فى عام 594 ق.م حكم “صولون” أثينا فى أُوار نار مضطربة بسبب حروب الطبقات، فمُنح سلطة مطلقة لإخماد نار هذه الحرب وإعادة الاستقرار إلى دولة المدينة (Polis state). ولجأ “صولون” إلى القانون كأداة سريعة يعيد بها تنظيم السلطة وتوزيع الثروات، فاستغله فى ذلك الغرض استغلالا تاما، يشير بوضوح إلى الطريقة التى يكون بها القانون – كأداة فى يد الحاكم أو السلطة المسيطرة – سبيلا للتأثير فى الناس ولتغيير حركة القوانين الطبيعية والاقتصادية، أو تعديل مسارها.
وللتدليل على ذلك تشير الدراسة إلى عمل اقتصادى مهم، يكاد يكون أول عمل معروف فى التاريخ يستغل القانون لإحداث تعديلات اقتصادية، ومن ثم إجتماعية.
ذلك أن “صولون” – كما يقول أرسطو وبلوتارك – خفّض سعر العملة، بقانون وليس عن طريق إصلاح متئد للنظام الإقتصادى؛ فجعل قيمة العملة الرسمية (“المينا” mena) مائة “دراخمة” بعد أن كانت قيمتها من قبل سبعين دراخمة.. وبهذا أصبحت قيمة العملة التي تـُدفع فى وفاء الديون وفي المبادلات أقل مما كانت من قبل، وإن كان العدد واحداً. وكان فى هذا نفع كبير للذين يريدون أن يسددوا ديونهم، ولم يكن فيها خسارة على الدائنين.
هذا الإستخدام للقانون كأداة لإحداث تأثير سريع وفعّال فى النظام السياسى أو الإقتصادى أو الإجتماعى، ربما يبدأ استهدافاً لتحقيق الصوالح العامة وخدمة الشعوب، لكنه يصبح – فى حالات كثيرة – استغلالاً محّققاً لصالح الحاكم أو جماعة السلطة الحاكمة، أو الحزب الذى يساندها أو يؤيده (أى يؤيد الحاكم).
تزايدت القوانين فى أثينا بما اقتضى جمعها وتدوينها. ولما بدأ التدوين، ووضع قواعد جديدة، أصبحت العادات المقدسة (Thesmos) قوانينَ من وضع الإنسان تسمى الناموس (Nomos). وكان لفظ المشرعين (Thesmothetai) يطلق فى أثينا أيام باركليز (463 – 431 ق.م) على ستة أشخاص كانت مهمتهم تسجيل القوانين وتفسيرها لاتباعها. وكان هؤلاء فى أيام أرسطو يتولون رياسة المحاكم.
وفى الكتب القانونية تحرّرَ القانون من سيطرة رجال الدين، وازدادت على مر الأيام صبغته الدنيوية، وأصبحت نية الفاعل ذات شأن كبير فى الحكم على فعله، بعد أن كان هذا الفعل ينسب إلى قدر محتوم. وحلـّت التبعية الفردية محل الالتزامات العائلية، أي إنه قد أصبح ثـَمّ اعتبار للذات والشخص بعد أن كان الإعتبار للجماعة ككل. واسْتـُبدل بالإنتقام الفردى إنزالُ العقاب على يد سلطة المدينة.
لما كانت حضارة روما قد نهلت الكثير من حضارة الإغريق وكانت هذه قد أخذت من الحضارة المصرية، فإنه مما لا شك فيه أن توجد أسس مشتركة بين هذه الحضارات جميعا، وبمعنى آخر، لابد أن تكون روح مصر تسربت إلى روح الرومان – على نحوٍ أو آخر – عبْر اليونان أساسا، وعبْر غيرها كذلك.
من هذا أن فكرة “ماعت” ربة الحق والعدل والاستقامة والنظام، قد صارت عند الإغريق تميس (Themis)، وأصبحت عند الرومان Jus. فهذا اللفظ اللاتيني Jus يدل على معانى كثيرة منها الحق والعدالة والاستقامة.
ch.lebaigue,dictionnaire latin – francias))
وقد تطور اللفظ – فى اللغة اللاتينية (لغة أهل روما) – كما تطور لفظ “ماعت” فى اللغة المصرية ولفظ “تميس” فى اللغة اليونانية، من معنى الحق والعدل والاستقامة إلى عدة معانى منها: قواعد أو شريعة، وأصبح يُطلق على مجموعة القوانين المكتوبة والغير مكتوبة، التى تكوّن نظاما قانونيا معينا. ومفاد ذلك أن لفظ Jus اللاتينى بدأ بمعنى الحق والعدل والاستقامة، ثم أصبح يعني الطريق (أو النهج أو السبيل) للحق والعدل والاستقامة، أو للقواعد المكونة لها، ثم انتهى إلى أن يصبح كل القواعد المكونة لنظام قانونى معين (وهو نفس التطور الذى حدث للفظ “توراة” فى اليهودية، ولفظ “شريعة” فى الفقه الاسلامى).
وإلى جانب لفظ Jus اللاتينى، يوجد لفظ Lex، بمعنى التشريع أو القانون المكتوب.
وقد كان القانون الرومانى القديم مُستمدا من القواعد والعادات الكهنوتية، فكان بذلك فرعا من الدين يغمره جو من الطقوس الرهيبة والحدود المقدسة. وكان هذا القانون أوامر تصدر وقواعد تـُطبّق. ولم يكن يحدد العلاقة بين الناس بعضهم بعضا فحسب، بل كان يحدد فوق ذلك العلاقة بين الأرباب والناس. وكانت الجريمة سببا فى اضطراب هذه العلاقة وفى تعكير صفو الأرباب. وكان الغرض من القانون ومن العقاب – من الوجهة النظرية – هو الإحتفاظ بهذه العلاقات سليمة أو إعادتها هي والسلام، إذا ما اضطربا أو تعكر صفوهما.
وكان الكهنة هم الذين يُعلنون ما هو حق وما هو باطل (fas et nefas) إذ هم وحدهم الذين كانوا يعرفون القوانين والقواعد التى لا يكاد يمكن عمل شىء مشروع إلا باتباعها. وكان الكهنة فى روما هم المستشارون القانونيون وهم أول من يبدى الرأى (Responsa) فى مهام الأمور. وكانت القوانين تُسجل فى كتبهم، وكانوا يحتفظون بهذه الكتب بعيدا عن متناول العامة. وبلغ من حرصهم عليها أن أتـُّهموا فى بعض الأحيان بتغيير نـُصوص القوانين لكى تتفق مع أهداف السلطة أو أغراض الأشراف أو مصالح طبقتهم (طبقة الكهانة). ثم بدأ كل ذلك يتغير عندما تم وضع ما يُسَمّى بقانون الألواح الإثني عشر (لأنه دُوِّن على إثني عشر لوحاً)، ذلك أن العامة وجدوا أن القواعد العرفية والمبادىء القانونية يحوطها كثير من الشك، وأن رجال الدين بإحتكارهم لعلم القانون كانوا يفسرون المبادىء لصالح طبقتهم أو لصالح الأشراف أو لأغراض السلطة، ومن ثم اجتمعت مطالب العامة على وضع مجموعة لتلك القواعد تكون واضحة من جانب، وميّسرة من جانب آخر. وبعد كفاح مرير ظهر قانون الألواح الاثنى عشر عام 450 ق.م.
جاء فى مدونة جستنيان (533م) أن القانون الطبيعى (فطرة الطبيعة فى الانسان) هو السنن التى ألهمتها الطبيعة لجميع الكائنات الحية… إنه ليس مقصورا على الجنس البشرى، بل هو سار فى جميع الأحياء، مما يُحّوم فى الهواء، أو يدبّ فى الأرض أو يسبح فى الماء. من هذا القانون سُنة اتحاد الذكر بالانثى مما اصطلح على تسميته بالزواج. ومنه أيضا سنة التناسل وتربية الأولاد. والمشاهدة دالة على أن كل الكائنات الحية “كأنها مُدركة لهذا القانون”. (صورة الدراسة: الإمبراطور جوستنيان وأمامه مدوّنو شرعته- لوحة لرسّام فرنسي مجهول)
وتضيف المدونة أنه “لما كانت سنن القانون الطبيعى السارية فى جميع الأمم على السواء مُقدرة بنوع من العناية الإلهية فإنها تبقى على الدوام والاستمرار ثابتة لا تتغير. وعلى عكس هذه السنن والقوانين تلك التى تستحدثها كل أمة لنفسها، فإنها غالبا ما يعتورها التغيير والتبديل، اما بإجماع ضمنى من الأمة، واما بقانون لاحق يغيرها”.
وفى شرح هذا القانون الطبيعى قال شيشرون أحد أعلام الرومان (106 – 43 ق.م): إن القانون الصحيح هو العقل الحق المتفق مع الطبيعة، والذى يُدخل فى نطاقه العالم بأسره، وهو القانون السرمدي الذي لا يتبدل، وليس من الحق مقاومة هذا القانون، لأنه لا يختلف فى روما عنه فى أثينا، ولا فى الحاضر عنه فى المستقبل. وهو قانون صحيح ثابت عند جميع الأمم وفى جميع الأحقاب، ومن عصاه فقد أنكر نفسه وأنكر طبيعته”.
وهكذا وصل الرومان إلى التفرقة الدقيقة بين القانون الطبيعى (القلب أو الضمير) الذى يصلح فى كل زمان و مكان، فلا يجرى عليه تبديل ولا يجوز فيه التغيير؛ وبين القانون الموضوع، الذى يشترعه الناس لأنفسهم بالقوانين أو بالفقه، فيكون متأثرا بالزمان والمكان، قابلا للتغيير والتبديل والإلغاء، متى فرضت الظروف التاريخية ذلك.