لعل من أمتع وأفكه ما قرأت مؤخرا هو ما كتبه الصحافي الإيطالي “فرانسيسكو سيتشي” في صحيفة “إيل سوليه 24 ساعة” اليومية إستنادا إلى رسالة متداولة لا يـُعرف مصدرها أو مدى صدقيتـــها، لكنها أشبه ما تكون برسالة إفتراضيــــــــــة وجهها ديكتاتور كوريا الشمالية “شمس القرن الحادي والعشرين/ الزعيم المبجل “كيم إيل جونغ” إلى “سيلفيو بيرلسكوني” قبل إسبوع واحد من تخلي الأخير عن منصبه كرئيس للحكومة الإيطالية.
تبدأ الرسالة المذكورة بعبارات الثناء والمديح لـ”بيرلسكوني”، تليها عبارات توحي بحسد الزعيم الكوري من نظيره الإيطالي لأن الأخير نجح في تحقيق ما لم يوفق هو فيه. لكن ما هو هذا الشيء الذي نجح فيه الثاني وفشل فيه الأول يا ترى؟ لا تتعجلوا! الأمر لا يتعلق بإنجاز حضاري أو تنموي أو إنساني مثلما قد يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى، فذلك آخر ما يفكر فيه الرفيق “كيم”، وإنما شيء مختلف ستعرفونه سريعا!
يقول “كيم” مخاطبا “بيرلسكوني”: صحيح أن بلادكم تبدو اليوم ضعيفة إقتصاديا، لكن حسبكم أنكم وضعتم اللِبنات الأولى التي ستحرق إقتصاد العالم الرأسمالي، وستهوي به إلى الدرك الأسفل، وستقضي على أحد مرتكزاته المتمثلة في عملة “اليورو”.
ويضيف قائلا: “إن ما فعلتموه سوف يشعل الشمعة الأولى في طريق إنطلاق موجة الكساد العالمي الثاني، الذي لن تنجو منه الولايات المتحدة الإمريكية، خصوصا مع تراجع ناتجها القومي وضخامة مديونيتها وما يعانيه مجتمعها من بطالة وفقر وتضخم في الأسعار. قد لا تكون نتائج وتداعيات ما فعلتموه واضحة الآن، غير أن دور بلادكم كثالث إقتصاد في أوروبا، وما تتمتع به من مكانة عالمية سيفضيان إلى خلق مشاكل للعالم بأسره”. هذه المشاكل ستكتوي بها الدول النامية حتما، لكن ذلك لا يهم لأننا نجيد فنون الصبر والتكيف مع جميع الأوضاع، ثم لأنه من الأفضل أن نقاسي بعض الوقت بدلا من أن نتيح للرأسمالية الشريرة أن تتكالب علينا كل الوقت، وتحشد طاقاتها من أجل معاقبة هذا النظام أو ذاك”.
وفي مكان آخر من رسالته الإفتراضية يقول حاكم بيونغيانغ الستاليني، الذي لايزال يذيق شعبه ويلات الفقر والحرمان والمجاعة بقبضته الحديدية، وغروره وسياساته الرعناء: “بعد ما جرى في اليونان الصغيرة من مشاكل إقتصادية وفوضى سياسية على يد رئيس حكومتها المستقيل جورج باباندريو، فإن أمام إيطاليا الكبيرة فرصة نادرة لكي تبتز جاراتها الأوروبيات والمجتمع الدولي (أي كما فعل هو مع كوريا الجنوبية واليابان والصين والولايات المتحدة الإمريكية)”.
بل أن الزعيم الكوري الشمالي لم يكتف بالإشارة المبطنة، وإنما راح يستطرد حول الشق الأخير، موضحا: “لقد حاولتُ على مدى عقود من الزمن أن أبتز اليابانيين والكوريين الجنوبيين والصينيين والإمريكان طالبا منهم أن يمنحوني المساعدات المالية والمعونات الإقتصادية مقابل قيامي بالتخلص من ترسانة صواريخي الباليستية الموجهة نحو الأراضي اليابانية، وإيقاف برامجي النووية الهادفة لمواجهة أية تهديدات عسكرية من واشنطون أو سيئول، وتخليص شعبي من المجاعة والعوز، وإلتزامي بالقوانين والأعراف والمعاهدات الدولية، وإنفتاحي إقتصاديا على العالم الخارجي، لكني للأسف لم أوفق في أي مسعى من تلك المساعي. وهو ما شعرتُ معه باليأس والقنوط، والخوف من مؤامراة خارجية قد تطيح بنظام ورثته عن أبي الذي لولا نضاله وكفاحه الطويلين لما وُجدتْ جمهورية كوريا الشمالية الديمقراطية الإشتراكية أصلا. لكنكم يا فخامة الرئيس نجحتم في ما أخفقت فيه بسبب ظروف بلادكم المختلفة. وسوف تنجحون أكثر، وستحصلون على كل ما تريده إيطاليا، لو تتمسكون بالسلطة، كما فعلت أنا في كوريا الديمقراطية، و لو تصمون آذانكم عن دعوات الإستقالة والتغيير، وتواصلون إبتزاز الإمريكيين وشركائكم في الإتحاد الأوروبي.
ويمضي “كيم إيل جونغ” قائلا: “إن الولايات المتحدة ودول الإتحاد الأوروبي تحملكم يا فخامة الرئيس مسئولية ما حدث، وتطالبكم بشد الأحزمة وإصلاح نظامكم المالي والضريبي، وغير ذلك من المطالب التي تستبيح سيادة بلدكم. والسؤال هو لماذا لم تفعل تلك القوى ذلك من قبل، أي قبل أن تتعثر وتسقط جارتكم اليونانية في وحول الفوضى؟. إنهم يا صديقي يريدونكم أن تتخلوا عن السلطة كثمن للحفاظ على مصالح دولهم وأسواقهم وشركاتهم. ثم لماذا لم يتم تحذيركم مبكرا، إن كانت سياسات حكومتكم المالية والإقتصادية خاطئة كما يزعمون؟ إنهم تعمدوا فعل ذلك من أجل تقسيم مجتمعكم الرائع، ودق إسفين بين مكوناته، وتحويل بلادكم الجميلة إلى مجرد ألعوبة في يد التحالف الألماني – الفرنسي، وهذا ما لم تنتبهوا له فخامتكم مبكرا، وإلا كان بإمكانكم الدعوة إلى إنتخابات ديمقراطية عامة أو إستفتاء شعبي عام كي تستمعوا بأنفسكم إلى صوت الإيطاليين الرافض للوصاية والهيمنة الأوروبية ممثلة في ألمانيا وفرنسا اللتين لا ترغبان في رؤية إيطاليا قوية”.
ويواصل ديكتاتور بيونغيانغ كلامه في السياق نفسه فيقول: “إنهم- أي الألمان والفرنسيون- يهددونكم بالطرد من الإتحاد الأوروبي إذا لم تستجيبوا لمطالبهم وإشتراطاتهم. فليفعلوا ذلك، ولتصبروا أنتم لبعض الوقت على محنة التضخم والكساد وسقوط الإقتصاد الإيطالي. ذلك أن المهم هو ما سيحدث في اليوم التالي حينما تنهار اسعار اليورو التي ستصيب إقتصادياتهم في مقتل. وقتها تستطيعون أنتم وشعبكم العودة لتصدر المشهد الأوروبي، مستعينين بإمكانياتكم ومواردكم الذاتية الكثيرة، وخبرة شعبكم العظيم في تحويل الهزيمة إلى نصر وتحويل الركام إلى بناء على نحو مافعله بــُعيد الحرب الكونية الثانية.
ولم ينس الزعيم الكوري “الملهم” قبل أن يختتم رسالته المحتوية على الكثير من الخرافات والحديث الفارغ، الذي لا يصلح لمخاطبة زعيم لدولة ديمقراطية ذات إقتصاد رأسمالي ومصلحة أكيدة في العمل الجماعي مع شركائها الأوروبيات، أن يـُحرّض “بيرلسكوني” على نظيريته الألمانية ونظيره الفرنسي، قائلا: “دعْ إنجيلا ميركل ونيقولا ساركوزي يفعلان ما بدا لهما، ودعْهما يمارسان صنوف الغطرسة تجاهكم وتجاه بلدكم، مثلما فعل الأمريكيون واليابانيون مع الشعب الكوري، ودعْ أجهزتهما ينقبان وينشران ما يمس حياتكم الخاصة، مثلما يفعل الإعلام الغربي والياباني والكوري الجنوبي معي حينما يتحدثون عن حبي للهو والرفاهية والنساء. فالعبرة بالنتائج، والنتائج توحي بأنكم ستخرجون من محنتكم أنقى وجها وأكثر شعبية. لذا أحذركم، وأقول لكم إياكم إياكم والرضوخ لمطالب شركائكم الأوروبيين أو حليفكم الإمريكي. وأياكم إياكم التفكير في ترك السلطة، خصوصا وأنه ليس من بديل مناسب لكم وسط زملائكم من ساسة ورموز الأحزاب الإيطالية الذين يواجهون مشاكل شخصية أكثر من تلك التي تواجهكم. ورئيس جمهوريتكم “جورجيو نابوليتانو” أول من يعرف هذه الحقيقة!
حقا، لقد ظلمنا الرفيق “كيم” طويلا، وإتهمناه بالغباء والسطحية، لكنه ها هو يطل علينا عبر هذه الرسالة قادرا على إسداء النصح، وقراءة المستقبل، ملما بتاريخ إيطاليا وأوضاعها، بل ويعرف إسم رئيس جمهوريتها أيضا. كم سياسي أمريكي يا ترى يحفظ إسم رئيس الجمهورية الإيطالية؟
ملاحظة: هذا المقال كُـتب قبل وفاة الرفيق كيم
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
@batelco.com.bh
رسالة إفتراضية من الرفيق “كيم” إلى “بيرلسكوني”
طبعا، المهم في هذا الهراء المنشور، هو أن الغرب بات يستخدم قاذوراته السياسية لشتم القادة الآخرين.