ثمة اعتقاد راسخ في بيئة «حزب الله» أنها وحدها عباءة أمينه العام قادرة على توحيد أي قرار داخل الحزب مهما كان صعباً أو كانت النتائج المترتبة عليه. هذا الاعتقاد حمل أحد قيادي الحزب إلى الخروج، عقب نقاشات داخلية حول الملف السوري جرت في حضرة الأمين العام، بانطباع أن الوجهة التي سيتخذها الحزب في مقبل الزمان باتت جلية. ذلك أن مطالعة السيد حسن نصرالله أمام الكوادر القيادية تضمنت كلاماً جازماً بأن الحزب لا يمكنه مطلقاً، مهما تطورت الأوضاع في سوريا، أن يكون في منزلة وسطية بين النظام والمعارضة، أقله من باب الوفاء، ذلك أن «نظام الأسد يدفع اليوم ثمن وقوفه معنا». وبدا لهذا القيادي أن كلام نصرالله ينطلق من بعد أخلاقي – عقائدي بحت، أكثر من أن يكون نتاج قراءة سياسية براغماتية، تأخذ في الاعتبار موازين القوى المستقبلية في المنطقة المتأتية عن «الربيع العربي»، وما قد تؤول إليه خسارة نظام الأسد من تداعيات على موقع الحزب وبيئته السياسية والمذهبية والاجتماعية.
تلك الوجهة السياسية الحاسمة، التي يُتوقع أن يبلورها نصرالله بوضوح في إطلالته لمناسبة أربعينية الإمام الحسين، أقلقت مراقبين سياسيين كانوا قد سمعوا قبل أشهر من القيادي نفسه قراءة مفادها أن الحزب سيوفّر للنظام كل دعم ممكن، بعيداً عن أي مغامرات انتحارية تهدّد ما حقّقه الحزب من مكتسبات. واستشعروا بأن تحولاً ما قد طرأ على موقف الحزب، من دون أن يتبينوا الحد الأقصى الذي يمكن أن يصل إليه في دعمه نظام الأسد.
على أن كلام نصرالله يجد تفسيراً له في قراءة قيادي آخر في الحزب، يُدرج ما يجري راهناً في إطار الصراع المحتدم بقوة على مستقبل النفوذ في المنطقة بين الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها وبين إيران وحلفائها، حيث أضحت سوريا معه اليوم مسرح المواجهة المفتوحة. وإذا كان هناك في «حزب الله» من رأى سابقاً بأن الحراك الشعبي في سوريا استند إلى مطالب فيها الكثير من المشروعية، فإن هؤلاء لا ينظرون راهناً إلى ما يجري سوى من منظار مؤامرة يُحرّكها الأميركيون وحلفاؤهم من العرب، وتحديداً السعودية، تهدف إلى تغيير المعادلة السياسية في المنطقة لمصلحة النهوض بالمشروع الأميركي للشرق الأوسط الجديد، الذي لم يصل إلى غاياته رغم المحطات التي مرّ بها، بدءاً من كامب ديفيد في سبعينات القرن الماضي، ومروراً باتفاق أوسلو في تسعيناته، وصولاً إلى غزو أفغانستان والعراق في أوائل الألفية الثانية.
ومن زاوية هذا الصراع، ينظر الحزب إلى أن ملفات المنطقة مترابطة بشكل وثيق، وأي حل في مكان، أو ملف، لا يمكن أن يحصل بمعزل عن المكان أو الملف الآخر. وهذه النظرة ليست بجديدة على أدبيات الحزب ومفاهيمه. فقناعة نصرالله - كما عبّر عنها في لقاء حزبي جرى في بدايات مسيرة «حزب الله» - أن «الحالة السياسية في لبنان ليست معزولة عن حالة المنطقة. بل هي جزء من الصراع في الأمة(…) وما دام الأعداء يخوضون صراعاً واحداً مع الأمة، فلا يجوز أن نجزّئ صراع الأمة مع أعدائها، إذ يجب أن تكون إدارة الأمة في صراعها واحدة، ومن خلال الإمام الولي الفقيه».
«تجربة المواجهة مع «اليونيفل» تكررت في عرسال ومصدر تواجد القاعدة الـ CIA»
«تجربة المواجهة مع «اليونيفل» تكررت في عرسال ومصدر تواجد القاعدة الـ CIA»
هذا الترابط لا يمنع أحد المعنيين في الحزب من إبداء ارتياحه أمنياً على المستوى الداخلي، من منطلق أن لا توازن أمنياً – عسكرياً بين الحزب وأي من القوى السياسية الأخرى، ومن منطلق أن الحزب موجود في السلطة اليوم، وعازم على إدارة اللعبة من خلال المؤسسات السياسية والأمنية. إلا أن ما يُؤرق هذا الفريق هو الحراك الذي تشهده المناطق الحدودية الشمالية، من عكار إلى وادي خالد، والمناطق الحدودية الشرقية حيث قفزت بلدة عرسال إلى واجهة الحدث الداخلي على خلفية الإشكال الذي وقع مع محاولة قوة أمنية اعتقال أحد العناصر بتهمة الانتماء إلى تنظيم القاعدة. إذ أن حيثيات ما جرى في عرسال لجهة اندفاعة الأهالي نحو تطويق القوة الأمنية بشرياً طرح عدة تساؤلات حول خطورة تكرار هذه الظاهرة، التي هي في واقع الحال نسخة طبق الأصل عن الظاهرة التي اتسم بها أداء الأهالي في القرى الجنوبية مع كل دورية أو مداهمة كانت تقوم بها قوات الطوارئ الدولية. وهو ما حوّل الأهالي دروعاً بشرية في وجه اليونيفل لمنعها من أداء مهامها الفعلية، تماماً كما حصل في عرسال حين أدى التجمهر الأهلي إلى انسحاب القوة الأمنية من دون تحقيق عملية الاعتقال المنشودة للشخص المطلوب، والتي أسرّ سفير دولة عربية لوزير حزبي أن مصدر «المعلومة» عن هذا المطلوب «القاعدي» يعود إلى وكالة الاستخبارات الأميركية، وأن القوة الأمنية لم يكن في حسابها أن هذه العملية قد تؤدي إلى المأزق الأمني والسياسي الذي حصل.
فالمعلومات المتداولة في الكواليس تُشير بقوة إلى أن «حزب الله» سيعمل على ممارسة الضغوط داخل الحكومة لدفع المؤسسات الأمنية للإمساك بالمناطق الحدودية، الأمر الذي سيضع الجيش في مواجهة شريحة سياسية ومناطقية تُعلن بوضوح مناهضتها للنظام السوري ومساندتها للثورة السورية، مع ما يمكن أن تؤدي إليه أي خطوة ناقصة من تصدع داخلي، يُعيد مشهد الحرب اللبنانية يوم تشـظّى الجيش اللبناني ولم تسلم منه البلاد والعباد.
rmowaffak@yahoo.com
* كاتبة لبنانية