ليست القوى اليسارية هي وحدها من تفاجأ بربيع الثورات العربية التي حدثت وتحدث في بلداننا، إنما كل القوى والأحزاب الأخرى تقريباً. وكانت الأمور قد استقرت على ركود قاتل تتلاعب به أنظمة مستبدة، وتحاول سدّ تصدعاته.
ومع درجات الاختلاف والتباين من بلد إلى آخر فقد تمثَّلت القواسم المشتركة في البلدان العربية بغياب الحريات والمشاركة السياسية، والنزوع إلى الهجرة، والمؤشرات المنخفضة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية، والميل للتقوقع في إطار التجمعات الأهلية ما قبل الوطنية. وشكَّلت هذه العوامل كلها عوامل كامنة عملت على إشعال فتيل الثورات في البلدان العربية، بدءاً من تونس، وليس انتهاءً بسوريا.
في هذه الأثناء، كانت معظم القوى الشيوعية التي تكيَّفت مع النموذج السوفييتي الإشكالي، وتاهت بعد انهياره عام 1991، تتخبط في حيرتها التاريخية؛ فقد اتجه بعضها صوب الليبرالية السياسية، واتجه قسم آخر صوب التيارات الدينية، كتعبير عن خيبة أملٍ عميقة، بينما بقي فريق ثالث على حاله، عصياً على التغيير، بعد أن تحكَّمت بتلابيبه الأيديولوجيا.
ولم يكن واقع القوى اليسارية الأخرى أفضل حالاً، وقد تبنَّى بعضها الديمقراطية، بينما التحق بعض رموزها بأنظمة الاستبداد ينظِّرون لها ويشاركونها ديماغوجيا الصراع ضد القوى الخارجية المفترضة، بينما تعيث تلك الأنظمة فساداً وتنكيلاً في بلدانها لدرجة يخجل منها أي استعمار أو عدو.
وهكذا فقد تحول مفهوم اليسار من كونه ملازماً للتقدم إلى تيارات معزولة عن مجتمعاتها بدرجة كبيرة، تلك المجتمعات التي التجأت إلى الملاذ الديني إلى هذه الدرجة أو تلك، هرباً من سطوة الاستبداد، وترافق ذلك مع صعود “البن لادنية” في العقدين الأخيرين من القرن الماضي. ولعبت بعض القوى اليسارية دوراً رجعياً عندما دافعت عن أنظمة الاستبداد، أو سكتت عنها، بسبب تخوفها من المد الديني الذي كان وليد اليأس وانسداد الآفاق.
وعندما تفجَّرت ثورات الربيع العربي، التحقت القوى اليسارية بصورة متواضعة بهذه الثورات، مقارنةً بالقوى الدينية، مع أن واقع الثورات قد أفرز قوى جديدة لا يمكن تصنيفها حتى الآن في إطار المجال السياسي التقليدي، واصطبغت القوى الدينية فيها بنوع من الليبرالية الوطنية، وصرنا نسمع خطابات دينية تتحدث عن الديمقراطية والدولة المدنية، كما في سوريا خاصةً، بخلاف النظرة الإسلامية التقليدية التي تتخطَّى الوطنية والقومية، وتميل للانضواء في إطار الأمة الإسلامية.
وإذا كان الاستبداد قد وزَّع قمعه على الجميع، فإنه أبقى على تحالفات مع قوى دينية أدمنت ممالأة السلطات والعيش على موائدها، بينما استفادت معظم القوى الدينية الأخرى من حواضنها الحزبية والأهلية التي تبقي على حد أدنى من العلاقات المنظمة يمكن البناء عليها عند اللزوم، واستثمرتها في الثورة السورية مثلاً، فمكنتها من الحصول على ملاذات آمنة في أحيائها، بعد أن حاصرها النظام بالنار، ومنع بقية القوى الاجتماعية من التواصل معها.
فتحت الثورات الآفاق نحو الحرية، وتقدمت الشعوب للتعبير عن نفسها، ولحقت بها القوى الحزبية. وكونها شعبية وغير منظمة، فقد تصبح الثورات مطية لقوى انتهازية تستغل شعاراتها، والميل للتطرف يتناسب طرداً مع درجة القمع، وبالتالي يمكن الحديث حتى الآن عن نموذجين: النموذج التونسي-المصري والنموذج الليبي-السوري، بينما تُعدُّ التجربة اليمنية حالةً بينيةً. وفي كل الأحوال فقد مكَّنت هذه الثورات الجميع من التعبير عن رأيهم ورفع صوتهم.
هل يمكن أن تلتقط قوى اليسار والديمقراطية هذه اللحظة التاريخية من أجل استعادة مفهوم اليسار الملازم لمفهوم التقدم، بكل ما تعنيه هذه الكلمة في مجالات الاقتصاد والسياسة والحريات، وتقطع نهائياً مع الأنظمة والسياسات الشمولية؟ على الإجابة عن هذا السؤال يتوقف دور وأهمية مشاركة قوى اليسار في التطورات المتلاحقة في المنطقة.
وبإمكان الأحزاب اليسارية الاستفادة من الدفع الذي قدمته الثورات في استعادة علاقاتها الاجتماعية، والعمل على تحقيق مصالح الفئات التي تمثلها، ومصالح المجتمع ككل. وهذا مرهون باعتمادها ديناميكية جديدة تبتعد كل البعد عن طريقة التنظيم الكلاسيكية المركزية الديمقراطية، واستنادها على العمل الحر والتفاعل والتنوع والسياسة الاجتماعية المرنة التي تأخذ بعين الاعتبار التداخلات والتحولات الطبقية في ظروف التقدم التكنولوجي، والقيام بالتحالفات الضرورية التي تؤمن لها المشاركة في الحكم.
ويساعد تجدُّد الدور اليساري على استعادة التوازن المطلوب في المجتمع، والوقوف في وجه قوى الاستغلال على اختلافها، والتعبير عن مصالح الفئات الاجتماعية ذات المصلحة، ومنافسة القوى الدينية في هذا المضمار.
إن البرامج الاجتماعية الطموحة التي يمكن أن تشارك فيها القوى اليسارية، مع المحافظة على حرية الحركة السياسية والعمل الاجتماعي، تعزز روح التحالف مع بقية القوى الديمقراطية. وإن النقابات والجمعيات وحركات المجتمع المدني قد تكون مجالات رحبة للعمل الخدمي الذي يقود النجاح فيه لتحقيق انجازات سياسية وانتخابية تعزز من دور اليسار وتستعيد الثقة شبه المفقودة به.
ارتبط العمل اليساري منذ وقت طويل بتحرر المرأة ومشاركتها، ومن الضروري استعادة دور المرأة هذا، ما يؤمن تحرير الطاقة النسوية التي تحقق النجاح في كثير من النشاطات الاجتماعية التنظيمية، وذات الطابع الإنساني والتشاركي. وشاركت المرأة في كل الثورات العربية بدرجات مختلفة، ولم يحد من مشاركتها سوى زيادة درجة القمع، فكانت تلك المشاركة جلية في اليمن، حيث أثبتت المرأة قدرتها على تجاوز الأطر الاجتماعية المتخلفة والضيقة إلى رحابة الحياة وتنوعها، متجاوزة الكثير من العوائق.
وإلى جانب النساء فإن دور الشباب عموماً كان وسيبقى حيوياً في إعطاء الزخم والحركية في النشاطات الحزبية والخدمية على اختلافها، ويجدد الدم في عروق حركات اليسار التي فعل بها التاريخ ما فعل.
تفرض الشروط الديمقراطية على جميع القوى درجة عالية من التنافس لتقديم الخدمات الاجتماعية التي تطرحها في برامجها قُبيل الانتخابات، وبهذا الخصوص ستحظى جميع الأحزاب بفرصة لإثبات دورها. وبسبب ربط الكثير من الأنظمة الدكتاتورية العربية بالعلمانية، فقد اكتسب هذا المصطلح معنىً سيئاً ومعاديا للدين عند عامة الناس، بخلاف الحقيقة، وسيفضي ذلك إلى بروز قوى الإسلام السياسي في الفترة التي تعقب الثورات وتعزيز دورها، ليتقلص هذا الدور لاحقاً، ويعود إلى حجمه الحقيقي، عندما يصبح التنافس على تقديم الخدمات الاجتماعية والسياسات الوطنية هو محرك النشاط الحزبي.
وككل نشاط اجتماعي أو سياسي، يستفيد العمل الحزبي من التقنيات الحديثة، بما فيها وسائل الاتصال ومواقع التواصل الاجتماعي من أجل سرعة تبادل الخبرات الشخصية، ونشر المبادرات الفردية على نطاق واسع، ما يجعل الحزب، أي حزب، كمجموعة من الطاقات الحرة المتجددة، بعيدا عن المركزية والأوامرية، وفي ظروف تسودها الشفافية والديمقراطية.
* دمشق
هل تستعيد القوى اليسارية دورها المفترض بفضل الثورات العربية؟
I agree completely with the comtent of this great articls,in particular in the circumstances of the Syrian Revolution in which all the spectrum of the people,from the far left to the far right are involved in it.No one can (in this stage )fix the precentage of every political spectra representing in it.