فوجئنا جميعاً بالثورات العربية، وبيننا أولئك الذين وجدوا في دفاترهم القديمة ما ينبئ بحدوثها. ومن ابتغى الكف عن القراءة في كتابه وحده، ورغب في استجلاء معنى هذه المفاجأة، غالباً ما وجد في «التاريخ» لبّ هذا المعنى وطوق الوعي به. هكذا صار «التاريخ» نجماً من نجوم ثوراتنا: إرادة التاريخ، مساره، ديناميكيته، حتميته، بطؤه، سرعته، لؤمه، مقالبه…
ومع تشبيه التاريخ بالعوامل الطبيعية، «الزلزال»، أو «تسونامي»، أو «بركان»، أو «هبّة»، أو حتى «ربيع»، ينتصب «التاريخ» مثل كائن قائم بذاته، منفصل عن البشر، خاضع لقوانين مجهولة، ما زالت البشرية بصدد ايجاد محركاتها… شيء جبار، يدعو في حالتنا، الى الذهول والغبطة أو الرفض والهلع. شيء سحري، تندمح فيه مكونات الماغما الأولى الشاملة للكون: النار، الدماء، التراب، الغيوم. كأننا في بدايتنا، قبل الانفجار الكبير، «البيغ بانغ». هكذا حضر «التاريخ» خلال السنة أولى ثورة: صراحة أو مواربة، لبس ثوب المجهول الأكبر، القادر على كل شيء، الآمر الناهي… الذي يضاهي القدر في تقريره للمصائر.
ولكن، ما هو التاريخ؟ بعد كل هذا التبجيل؟ ما هي أوجهه؟ من أين يغرف طاقته الجبارة هذه؟ إذا كان المقصود بتعظيم التاريخ، الأعمال التي ولّدها، الحالات الجديدة التي خلقها، فهذا يعني بأن الذي قام بهذه الأعمال هو التاريخ؛ هو الذي انفجر بركانه، فنلنا من حِمَمه، ودُفعنا للاتجاه الذي تسلكه هذه الحِمَم. أي التاريخ بصفته كائناً منفصلاً عن إرادتنا ورغباتنا. وهذه رؤية للتاريخ تلغي أدوارنا.
والحال أن التاريخ، الحدث التاريخي الذي نحن بصدده الآن، هو من صناعة «النحن»، إرادة الجماعة وإجماعها على هدف واحد. هكذا بكل بساطة.
لو لم توجد هذه الإرادة، والوعي بهذه الإرادة، والرغبة الجارفة بتنفيذ هذه الإرادة، والبحث عن الوعي الكفيل بتنفيذها… لو لم تجتمع كل هذه الحوافز في لحظة معينة، لما كان هناك وجود للحدث التاريخي. هذه بداهة، لا يُتَصور أنها غابت عن العقول التي فكرت بالثورة العربية وبغيرها من الثورات. ولكنها ربما بقيت في الدهاليز الخلفية لهذه العقول؛ تغلب عليها تقليد لغوي، حاجة نفسية لتضخيم الدهشة، تعويضاً ربما عن نرجسية الكاتب التي خدشتها المباغتة، هو السبّاق، هو المفترض به التوقع والتنبوء. هو العالم بما لا تعلمه العامة… فيقول «التاريخ«.
غيره يقول «القدر». خذ مثلاً بيت التونسي ابو القاسم الشابي «إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر». إذا وضعتَ جانباً اختصاص القدر بصفته مقرّر الموت أو الحياة، وقد استثناها الشابي نفسه، وعياً منه بارتباطها به، فاقتصر على «الحياة»، أي إذا ما الشعب فكر بالحياة ورغب بها فإنه سينالها. لكن الأهم من ذلك أنه اشترط تحقيق هذه الحياة بالإرادة الجماعية: قال «إذا الشعب أراد»، وضع الشرطين لتحقيق الحدث التاريخي. لم يقل إذا أراد فلان من العظماء، أو إذا حلم فلان من المبدعين، أو إذا توقع آخر من المحللين المتوّجين… أو إذا أراد «التاريخ«.
يمكنك أن تستبدل كلمة «قدر» بكلمة «تاريخ»، وتكون أمام النتيجة نفسها: إن الذي يستجيب لأرادة الجماعة هو القدر أو التاريخ، لا فرق. هنا أيضاً يبدو القدر، مثل التاريخ، كائناً منفصلاً مستقلاً، يستجيب لإرادته وحده، فيصنعها. طبعاً هذا الكيان ليس موجوداً. إنه نوع من المجاز، أو الرمز، أو تفخيم للقول، أو حتى الشاعرية… إرث الرومنطيقية الحالمة التي تنتزع الزمن من الغيوم والضباب، فتستشعر في الثورات عناية الهية، أو تتوسلها.
حسناً، تقول، ولكن يبقى السؤال: ألا يستحق البشر، عندما تجتمع إرادتهم بوعيهم ويحقّقون عبرهما تحولات زلزالية، ثورية جذرية، تقلب الأشياء رأساً على عقب… أن نقول إنهم فعلوها؟ أن نعترف لهم بهذا الجميل؟ لماذا نحتاج الى التاريخ أو القدر، ننسب إليهما أعمالاً هي من صنع أيدينا؟ الى هذه الدرجة لا نحب بشريتنا، لا نحترمها، لا نثق بها، لا نعتزّ بها؟ ما الضير القول بأن من قاموا بهذا الزلزال هم نحن، وأن التاريخ لم يلعب في هذه اللحظات إلا دور الشاهد؟
أم أن التاريخ، أو القدر… أم، أيضاً، مجدّداً البطل، أو القائد الكاريزماتكي… هم الجديرون بأن يفعلوها؟ وقد رثى الكثيرون هذه الثورات بسبب غياب هذا البطل عن ساحاتها؟ فنفوا عنها التاريخية، بل حكموا عليها بالفشل… أو تساجلوا حول تسميتها: حراك، انتفاضة، احتجاجات… ولكن لا ثورة. الثورة تحتاج الى القائد البطل، الى العقيدة والتنظيم والخطة.
لدينا أمثلة في سؤال: ما الذي جعل الشعوب العربية وحدها تستجيب للثورة؟ ما الذي جعل شعوباً أخرى لا تستجيب، إلا قليلاً؟ الجغرافيا؟ الجيرة؟ لنا جيران آخرون لم يكونوا بهذا الصدد. ماذا إذن؟ وبهذه العفوية؟ نقول «وحدة عربية». حسناً. لماذا إذن أصابت الثورة الجمهوريات وأعفت نسبياً وبدرجات متفاوتة الملكيات؟ ببساطة لأن ظروف الجمهوريات متشابهة، بأنظمتها وشعوبها. ولكن هنا أيضاً وحدة عربية رغم الاختلاف مع الملكيات.
ماذا يعني ذلك؟ يعني أن وحدة الظروف واللغة والثقافة والاقتصاد، فضلاً عن التشابك والتداخل، ولّدوت وثبة أولى في قُطر واحد، أشعلت بنارها بقية الأقطار المتمتعة بالمعطيات نفسها. مرة أخرى، إنها وثبة جماعية، إرادة جماعية، وعي جماعي. ولكن في النهاية ليس التاريخ هو الذي صنعها، إنما الإرادة والوعي.
عند ابن خلدون، مؤرخ العرب، التاريخ يسير عندما تفسد إرادة حكام الحضر وعصبيتهم، بعد أن ينغمسون في ملذات السلطة ورخاوتها، وتكون في هذه الأثناء إرادة القبائل البدوية وعصبيتها، صاحبة العيش المفقر والقتالية الحادة، تتهيأ للانقضاض على العصبية القديمة المتداعية، وتحتل مكانها… هكذا كانت دائرة التاريخ تدور في تلك الأيام الغابرة. قانونها عصبيتان تتناوبان على السلطة، واحدة صاعدة والأخرى آيلة الى السقوط. واحدة صاحبة إرادة جماعية والأخرى صاحبة إرادة غارقة في سبات امتيازاتها وسلطتها يجمعها مكائد القصور وأحقادها، والأخرى مشحوذة الإرادة منصهرة شرعتها بالتضامن الأقصى. هل ما زال تاريخنا قائماً على الحركة والحركة المضادة إياهما؟
لم نعد بالبساطة التي كنا عليها أيام ابن خلدون. بكلام آخر، ما هي شروط تاريخنا؟ من يكون هذا التاريخ لو أصّرينا على كونه مجرد إرادتنا ووعينا الجماعيَين؟ ما الذي يحدد قواعد تبدل السلطة عندنا؟ قبل الثورة وبعدها؟ وهل ما كان قبل الثورة هو من صنع غيرنا وما صار بعدها هو من صنعنا، أو أنه في طريقه أن يكون من صنعنا؟ حسناً فعلنا بأننا صنعنا التاريخ بإزاحة الديكتاتوريات، فهل نتابع صناعته أم نتركه لغيرنا، أو للـ»تاريخ»؟ أسئلة مطروحة على كل الثورات العربية، تلك التي تحقّقت، أو التي هي في طريقها الى التحقُّق.
العالم تغير منذ ابن خلدون. صار أكثر تعقيداً، أكثر تركيباً وتشابكاً. بل هو تغير من كارل ماركس نفسه. لم نعد بالصفاء البدوي أو الطبقي… هل كنا كذلك على كل حال؟ الثورات فرص نادرة للمعرفة. وثورتنا الجارية اليوم تطرح علينا بإلحاح واجب معرفة من هم هؤلاء الذين تفاعلوا مع الإرادة الجماعية بالتغيير، بلوروها أو صدوها، فكانوا أيضاً جزءاً من المنظومة التي صنعت هذا التاريخ.
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية
“نوافذ” المستقبل