“الشفاف” – خاص
ما العلاقة بين قاروة زيت، وجهاز تلفزيون، وكيس إسمنت، وخلاطة، وزوج أحذية، وقنينة ماء، وآلة غسيل، وبوتوغاز، في مصر؟
الأرجح أن يكون الجيش المصري هو الذي ينتج كل السلع المذكورة، وهو من يقوم بتوزيعها!
إن الجيش المصري يقف على رأس إقتصاد موازٍ غير شفّاف لا يُعرف حجمه بدقّة، سوى أن الخبراء يقدّرونه برُبع الإقتصاد الوطني. وبعد سنة من اندلاع الثورة، فإن النشاطات الإقتصادية للجيش ما تزال بين “المحرّمات” التي تسمّم مرحلة الإنتقال نحو الديمقراطية، وهي بين أسباب تردّد الجيش في التخلي عن السلطة التي يمارسها المجلس الأعلى للقوات المسلحة بصورة مؤقتة منذ سقوط حسني مبارك. وبصورة خاصة، يركّز الجنرالات على حرمان البرلمان المقبل من حق مراقبة ميزانية الجيش، التي يذهب قسم كبير منهم لنشاطات غير عسكرية. وتؤمن تلك النشاطات مداخيل هائلة يستفيد منها العسكريون بعيداً عن أية رقابة برلمانية.
إن هذه المنطقة المحظورة، التي لم يتمكن أحد من المس بها خلال نصف قرن، هي التي جعلت جنرالات الجيش المصري يتبوّأون موقعاً مركزياً في الفساد النظام. فعلاوة على الاعداد الكبيرة للموظفين الخاملين في الإدارة العامة المتضخّمة، فإن العسكريين المصريين يتواجدون بكثرة في كل الهيئات الإدارية والإقتصادية. وإذا طلبت معداً مع مدير “نادي رياضي”، أو مع مدير مسبح عمومي، أو معمل دواجن، أو مصنع سكر، أو مع محافظ أي من ٢٩ محافظة في البلاد، فإنك ستجد نفسك أمام ضابط عجوز لا يتوقّف عن الحديث عن بطولاته ضد إسرائيل.
بدأت الملحمة الإقتصادية للجيش المصري في العام ١٩٧٩، غداة توقيع إتفاقات السلام مع الدولة العبرية. ولجزعها من فكرة أن السلام سيؤدي إلى خفض ميزانيات الجيش، ومن العواقب السياسية التي يمكن أن تنجم عن دخول ألوف الضباط المسرّحين إلى سوق العمل، فقد عمدت القيادة العسكرية إلى تحويل قسم كبير من المرافق الصناعية التابعة لها لإنتاج سلع إستهلاكية. وتحت إشراف هيئة تم إنشاؤها خصيصاً لهذا الغرض، هي “هيئة المشروعات القومية”، قامت وزارة الدفاع بتأسيس سلسلة من الشركات التجارية يتولى إدارتها عسكريون وتتمتع بوضعية إستثنائية: فهذه الشركات لا تدفع ضريبة، ولا تخضع لقانون الشركات ولا تتعرّض لأدى مساءلة حكومية.
الجنرالات استفادوا من موجة التخصيص
هكذا أمّن الجنرالات، الذي كان عبد الناصر قد وضعهم على رأس مؤسسات الدولة الكبرى منذ الستينات، مستقبلهم الإقتصادي في لحظة “الإنفتاح” الإقتصادي الذي شرع به الرئيس أنور السادات وترتّبت عليه موجة تخصيص للمؤسسات العامة. وبدأ العسكريون بتصنيع سلع متنوعة (غسّالات، ملابس، أدوية، ميكروسكوبات، أجهزة تدفئة، أبواب…). إن معظم هذه السلع الرديئة النوعية تُباع بصورة إلزامية للمجندين العاملين في قواعد عسكرية يتعذّر عليهم فيها الحصول على سلع منافسة. ولكن قسماً منها يجد طريقه إلى السوق، بفضل رشاوى يتم دفعها للموزعين.
وفي مطلع سنوات الثمانينات، أسّست هيئة المشروعات القومية سلسلة من مصانع الألبان، وانخرطت في مشروعات تربية الدواجن ومزارع الأسماك. وكان الهدف الرسمي لهذه النشاطات هو دفع الجيش للمشاركة في التنمية القومية وتأمين الإكتفاء الذاتي للقوات المسلحة. أما الواقع فهو أنالذين يعملون في المشروعات الزراعية هم مجندون شبان بائسون يقومون بجمع البيض أو بتوزيع الحبوب على آلات تفقيس الدواجن بدلاً من الخضوع لتدريب عسكري.
ويستفيد العسكريون من علاقاتهم السياسية للحصول على عقود مجزية. وهم يستغلون اليد العاملة المجانية التي يمثلها المجنّدون في مصانع لا تخضع لحقوق إنشاء نقابات أو حتى لقانون العمل. وهذا ما يجعل شركاتهم مزدهرة. ويؤمن الجيش ١٨ بالمئة من إنتاج البلاد الغذائي. وتصل الأرباح إلى مليارات الدولارات. وشكلت هذه المداخيل نعمةً في سنوات التسعينات، حينما أدى الحظر المفروض على العراق إلى حرمان الجيش من عائدات صادراته العسكرية للعراق أولاً ثم لبلدان الخليج التي صارت تشتري معداتها من الولايات المتحدة بصورة متزايدة.
لكن الجنرالات والضباط المتوسّطي الرتب لم يستفيدوا في أية حقبة كما استفادوا في عهد حسني مبارك، بفضل سياسة “التخصيص” التي طبّقها نظامه. وبين العام ٢٠٠٤ والعام ٢٠١١، حصل العسكريون على المراكز الإدارية في الشركات الإستراتيجية التي تم تخصيصها (المرافق المرفأية، وورش إنشاء السفن، والطيران، والبناء).
في الوقت نفسه، عمد العسكريون إلى التلاعب بالقانون الذي يسمح لهم بوضع اليد على الاراضي من أجل الدفاع عن الوطن. فعمدوا إلى تأسيس مشروعات عقارية وسياحية على الشواطئ، عبر بيع أراضيهم لمقاولين كانوا يكفلون لهم حصتهم من الأرباح في المشروعات السياحية الكبرى.
ووفقاً للباحث الأميركي، “روبرت سبرنغبورغ (Robert Springborg)
المتخصّص بالجيش المصري، فإن الحمى الإقتصادية التي انتابت الجيش المصري بلغت حدّاً أثّر في
مهماته الدفاعية.
وفقد الجيش المصري الكثير من قدراته العملياتية بسبب ذلك.
إن الجنود المصريين الذين يتم استخدامهم في المصانع العسكرية بدلاً من تدريبهم على التعامل مع
أسلحتهم، باتوا غير قادرين على استخدام أسلحتهم مع أنها أسلحة حديثة. بل إن الأسلحة التي قدّمتها الولايات المتحدة، مثل مقاتلات “إف-١٦” ودبابات “إم ١ي ١” لا تحظى بصيانة مناسبة. ويتنعّم اكبار الضباط، الذين يستفيدون من مزايا عينية كثيرة، في شققهم الفخمة التي تقع ضمن “مجمّعات” مخصصة لهم، مثل “مدينة نصر” في القاهرة، حيث تتوفّر لهم خدمات بأسعار مدعومة (حضانات للأطفال، ومدارس، وتعاونيات بأسعار مخفّضة).
ولكن الوضع ليس جذّاباً بالقدر نفسه بالنسبة للضباط الآخرين. وتكشف إحدى برقيات “ويكيليكس” التي حرّرها السفير الأميركي في القاهرة، في سبتمبر ٢٠٠٨، وبصورة فجّة، “هبوط القدرات التكتيكية والعملياتية للجيش المصري”، كما تتضمن شهادة لجنرال متقاعد يؤكد فيها أن رواتب العسكريين انخفضت إلى ما دون رواتب القطاع الخاص.
هل يمكن، بناءً على ما سبق، تصوّر حدوث صدع بين الضباط الشبّان والجنرالات العجائر الذين يدافعون عن امتيازاتهم؟
هذا ما يعتقده الباحث “روبرت سبرنغبورغ”. وفي مقابلة مع جريدة “ذي إندبندنت” المصرية في ١ ديسمبر ٢٠١١، فقد حذّر أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة من استطلاعات الرأي التي تثابر على إبراز الشعبية الواسعة التي يتمتع بها الجيش. وقال أن سلك الضباط الشبان يشعر بامتعاض متزايد من فساد رؤسائه، ومن إدارتهم القاسية لعملية الإنتقال السياسية. وقد قامت السلطات بمصادرة كل أعداد الجريدة غداة نشر المقابلة.
مراسلة “لوموند” في القاهرة: “كلير تالون”
إقرأ أيضاً:
Robert Springborg: Is Tantawi reading the public’s pulse correctly?
مثل “الباسداران”: الجيش المصري عملاق إقتصادي في الظلالعسكرة و الإستقلال الإقتصادي صورة عن نمو سلطة حصرية فعلية و مكتفية ذاتيا خلف الستار في كل زمن تضعف فيه القيادة السياسية. حيث يأخذ العسكر من السياسة شرعيتها العلنية وتأخذ منها السياسة تأمين الاستمرارية.وهذه الظاهرة أعتقد إنها كانت موجودة في زمن الانكشارية و الجيش التركي بعد مصطفى كمال وأيضا إبتداء من فترة المتوكل .كما نمت في اللجان الثوريةالليبيةو الباسدران الإيراني . ولكن في الحالتين الأخيرتين ، لم يكن هؤلاء يملكون حصرية السلطة كالإنكشارية و الجيش المصري الحالي. ما يحاول الجيش المصري الحالي هوأن يحافظ على وضعه السابق مستبدلا شرعية مبارك بشرعية أحزاب مدنية… قراءة المزيد ..