الفيغارو
ثمة “تفصيل” لم يُخفَ على المراقبين: الصرح الديني الذي افتتحه أمير قطر، الشيخ حمد آل ثاني في “الدوحة” في ١٦ ديسمبر، يحمل ‘إسم “مسجد الإمام محمد عبد الوهاب”، مؤسّس الوهابية، وهي عقيدة إسلامية متشدّدة ولدت في الجارة السعودية. وتزامن الحدث مع إشارة أخرى موجّهة للشرائح الأكثر محافظة في الإمارة الغازيّة: حظر بيع الكحول في مطاعم “جزيرة اللؤلؤ”، وهي مشروع عقاري ضخم جداً بقيمة ٢٠ مليار دولار تم بناؤه لاستضافة وفود كأس العالم لكرة القدم في العام ٢٠٢٢. وحيث أنه لم يصدر أي تفسير رسمي، فقد وجد المراقبون أنفسهم مضطرّين للتكهّن حول الأسباب التي دفعت السلطات لفرض الحظر في منطقة ستُخصّص للأجانب. ويقول ديبلوماسي في “الدوحة”: “هنالك روايتان. أحدهما أن أشخاصاً نزلوا من أحد اليخوت بملابس غير مقبولة بعد أكثروا من شرب الكحول، والثانية أن شخصاً تجوّل في الشارع بلباس “بابا نويل”.
أيا كان الأمر، فالمؤكد هو أن الرسالة المزدوجة ترمي، كذلك، إلى طمأنة قطريين كثيرين يشعرون بالقلق من عواقب الوضعية النشطة جداً للديبلوماسية القطرية على استقرار دولتهم التي لا تزيد مساحتها على مساحة جزيرة “كورسيكا” الفرنسية. وبعد “القوة الناعمة” بفضل “قناة الجزيرة” فقد انتقلت الدوحة إلى “القوة القاسية” التي تمثّلب بإرسال مستشارين عسكريين وأسلحة للثوار الليبيين. يضاف إلى ذلك أن قطر تلعب اليوم دوراً متقدّماً في مساعي الإطاحة ببشّار الأسد. وفرضت الدوحة نفسها كلاعب لا يمكن تجاهله خلال الفترات الإنتقالية التي يعيشها الشرق الأوسط والمغرب العربي، حتى لو كان ذلك يمكن أن يعرّضها للمخاطر.
وفي ليبيا، كانت قطر الدول العربية الوحيدة- إلى جانب دولة الإمارات- التي شاركت في التدخل العسكري ضمن التحالف الدولي الذي تولّى “حلف شمال الأطلسي” تنسيق عملياته. وفي حين بدا الغربيون متردّدين في تسليح الثوار، فقد سارعت “الدوحة” لتدريب المقاتلين الليبيين قليلي الخبرة. وبموافقة أجهزة الإستخبارات الغربية، فقد تم إرسال ما لا يقل عن ٢٠ ألف طن من الأسلحة القطرية إلى ثوار ليبيا. ولكن معظم تلك الأسلحة أُرسِلَت في الواقع إلى الجماعات الإسلامية الليبية، عبر ضيف قطر السابق الشيخ “علي الصلابي”. وفي الوقت نفسه، استخدمت قطر حقائب الدولارات لاستمالة القبائل الليبية، في حين تم إدخال ألوف العسكريين إلى “طبرق” ثم إلى “جبل نفوسة”. ويمثل ذلك كله ثورة مصغّرة في إمارة لا يزيد كامل تعداد جيشها عن ١٥٠٠٠ جندي.
وبعد توقّف القتال في طرابلس، فإن قطر هي التي ترعى التحالف العسكري الجديد الذي يمسك البلاد. ولكن الليبيين، على غرار حلفائهم الغربيين، لم يعودوا يترددون في التنديد بنزوع قطر للتدخّل في شؤونهم الداخلية. ويقول ضابط في هيئة الأركان الفرنسية أن “القطريين يريدون إقحام أنفهم في كل شيء، حتى عبر اقتراحهم تمويل التعاون العسكري الذي عرضته بلدان مثل الأردن على الليبيين”. وتولّى الرئيس ساركوزي شخصياً توجيه تحذير بهذا المعنى إلى القطريين حينما استقبل أمير قطر في قصر الإليزيه في الخريف الماضي. ومن جهته، أعلن ممثل ليبيا لدى الأمم المتحدة، عبد الرحمن شلغم، ما معناه “لا نريد أن يهدر القطريون كل ما قدّموه لنا عبر عمليات تدخّل غير مقبولة”. وحذر شلغم من “غلبة مشاعر العظمة التي تستند إلى وهم أن القطريين يديرون شؤون المنطقة”. خصوصاً أن قطر شرعت مؤخراً بعملية معقدة لاستعادة أسلحتها من ليبيا بغية نقلها إلى سوريا، حيث يتحرّق القطريون لإنشاء “منطقة حرة” قرب “إدلب”، على غرار ما حدث في ليبيا. وذلك، حتى لو أدّى هذا المشروع إلى إثارة استياء الأتراك.
باختصار، هنالك توتّر بين قطر وشركائها، الذين بدأوا يتساءلون إذا كانت “الضفدعة تحسب نفسها بقرة”! وتغيّرت الصورة كثيرا عن الإنطباع الذي ولّدته تصرحيات الأمير حمد المطمئنة لجريدة “الفايننشال تايمز” في أكتوبر ٢٠١٠، حيثما قال “نحن نركز على التعليم، والصحة، وعلى الإستثمارات في بلدنا وفي الخارج. وهدفنا هو أن ننأى بأنفسنا عن النزاعات والمسائل العسكرية. ومع أننا مستعدون دائماً للعب دور الوسطاء في الأزمات، فنحن لا ننحاز لأي فريق”.
لماذا حدث هذا التغيير في السياسة القطرية؟ جواب الشيخ يوسف بن جبر، وهو أحد المقرّبين من رئيس الوزراء الشيخ حمد بن جاسم هو أنه “في ليبيا، كان القذافي يقتل شعبه. والوضع مماثل في سوريا. ولم يكن بوسعنا أن نبقى مكتوفي الأيدي. ولكن، من الخطأ الزعم بأننا نسيّر الجامعة العربية أو أننا أصبحنا متعجرفين. كل ما في الأمر هو أننا نعبّر عن أفكارنا بقوّة. ويتبعنا من يريد أن يتبعنا”.
رضا أميركي
إن عدداً من الديبلوماسيين العرب لا يصدّقون هذه المزاعم القطرية. ويقول مسؤول مغربي: “لم يسبق أن رأينا مثل هذا العنف في المواقف القطرية أثناء اجتماعات جامعة الدول العربية”. ويروي حادثة وقعت مؤخراً أثناء اجتماع في الرباط، حينما قام رئيس حكومة قطر بتوجيه تهديد إلى ممثّل الجزائر. الذي عارض فرض عقوبات على سوريا. وصاح الشيخ حمد بن جاسم أمام زملائه المذهولين: “أصمت، فدورك سيكون التالي على القائمة!”. وتنوي قطر، التي ترأس الجامعة العربية حتى آخر شهر مارس، أن تستفيد إلى أقصى حد من غياب أية قيادة عربية منافسة. ويقول وزير خارجية إسبانيا السابق، ميغيل أنجيل موراتينوس الذي حضر مؤتمراً في الدوحة مؤخراً، أن “السعودية مشلولة بسبب مرحلة إنتقال السلطة. ومصر ما زالت في حالة ثورة. ولا يجرؤ أي مسؤول عربي على مواجهة القطريين”.
وبعكس أغلب الدول العربية، التي تركّز على مشكلاتها الداخلية، فإن قطر التي تتمتّع بموارد هائلة بفضل غازها، لا تخشى نشوب ثورة من جانب شعبها الذي لا يزيد تعداده على ٢٠٠ ألف نسمة. يضاف إلى ذلك الخشية التي تثيرها “قناة الجزيرة”. ويعترف مسؤول عربي بـذلك قائلاً: “نشعر بالذعر من أن نصبح هدفاً لها”. وعلاوة على القوة الضاربة الإعلامية، فإن ديبلوماسية “دفتر الشيكات” تفيد أحياناً في التغلب على بعض التردّد في المواقف. ويقول مسؤول مغربي آخر: “في الماضي، قمنا بإغلاق مكتب الجزيرة في الرباط، حيث أننا كنا غالباً في حالة نزاع معهم. ولكن الأرجح أننا سنعيد فتح المكتب لأن الأمير اشترى أرضاً تبلغ مساحتها ٣٤٠٠٠ هكتاراً وسيوظف ٤ مليار دولار في برنامج سياحي بين الرباط والدار البيضاء كان مستثمرون عرب آخرون قد انسحبوا منه بسبب الأزمة. الواقع أننا بحاجة لأموال القطريين”.
ويكنّ معظم المسؤولين العرب قناعةً مفادها أن كل هذه التحركات القطرية ما كانت لتحصل لولا رضا الولايات المتحدة التي تضمن أمن قطر بفضل قاعدتها العسكرية التي تقع قرب الدوحة. ويقول الصحفي علي صبري أن “الأميركيين بحاجة إلى طرف وسيط للتعامل مع مرحلة ما بعد الثورات في العالم العربي”. بل وحتى أبعد من العالم العربي، حيث أن “الطالبان” قرّروا فتح مكتب تمثيلي في قطر بغية التفاوض مع الأميركيين.
أعداء جُدد
لقد باتت قطر، في الشرق الأوسط وفي منطقة المغرب، الراعي الرئيسي لإسلام سياسي أحرز لتوّه إنتصارات في الإنتخابات التشريعية في كل من تونس ومصر والمغرب. كما أنها تموّل حركة “حماس” علناً، وربما حركة “النهضة” في تونس، وحركة “الإخوان المسلمين” في مصر. وتعتقد الدوحة أنه ليس هنالك مبرّر للخوف من خطر أخضر.
وقد أعلن أمير قطر على “الجزيرة” في مطلع شهر سبتمبر أن “الإسلاميين المتطرفين الذين تكوّنت أفكارهم في ظل حكومات إستبدادية، يمكن أن يتطوّروا مع المشاركة في السلطة، إذا ما حقّقت الثورات وعودها بالديمقراطية والعدالة”. لكن السؤال هو: هل سيواصل الأصوليون الإستماع لنصائح أصدقائهم في الدوحة حينما يمسكون بأعنّة السلطة؟
وإذا كان المسؤولون القطريون يبدون متعجرفين أحياناً، فذلك لاعتقادهم أنهم كانوا على حق قبل سواهم. ويقول “سلمان الشيخ”، وهو مدير مكتب قطر لمؤسسة “بروكينغز” أنهم “فهموا أن مركز ثقل العالم العربي آخذ بالإنتقال باتججاه الإسلام المحافظ. وقد ثبت أن سياستهم القائمة على محاورة المنشقين الإسلاميين أو احتضانهم كانت رابحة”. ويضيف، محذّرا: “ولكنهم، اليوم، سيكون أكثر حصافة إذا ما فضّلوا الإئتلافات الحكومية في ليبيا ومصر على حكومات من لون واحد”.
وفي نهاية شهر سبتمبر، لم ترحّب سلطات تونس برغبة الأمير في زيارة البلاد لحضور الجلسة الإفتتاحية لـ”الجمعية التأسيسية”. ووصلت الأمور إلى حدّ حرق صور الشيخ حمد في غزة. وحتى الإسرائيليون، الذين سأموا المناورات القطرية غير الواضحة الأهداف، فقد رفضوا عرضاً قطرياً لإعادة فتح مكتبهم الديبلوماسي في الدوحة. وحول هذه النقطة يبتسم الشيخ جبر قائلاً: “هل تعتقد أنه كان بوسعنا أن نفعل شيئاً أكثر من ذلك؟” ومن جهة أخرى، وعلاوة على القبائل المحافظة، فإن السياسات التدخّلية التي تمارسها قطر حالياً تثير قلق أعضاء في العائلة الحاكمة. ويقول رجل أعمال مرموق في قطر أن “عدداً من أبناء الأمير يتذمّرون لاعتقادهم بأن قطر ذهبت بعيداً في سياساتها. وهم يخشون أن يتحوّلوا لأهداف في بلدان عربية بينها لبنان، الذي يتردّدون عليه”.
ولي العهد متحفّظ على سياسات والده!
وإذا كانت علاقاتهم الحميمة مع الإسلاميين المتطرفين قد وفّرت لهم حماية من هجمات “القاعدة” الإرهابية، فإن عدوانيتهم خلقت لهم أعداء جُدُد يشعرون بالحذر إزاءهم. ولذلك يسعى ولي العهد، الأمير “تميم”، الذي قدّمه والده في قمّة دول الخليج، لتجهيز طائرة “إيرباص” التي يملكها بمعدات تقيها من هجمات صواريخ أرض-جو، من نوع الصواريخ التي اختفت في الأشهر الأخيرة.. في ليبيا بالذات. وعلى المدى البعيد، فمن المؤكد أن الأمير المقبل يخشى من أن يجد نفسه مضطراً للتعامل مع العواقب السلبية لحب الظهور القطري الذي يعتبره هو محفوفاً بالمخاطر.
مراسل الفيغارو جورج مالبرونو