كما في الربيع العربي، فإن الحراك التغييري الذي تشهده الكويت، والذي يتفوق فيه الجانب السياسي على الجانب الاجتماعي، لا يزال يمثل همّا متواضعا جدا بالنسبة للمثقف الكويتي الذي لا تزال تتحكم في مواقفه وفي ردود أفعاله عوامل سلبية عدة. ففي حين يحتاج أفراد المجتمع، خاصة فئة الشباب، إلى من يرشدهم ثقافيا إلى طريق التغيير، ويعينهم في عملية الإصلاح، في سبيل الوصول إلى واقع سياسي واجتماعي جديد، واقع ينهل من ثقافة الحداثة وقيمها، نجد أن المثقف الكويتي (والعربي بشكل عام) لا يزال يعيش أزمة لم يستطع أن يتحرّر منها، يعيشها جنبا إلى جنب المواطن العادي، وهي أزمة الحرية. فهو لا يزال غير حر، بل غير قادر على أن يصبح حرا، بسبب عوامل عدة، يأتي على رأسها العامل الأمني، مما يعرقل أي مسعى له لاستشراف عملية التغيير وتوجيهها وإدارتها. وهذا بدوره جعل العديد من المثقفين في الكويت يتخذون مواقف ضد الحراك أو مواقف لا أبالية منها. وهي في تقديري مواقف ترتبط بالأغلال السياسية والاجتماعية التي لا تزال تعيق الحرية اللازمة للمثقفين لممارسة دورهم المسؤول، حيث لا تزال تكبل أياديهم وترهب أفواههم وتعيق أقلامهم لتمنعهم من إثراء الطريق، ما جعلت منهم “أعداء” التغيير بدلا من أن يكونوا نقاده.
ومما لا شك فيه أن تلك الأغلال ترتبط في جزء كبير منها بصور الحياة المختلفة في الكويت، ومن ضمنها ما يتعلق بالعامل السلطوي، والتي أثّرت في حرية المثقف وساهمت في تعليب دوره وفي جعله لاأباليا تجاه مسؤولياته الاجتماعية. يأتي في سياق تلك الصور، الدور الذي تلعبه الأطر الدينية الطائفية (شيعي/سني) في هذا الجانب، والتي استطاعت أن تؤثر في المثقف وتجعله منحازا لطائفته غير مبال للحراك، بسبب قدرة الأطر على لعب دور الفرز الطائفي السلبي، ما جعلت هيمنة الطائفة الأخرى على الحراك سببا للامبالاة المثقف، بل في أحسن الاحوال سببا في تواضع دوره. يأتي بعد ذلك دور الأغلال العنصرية التي تنظر للحراك نظرة عصبية (عرب وعجم/حضر وبدو) والتي تصوّر أمر الحراك بالنسبة للمثقف وكأنه حلبة صراع إذا خسرها فإن النوع الذي ينتمي إليه يكون قد انهزم، مما قد يجعله يخسر صورته الاجتماعية وسط مجتمعه المصغّر. كما أن هناك الأغلال التي تظهر وجهها من خلال المواقف الممزوجة بالمصالح الضيقة (مال/ جاه/ مناصب)، حيث تتباين المواقف، ويعلو صوتها أو يخفت، وفقا لما تمثّله القيمة المادية المصلحية في هذا الإطار. فنرى المثقف ملتهبا حادا مهموما تجاه مسألة ما، كمسألة تقنين الأحزاب وتداول السلطة على سبيل المثال، ثم فجأة نجد صوته يخفت وصورته تختفي بسبب تأثير العامل المادي المصلحي عليه.
إن تلك الصور الثلاث تثبت بما لا يدع مجال للشك بأن الكثير من المثقفين الكويتيين أصبحوا وسائل غير مباشرة في أيدي من يسعون إلى مناهضة الحراك الجديد وعدم تغيير الشأن القديم، ظنا من المثقفين بأن الوضع القديم هو أٌقرب إلى مفاهيم الحرية والعدالة، غير آبهين بأن المرحلة السياسية والاجتماعية والمعرفية القديمة أصبحت عبئا على الحاضر وباتت عاجزة عن مجاراة تطورات الحياة وتغيرها، ولابد من طرح رؤى ثقافية وسياسية واجتماعية جديدة تناسب الواقع الجديد، كما يجب عدم السماح للرؤى التاريخية التراثية المتبناة من قبل بعض الأصوليين التغييريين (الذين لا يزالون يعتقدون بأنهم الوحيدون الذين يمتلكون الحلول انطلاقا من زعمهم امتلاك للحقيقة)، وكذلك عدم السماح للرؤى غير الديموقراطية التي ينتهجها بعض الحداثيين المزيفين غير الديموقراطيين، أن تهيمن على الوضع الجديد تحت عنوان التغيير.
إن من المسؤوليات الملقاة على عاتق المثقف هو اكتشاف حاجات المجتمع والقدرة على إظهار إمكانات أفراده، من أجل فهم مطالبهم والمساهمة في توعيتهم وإدراك تحركاتهم التغييرية ومساعدتهم في طرح مشروع واضح وشرعنة ظروف تؤسس لواقع جديد. لكن مثقفينا باتوا وسائل لإبقاء القديم قديما، خشية مما قد يحتوي عليه الجديد من صور حياة لا تختلف في شيء عن القديم، أو لا تتوافق مع مصالحهم. لقد باتوا مثقفين “تقنيين” حسب تعبير محمد ديبو في “الأوان”، حيث انحصر دورهم في “غيتو اختصاصاتهم مما جعلهم يبتعدون عن الشأن العام”.
على هذا الأساس، يعاني المجتمع الكويتي، بل معظم المجتمعات العربية، من سلبية موقف المثقف تجاه الحراكات المتنوعة المتباينة قبل أن تعاني المجتمعات من حالة الانسداد وعدم التغيير. لذا، من الضرورة بمكان فك أسر المثقف بموازاة العمل لتحرير المجتمع وتغييره. فما يحتاجه المجتمع من المثقف هو أن يتحمل مسؤولياته بشكل واضح وجلي، وأن “يقارع” الوضع القديم، يشخّصه بصورة دقيقة وواقعية، من أجل وضع أسس بناء جديد مغاير عن القديم، لا مجرد أن يكتب مقالا هنا أو يلقي محاضرة هناك. فالمجتمع، على سبيل المثال، لن يطالب المثقف بالدخول في تفاصيل الاستبداد في حين هو لم يستطع حتى الآن أن يشخّص أساس الاستبداد ولم يكتشف جذوره. يريد لتشخيص المثقف للوضع المريض أن يكون دقيقا وواضحا ومباشرا، وليس فقط عن طريق الإشارات غير المباشرة أو الخجولة أو من خلال المرور في الغرف الخلفية. كل ذلك من أجل أن تكون العلاجات واضحة ومسؤولة. هذه هي مسؤولية المثقف.
فبقدر حاجة الحراك التغييري في الكويت إلى موقف ثقافي مسؤول، ما اعتبر موقف المثقفين الكويتيين تجاهه خجولا، إلاّ أنه كان عليهم أن يركزوا على الأسباب التي دعت إلى نشوء الحراك، وأن يجيبوا على الأسئلة المتصلة بأسباب هذا النشوء. ومن أمثلة تلك الأسئلة: ما هي الأسباب أو الآليات التي ساهمت في إيجاد الحراك؟ كيف يمكن نقد الحراك بحيث لا يتحول في المستقبل إلى ظرف وواقع يشابه الوضع القديم؟ ما هي الأسس الفكرية والقيم الحداثية التي يجب أن يستند إليها الوضع الجديد، خاصة ما يتعلق منها بمفاهيم الحرية والتعددية واحترام حقوق الإنسان؟ كيف يمكن للمثقف أن يمارس دورا فكريا وناقدا باستمرار، وبالذات تجاه الوضع الجديد؟ فنقد المثقف للوضع القديم يجب أن لا ينسيه دوره في نقد الوضع الجديد أيضا، وهذا يستلزم عدم وقوف المثقف إلى جانب القوى السلطوية، القديمة أو الجديدة، وأن يرفض باستمرار أن يكون مكانه في وسط السلطة، لأن ذلك سيفقده بالتأكيد دوره الرئيسي، وهو: النقد.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com