بما أن الطرح الديني التقليدي هو المسيطر على توجّه غالبية نواب مجلس الأمة في الكويت، من السنة والشيعة، فالحديث عن احتمال وجود رأي ديني متسامح بينهم هو حديث في غير محله بتاتا.
وقد أفضى عنصر الغالبية الممنوح للنواب السنة في مجلس الأمة إلى جرأة غير مسبوقة لأسلمة القوانين، فيما سعت الأقلية من النواب الشيعة إلى المناورة حول تفاصيل الأسلمة لا حول مبدأ الأسلمة، لعلها تستطيع أن تدافع عن مصالحها وتحمي نفسها من مضار الهيمنة.
هذا الطرح الديني التقليدي، المنتمي إلى حقبة عدم التسامح الثقافية القديمة، لا يمكن أن يرتجى منه شيئ. ودرجة التسامح التي وصلت إليها البشرية في الوقت الراهن لا يمكن أن نسقطها على الوعي الديني للنواب وعلى من لف لفهم وأيّد مبدأ عقوبة الإعدام ضد من يشتم نبي الإسلام وزوجاته. والتطور في موضوع الأسلمة بات يشكل مدخلا واضحا لتحريك مياه الدولة الدينية التاريخية على حساب تراجع الإشارة إلى الدولة المدنية الحديثة. وأصبح حديث نواب الأغلبية عن المجتمع الإسلامي أقوى من الحديث عن المجتمع المسلم.
في المقابل، يحث الدستور الكويتي الخطى على تشكيل الدولة الحديثة وتفعيلها وتعميق أسسها في المجتمع، بوصفها دولة المواطنة والمجتمع المدني. أمّا الدولة الدينية التاريخية، والتي هي الدولة الإسلامية وحكومة المجتمع الإسلامي، فلا يدعو إليها الدستور ولا يوجد لها أي منطلق في ثناياه، اللهم إلا الإشارة إلى المادة الثانية من الدستور التي ترى أن الاسلام مصدر أساسي للتشريع، وهي لا تنتمي لا من قريب ولا من بعيد إلى الدولة الدينية.
ورغم تباين تفسير المادة الثانية، وتعارض شرح نواب الطرح الديني التقليدي لها مع شروحات مواد أخرى كثيرة تساند الرؤية الجديدة للمجتمع وتدفع بالقيم والمفاهيم الحديثة، ورغم استناد المادة الثانية – حسب رأي الأكثرية المنتمية إلى الطرح الديني – إلى التفسير الداعي إلى إلزامية تنفيذ المسلّمات الدينية المتمثلة بالتشريعات بغية أسلمة المجتمع، لكن الأسلمة أو الدولة الدينية لا يمكن لهما أن يتعايشا مع مفهوم الديموقراطية المستند أساسا إلى نسبية القوانين بما يتعارض مع مفهوم المسلّمة.
ويشير الطرح الديني لبعض لنواب، وتطورات موضوع “الارتداد” وصولا إلى الموافقة على قانون الإعدام، وكأن النية تتجه إليهم لاعتبار أن المجتمع الكويتي مجتمع “إسلامي” انطلاقا من تفسير المادة الثانية، ما يعزز وجهة النواب في تحويل البلاد إلى دولة دينية حتى لو تعارض ذلك مع مواد أخرى في الدستور. إذ هناك توجهاً لتغيير بعض تلك المواد بما يتوافق مع هذه النية.
فلا يوجد في الدستور الكويتي ما يشير إلى الدولة الإسلامية، بل هنالك إشارة إلى أن المجتمع مسلم، وهذا لا يتعارض مع الدعوة إلى دمقرطة المجتمع وتحديث مفاهيمه، بل يتعارض مع ما يدعو إليه الطرح الديني التقليدي من أسلمة القوانين وتحويل الكويت إلى دولة دينية. فدستورية مفاهيم الحداثة لا يمكن أن تعادي ديانة المجتمع (أي مجتمع) ولا تتعارض مع نشاطه الإيماني والروحي، بل تتعارض مع تديين القوانين وشرعنة الحياة استنادا إلى ثوابت ومسلمات لا تمت للحاضر ولا لطبيعته ومفاهيمه بصلة.
وهناك من أنصار الطرح الديني التقليدي من يعتقد أن معارضة قانون الإعدام تمثّل جرأة على نبي الإسلام. غير أن ذلك لا يمكن إلا أن يكون تضليلا واضحا ومتعمدا. فالبعض يسعى لتجاوز الواقع الثقافي فيما يتعلق بـ”الرؤية الحديثة” لموضوع التسامح، والتي تختلف مع تلك “القديمة” المتبناة من قبل الأديان. فالأولى ليس لها أي صلة بنوع العقوبة المتشدد في علاقته بالرأي سواء كان نقدا أو سخرية أو شتما. فيما أنصار الطرح الديني يزجّون برؤيتهم في الواقع الحديث على الرغم من علمهم بأنها لا تصلح لهذا الزمان ولن تستطيع أن تتكيّف فيه.
ونعت الرأي المعارض لعقوبة الإعدام بأنه قد خالف الشريعة بشكل صريح وتحداها بشكل سافر، هو في غير محله أيضا. بل الأجدى أن نقول بأن العقوبة تعبّر عن تحد لمواد التسامح الواردة في الدستور، وتمثل جرأة ضد النظام الديموقراطي.
فالمدافعون عن العقوبة والمعارضون لها، جميعهم ينضوون في خانة الأفكار والصراع بشأنها، ولا يمكن تقسيمهم إلى مسلمين وكفار، أو إلى مدافعين عن الثوابت والمسلمات ومعارضين لها. ولا يمكن لنقاش الأفكار في الحياة الديموقراطية أن يسمح باستخدام عبارت، كـ”مخالفة المسلمات الدينية” و”تحديها بشكل سافر”، فلا يمكن لتلك أن يكون لها وجود في هذا السجال. وبعبارة أخرى، لا يوجد في جدال الديموقراطية ما يمكن أن نسميه بـ”الخطوط الحمراء” الفكرية، فالأفكار منجز بشري نسبي وليست مسلمات أو ثوابت نهائية، وهي قابلة للنقاش والتداول، ومعرضة للقبول والرفض، وأي استخدام لثقافة المنع والإقصاء والجبر، ولتوزيع التهم الدينية والاجتماعية تجاهها، هو نسف لأسس الديموقراطية وتحد لدستور البلاد.
وإذا كان البعض يتمنى بأن يكون فهمه للشريعة الإسلامية هو المهيمن والمحكم الكامل في الكويت، ألا يحق لغير هؤلاء – وفق النظام الديموقراطي، ودون أن توجه له تهمة معاداة الدين، والارتداد، وغيرها من المسميات – أن يطالب بعكس ذلك، وأن يدعو إلى فصل الدين عن الدولة؟ ألا يحق لغير الإسلاميين أصحاب الطرح الديني التقليدي المطالبة بألاّ تكون الشريعة الاسلامية وفق – مثلا – الفهم السلفي هي المهيمنة، وإنما وفق فهم آخر قد يكون ليبراليا؟
إذا كان البعض يعتقد بأن النظام الديموقراطي الوارد في دستور البلاد قد فتح الباب له للدعوة لتغيير ماورد فيه نحو مزيد من الأسلمة، وليس نحو مزيد من الحريات، ألا يعتبر ذلك قفزا على الدستور لنزعه من ثوب الحرية والديموقراطية والتعددية مما يجعله غير قادر حتى عن الدفاع عن أفكاره إذا ما أصبحت الهيمنة هي للأقوى المستبد وليس للأصلح التعددي؟
الديموقراطية تستند إلى الأفكار النسبية مما تفرز الأصلح وفق نظام انتخابي تعددي، فيما الاستبداد المستند إلى الثوابت والخطوط الحمراء، الدينية والاجتماعية، فإنه يفرز الأقوى والأكثر هيمنة الذي يرفض النقاش، باعتبار أن ما يتضمنه خطابه هو مسلمات.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com
* وافق البرلمان الكويتي الخميس الماضي في جولة اولى من التصويت على تعديلات قانونية تنص على تطبيق عقوبة الإعدام على كل من يدان بشتم الذات الإلهية او النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وزوجاته.