يشعر السوريون، عن حق، بأنهم وحدهم في ثورتهم على نظامهم. وهذه نقطة قوة عند هذا النظام، تجد منبعها في كلمة رئيسه، بشار الاسد، قالها في مثل هذه الايام من العام الماضي، وسط مناخ صاخب، ينتظر دوره في السقوط، اسوة بزملائه الديكتاتوريين الجمهوريين. قال الاسد وقتها ان نظامه «قوي»، لن يتزحزح، لأنه نظام «ممانع«.
هذه القوة ظهرت بوضوح خلال العام المنقضي من عمر الثورة السورية: حلفاء اقوياء، اصحاب فيتو في مجلس الامن من روسيا والصين، آخرون اصحاب محور اقليمي، ايران، يمدونه بمقومات «الصمود» الديبلوماسي والمالي والعسكري. أذرع في علويي تركيا،وأخرى ممتدة الى لبنان والعراق وكردستان التركية، أذرع ابتزازية مسلحة، قادرة على تهديد الكيانات الثلاثة، على الأقل، في حال سقوط النظام السوري. اسرائيل التي تخشى هذا السقوط للاسد، ومعه اهتزاز الهدنة غير الضمنية في حدودها الشمالية، من جهة سوريا، استقرار هذه الهدنة بعد 2006 من جهة لبنان. ثم اللعبة الفلسطينية، التي تلفظ انفاسها الاخيرة، وتنعشها ايران، ولو مؤقتا، بضربات للـ»جهاد الاسلامي» من غزة ضد اسرائيل، لعل «حماس» ترتبك فتتراجع عن انعتاقها من اللعبة. كل مقومات القوة هذه لم تبق على الدرجة نفسها طوال العام المنصرم. لقد اشتدت او تراخت تبعا للمجريات. وكلها عرفناها عن كثب.
ولكن هناك شيء آخر، مكمن آخر لقوة «الممانعة»، يمهَّد لها بمقارنتين: الاولى، ان الانظمة المسماة «معتدلة»، وهي الصفة النظيرة للـ»ممانِعة» منها، الاقل قمعية، من النظام السوري، الأكثر ارتباطا بالاعداء التقليديين، كانت هي الايسر سقوطا، الأقل دموية، خصوصا المصري والتونسي. في حين حصل إجماع اعلامي وثقافي وفني على سقوطها، حصل انقسام حول الثورة ضد النظام السوري (كلنا تابع «الانشقاقات» الاعلامية والعسكرية المتوازية احيانا). وهذا الانقسام كان محوره «ممانع»: مع «المؤامرة الامبريالية والصهيونية» أو ضدها.
المقارنة الثانية: حرب اسرائيل ضد لبنان عام 2006 وضد غزة عام 2009، من جهة، وحرب النظام السوري ضد شعبه من جهة اخرى. لا يمكن مقارنة أعداد القتلى والجرحى والمفقودين والمعذَّبين والمعتقلين والمغتصبين والمغتصبات، والمهجرين والمشردين واللاجئين ولا هول الدمار والخراب والعقوبات الجماعية من قطع الماء والكهرباء والطحين الخ… لا يمكن مقارنة ما تقترفه القوات النظامية السورية، بما ارتكبه الجيش الاسرائيلي في الحربين الآنفتين. الاول اسمه مذابح، والثاني جرائم. ومع ذلك لم يقم العالم، الاعلام، المجتمعات المدنية، الشبكات التضامنية الدولية، مجلس الامن الخ. خصوصا غزة، التي استفزت اغلظ المشاعر… فيما الشعب السوري الآن وحده، يواجه كل هذا وحده. من دون اصدقاء حقيقيين، ولا حلفاء ولا أذرع ولا متضامنين (انظر الى «التضامن اللبناني مع الشعب السوري«…).
الفارق بين الوضعين، الفلسطيني اللبناني من جهة، والسوري من جهة اخرى، هو ان النظام الممانع لم يسمح لمواطنيه بالقيام بالمهمة «الممانِعة» التي يدّعيها ويبني شرعيته على اساسها. حرم السوريون من بناء شبكاتهم ومنابرهم واحزابهم الخاصة بقضية بلادهم، اي إحتلال الجولان؛ فوجدوا انفسهم، عندما اطقلوا ثورتهم، صفر اليدين امام مهمات تحتاج الى سنوات من الحرية، ولو النسبية، في المبادرة والتنظيم والتأطير والتمرين.
لكن الموضوع أعمق من حرية الفرد النسبية بين الشعوب الثلاثة. انه الموضوع الثقافي، الحصن الاخير للممانعة، الأقل شفافية. وقد تدوم قلاعه زمنا قبل تصفية الحساب مع تراثه العريق. ثقافة «الممانعة»، مثلها مثل الثقافة الاصولية الماركسية والاسلامية، تقوم على الحق المطلق بالقتل. لا خجل من الحل الامني، هكذا بصراحة مدعومة بثابتة: من يقاتل اسرائيل واميركا، أو يدعي قتالهما، أو يدير هذا القتال بالمقاولة، هو جهة لها الحق بقتل اي مواطن متورط كذبا او صدقا بعدم مقاتلتها. لا يخجل الممانعون من القتل، أو مبدأ القتل، يفعلون ذلك باسم شيء هو دائما «القضية»، الاسمى من الانسان. طبعا اربعة عقود على لعبة القتل تؤبد الحق المطلق بالقتل. لكن المبدأ قائم اينما حللت في عالم الممانعين: هم يتكلمون عن مجازر الجيش السوري كما تكلموا عن 7 ايار 2008 في بيروت، من انها عملية تنظيف امني بسيطة لجيوب الارهاب، حفاظا على المقاومة وسلاحها. والبقية تصبح مفهومة: ان يُقتل سوري على يد نظامه الممانع ليس كأن يقتل فلسطيني او لبناني على يد اسرائيل. الاول «قتيل» والثاني «شهيد«.
الأرجح ان هذا الشعور يتجاوز حدود العالم العربي: في الغرب ايضا، التجاوب الاعلامي والحزبي والشعبي مع محنة اللبنانيين والفلسطينيين على يد قوات الجيش الاسرائيلي، لا يقارن بالتجاوب مع ثورة الشعب السوري (بعضهم ينسب هذه اللامبالاة الغربية ازاء المحنة السورية الى الازمة الاقتصادية العالمية؛ ونحيلها الى الذنب الغربي تجاه الفلسطينيين وكل اعمال اسرائيل، يشبه نوعيا الذنب تجاه اليهود بعد المحرقة ولكنه اقل عراقة).
«الممانعة» السورية عمرها اربعة عقود، منذ هزيمة حزيران 1967. وقد امدّت الابداع الفني «الممانع»، الدائر حول أبدية لامبريالية والصهيونية بجيش من الروائيين والشعراء والموسيقيين والمخرجين السينمائيين لا نظير لتوسعهم. انه الجهاز الاكثر متانة من بين اجهزة الممانعة، خصوصا العسكرية منها. القوة الناعمة الخفية المتسربة الى اعماق الوعي والشعور والخيال.
نشاهد اليوم بزوغ اولى التعبيرات الفنية المحاربة للنظام الممانع. والملفت انه، لجدة هذه التعبيرات، سوف تجدها في مجالات ابداعية جديدة مثل الغرافيك والكاريكاتور والكارتون اليوتيوب، فضلا عن الاغنيات بالالحان الجديدة المختلفة. الاكثر لفتا للنظر ان كبار الشعراء والروائيين والملحنين وكتاب المسرحيات الذين بنوا مجدهم على المضامين والمعاني الممانعة في انتاجهم، هم الآن في حالة انعدام الوحي الابداعي، على الرغم من انتشارهم. ينكرون طبعا اثمهم، لكن المرحلة كشفتهم: النظام الذي امدهم بالقدرة الابداعية، تفوق على ابليس في الشيْطنة. هذه القدرة انتقلت الى ضفة جديدة تماما. تحتاج فقط الى الوقت لكي تراكم في الذاكرة ما راكمته الممانعة من مفاهيم والحان وتصورات وافكار وذيوع. الثورة المصرية كانت نظاما غير ممانع، ما سهل سقوطه، ما ابقى الثوار المصريين في حال من التماس مع ثقافة الممانعة. اما الثورة السورية فهي مرشحة لإحداث قطيعة مع هذه الثقافة. ابناؤها كانوا على صلة حميمة معها، وباتوا قادرين على كشف خيوطها العريضة والدقيقة التي دهست روحهم.
الآن، الآن فقط، تأخذ مجزرة حماة على يد الاسد الاب، شيئا من سياقها. هي حصلت في شباط من العام 1982، أي بعد عامين ونيف على تعليق عضوية مصر في جامعة الدول العربية اثر توقيعها على اتفاقية كامب دافيد عام 1978، وقبل اربعة اشهر من الغزو الاسرائيلي للبنان. اي ان المجزرة مرِّرت، بعد حملة «ممانعة» ضد مصر، تقول بدوام الحرب مع اسرائيل، وبعد تكريس النظام السوري بطل الممانعة بقبضته الحديدية على المقاومة الفلسطينية في صدّ اسرائيل. كان هناك غياب للاعلام الجديد طبعا، ولكن كانت هناك ايضا استحالة التفكير، مجرد التفكير بماساة حماة في وسط هاتين الموقعتين؛ إستحالة ان تخاض اية معركة مع النظام الذي «يقف بوجه اسرائيل والمشروع الاميركي«.
كانت ثقافة اختلط فيها الحابل بالنابل، والحق بالباطل، جاءت الثورة لتفصل بين هذه وتلك. والفصل أول الغيث…
dalal.elbizri@gmail.com
كاتبة لبنانية
“نوافذ” المستقبل