طالباً للهندسة، ملقياً نظرة خاطفة على ما حوله.
“من الواضح أن الهجوم الذي عشناه في آذار| مارس كان رداً على ما حصل في بابا عمرو”، يضيف أبو فداء، ويوافقه الآخرون. “يحاولون قطع طريق الهروب باتجاه لبنان، المخرج الوحيد الذي تملكه حمص”. تعرضت القُصير لهجمات متقطعة منذ بداية الاحتجاجات، ووفق الناشطين والسكان فإن معظم الضحايا المائتين الذين يُقدَّر أنهم سقطوا حتى زيارة “بريوديسمو اومانو” للمكان، في أوائل أيار| مايو، كانوا قد تعرضوا لإطلاق النار من الحواجز التابعة للنظام. “هنا لدينا فقط مستشفى ميداني فيه طبيبان. لا يمكننا الوصول إلى مستشفى حمص لأن هناك 23 نقطة تفتيش في الطريق (ثلاثون كيلومتراً تفصل بين المدينتن)، وأسماء 70 بالمائة من رجال القُصير تظهر في قوائم النظام السوداء”. يوضح الدكتور عباس. “بما أن المستشفى الوطني تحت سيطرة جيش الأسـد، لذا ينبغي نقل المصابين بإصابات خطرة إلى لبنان. يفصلنا عشرون كيلومتراً عن الحدود، لكن لأن الطرقات الرئيسية محتلة من قبل الجيش فإنه يجب علينا اتباع طرق غير مستعملة: الرحلة الآن تستغرق يومين”.
من أجل تنسيق إخلاء المصابين ودخول الإمدادات الطبية المهربة ونشاطات أخرى كثيرة تم اختيار المجلس الوطني (البلدي)، “في أحد الأيام اجتمعنا في المسجد بوصفنا ممثلين عن العائلات الرئيسية في القصير. اجتمع مائة من الأشخاص: ضعي في اعتبارك أن عائلة واحدة هنا يمكن أن تمثل حوالى عشرين بالمائة من السكان. أخضعنا للتصويت أسماء المتطوعين للعمل في الحكومة البلدية: من قائمة اختيار أولى من ثمانية وعشرين شخصاً انتهينا إلى التصويت لثمانية أشخاص”.
في القُصير المحررة، يتقاسم أعضاء مجلسها البلدي الثمانية دوائر الأمن، المالية، الصحة، الشؤون الاجتماعية، الزراعة، الاتصالات، الشؤون العسكرية، والشؤون الدينية، وواحد أخير مسؤول عن تنظيم المظاهرات اليومية، واحدة نهارية وأخرى ليلية، اعتادوا على تنظيمها للمطالبة بخروج النظام. عباس وأبو فداء والبقية لم يكونوا يعلمون أن مدينة الزبداني القريبة من دمشق، كانت قد أجرت انتخاباتها الخاصة في أواخر عام 2011 متبعة خطة مشابهة. “لا نعلم إذا كانت هناك سوابق، نحن نتصرف وفق الحاجة” يقول عباس ضاماً كتفيه.
“الحصار العسكري يمنع وصول الوقود، الغاز، الطحين أو الإمدادات الطبية. علينا أن نحصل على ذلك كله من السوق السوداء، وهذا ما يشعل الأسعار. القليل من الناس يمكن أن يدفعوا في ليتر الديزل، الذي جرت العادة على أن يكلف 15 ليرة سورية، 45 ليرة في السوق السوداء. نحتاج إلى المساعدة لكن الرئيس لن يترك السلطة إلا بالقوة فقط، وهكذا لم يبق لنا طريق آخر غير القيام بدورنا”، يواصل طبيب الأسنان كلامه.
دائرة المالية توجه المساعدات الاقتصادية التي تتلقاها -يؤكدون أنها في غالبيتها تأتي من تبرعات سوريين في المنفى- في تمويل شراء الأدوية والأغذية الرئيسية للأشخاص غير القادرين على توفيرها، وكذلك الطعام واللباس لعناصر الجيش السوري الحر -“أي شيء، ما عدا الأسلحة” يؤكد عباس- ورواتب رمزية للجهاز الطبي الذي يعالج المرضى في المشافي الميدانية والعيادات السرية التي تقدم المساعدات الأولية. دائرة الشؤون العسكرية تنسق العلاقات بين الجيش السوري الحر -يقدرون أن هناك 1400 مقاتل في القُصير وما حولها- وبين السكان المدنيين -يقرون بوجود مشكلات معزولة، إلا أنهم يرفضون إعطاء تفاصيل- بينما يعمل المسؤول عن الاحتجاجات على الحؤول دون إطلاق النار عليها.
“لدينا عدة أماكن مخصصة للتظاهرات، لكن لأنها تعرضت لاعتداءات، فإنها تقام كل يوم في مكان مختلف يُختار قبل ساعات قليلة من قِبَل المنظمين” يشرح حسين، الناشط الشاب الذي اعتاد حضور المظاهرات يومياً. الباقي يتم عن طريق المشافهة، وكل مساء، حوالى الساعة الثامنة، يتجمع ما يقرب من ثلاثمائة رجل في الموقع المختار، حيث تنتظرهم اللافتات المعلقة ومكبرات الصوت، وأعلام سوريا الثورية (السابقة على البعث). في ليلة التاسع والعشرين من أبريل| نيسان، استُقبِلَت الشعارات الثورية بوابل قوي من النيران من موقع البلدية الحكومية، “يطلقون النار في الهواء، فمن مكانهم هناك لا يستطيعون الوصول إلى المظاهرة. أهلاً وسهلاً بكِ في القُصير” يتهكم أبو حبيب، ناشط آخر.
المسؤولون في المجلس الوطني (البلدي) يحضرون دائماً إلى المظاهرات. سلوكهم يدهش السكان. “رؤيتهم وهم يتناقشون في الاجتماع اليومي الصباحي هو عرض للمشاهدة. في سـوريا، نحن معتادون على أن لا يناقش أحد شيئاً في برلماننا: دورهم يقتصر على الاستماع وقول نعم والتصفيق للقائد. لكن هنا، في القُصير، الأشياء مختلفة جداً. الصيحات يمكن سماعها في الشارع”، يواصل حسين كلامه باعتزاز ملحوظ.
رغم القصف، الذي ازداد شدة في الأسابيع الأخيرة، تبدأ مدينته في خطو خطواتها الأولى في الإدارة الذاتية بمعزل عن نظام دمشق، وكثيرون مثله تواقون للتعاون. “هل ترين هذه الدار؟”، يقول بينما يدور حول بناء واسع مازال قيد البناء، قريب من بيت الدكتور عباس. “عائلتي كانت تشيد هذا البناء من أجلي وأخوتي، لكن منذ أن بدأت الثورة غيرنا رأينا. الآن نحن نريده أن يستضيف مقر الحكومة المحلية القادمة في القُصير، حالما نتحرر من النظام”.
ترجمة: الحدرامي الأميني
بيريوديسمو اومانو
http://periodismohumano.com/en-conflicto/los-primeros-y-timidos-pasos-democraticos-en-la-siria-lib