بين لقاءين يفصل بينهما اقل من اربع وعشرين ساعة، الاول لم يكشف عن مضمونه، والثاني أربك اللبنانيين لما سبقه من إشاعات وتكهنات مبنية على خلفية اللقاء الاول، حبس وليد جنبلاط أنفاس الجميع, في الوقت المستقطع الذي مرّ بين اجتماعه بأمين عام حزب الله ولقائه التلفزيوني على قناة المنار التابعة للحزب.
لم يعرف احد من اللبنانيين ما جرى في اللقاء الاول، سوى ما صرّح به جنبلاط بلسانه على المنار، ويكفي ما قاله ليشير الى ان شيئا ما تبدّل، وبأنه لم يعد من فئة المستمعين، وقد يكون جنبلاط قد كرر امام مضيفه ما كان قد ردده بالعلن وفي أوقات سبقت الاجتماع، خصوصا أنّ جنبلاط ارسل إشاراته باتجاهات مختلفة, لا تعجب المضيف, كما لا تروق لجمهور القناة.
دخل جنبلاط اللقاء معلنا ان المسدس لم يعد موجها إلى رأسه، مخاطبا السيد نصرالله بوضوح، مقدّما مقاربة عمّا يحصل في الداخل، ومطالعة عمّا يجري في الخارج. لم يتخلّ وليد جنبلاط كأغلب اللبنانيين عن مسألة الإجماع على المقاومة، ولكنه فصل بينها وبين استحقاقات داخلية، فهو أكّد التزامه بتمويل المحكمة، وعبّر عن مجمل اعتراضاته على الأداء الحكومي، ناصحا بعدم القسوة مع المعارضة السورية.
لم يغير جنبلاط من عاداته، وقد أشار الى أنه حمل معه للسيد نصرالله تقرير التنمية البشرية في العالم العربي للعام 2003، والذي يدور حول الحريات كضرورة من ضرورات التنمية، لأنه يدرك حاجة الجميع الى تنمية بشرية تساعد مكوّنات المجتمع على الخروج من أزماتها العميقة.
لكن على رغم الحاجة لهذا التقرير، ومن موقع جنبلاط الوسطي والمعتدل، الذي يشكّل ضمانة إن استمرّ به، ومن تقبل السيد نصرالله لكلام جنبلاط، كان الأجدى بصراحة جنبلاط ان يطلع السيد نصرالله الذي تجبره ظروف أمنية استثنائية على الابتعاد المباشر عن هموم الناس، عن تجاوزات ترتكب على بعد أمتار من مكان وجوده الافتراضي في الضاحية الجنوبية، كما كان على جنبلاط ان يحمل للسيّد مجموعة ما كتبه رجال حريصون على المقاومة والطائفة ولبنان الوطن والمجتمع والدولة عمّا وصلت اليه الامور في الضاحية، وعلى طول امتداد الحضور الشيعي، ونفوذ السائد السياسي بما يحمل ولم يعد يتحمّل من ارتكابات، تتنافى مع تراث المقاومة وقيمها، ومن دون ان يكون مفهوما او مقبولا من الطرف المقاوم. هذا الإصرار على غَض الطرف، الذي تأتي فيه الارتكابات الصادرة عن حليف او صديق هنيئة مَريئة، حتى لو كان الصديق او الحليف ملتبسا، إضافة إلى أنّ غض الطرف عن ارتكابات الحلفاء الموصوفة، يجعل من الصعب على حزب الله ان يمنع او يعالج الارتكابات الأخرى الصادرة عن غير جهة، والتي تأتي من صفوفه أو ممّن هم حوله، ويسمح لها بالتفاقم، لتشكّل خطرا داخليا على الحزب وبنيته ومصداقيته أشد من اي خطر آخر، وبدلا من تقرير التنمية البشرية، هناك تقارير ملحّة بحاجة الى ان ينظر السيّد اليها، أقلّها ملف الجرائم الشائنة في جبل لبنان، وارتكابات يومية تتداولها وسائل الاعلام أصبحت مادة للنَيل من المقاومة ورموزها، فذهبت سمعة الصالح بتصرفات الطالح.
كانت التسعون دقيقية في اللقاء الثاني على المنار، الأصعب على هذه المحطة المحافظة وعلى جمهورها. جاء كلام جنبلاط مخالفا لما تتبنّاه هذه المحطة من مواقف، وما عَوّدت عليه جمهورها, فنشرة الاخبار التي سبقت الحلقة والنشرات التي بعدها، تخالف معظم مقاربات جنبلاط السياسية، وخصوصا الخارجية. خلالها، عجز مقدّم الحلقة عن حشر ضيفه ووقع في فخّه مرتين, الأولى عندما قام بمطالعة توجز كلام جنبلاط عن الأزمة السورية, فرفض جنبلاط ما قاله المذيع عن لسانه, واضطره الى التأكيد على موقفه، ولكن هذه المرة بتشدد اكبر أحرجَ المقدّم وأحرج القيّمين على القناة. والثانية عندما حاول المقدّم أن يستغلّ كلام جنبلاط عن السعودية، فاستغله جنبلاط أيضا وقام بالثناء والمديح للملك السعودي على خطواته الإصلاحية. ولم يتوقف جنبلاط عند هذا الحد، بل أدان طهران بطريقة غير مباشرة, لما يعتبره محاولة تدخلها في البحرين, فلم يكن انتقائيا في موقفه من الربيع العربي كما تمنى البعض, وختم جنبلاط الحلقة واصفا فكرة الممانعة بالسخيفة والمتحجرة.
لم تستطع المنار استدراك عاصفة جنبلاط ، فغاب ما قاله عن الوضع السوري من شريط الأخبار أسفل الشاشة، ولم تبثّ إدارة المحطة حلقة الإعادة لاحقا، والأغرب كان انتقاء جمل مُجتزأة من مواقف جنبلاط حول الوضع في سوريا, خارجة عن السياق الذي قيلت فيه, اثناء الحلقة وتمريرها على شاشة.
يعرف العاملون في الوسط الاعلامي، وخصوصا المرئي في العالم العربي، أنّ الرقابة في الاعلام الموجّه تفعل فعلها في اختيار الضيوف وتوجيه الأسئلة، حفاظا على توجهات الوسيلة الإعلامية، وعلى صفاء أذن الجمهور المُتلقي وذهنه، الذي اعتاد سماع نمط واحد وموقف واحد وضيف واحد يكمل بالتحليل ما أذيع من أخبار مُفصّلة على قياس القيمين وذائقة المستمعين.
علامة استفهام كبرى تطرحها مقابلة جنبلاط على المنار، فهل من الممكن انها لم توضع في سياق لقاء نصرالله – جنبلاط وكلام الأخير الصريح والواضح، أم ان هناك من أراد القيام بتمرين حزبي, يحضر من خلاله الجمهور كي يكون مستعدا لسماع كلام جديد, كان لوقت قريب من المحرمّات على المنار وممنوع تداوله في الوسط الحزبي.
(يتبع جزء ثان)
mhfahs@gmail.com
*باحث
نقلاً عن “الجمهورية”
الأستاذ جنبلاط صار موضوع تسلية وتفكيه
مجرّد ذكر اسم الأستاذ جنبلاط يدفع إلى الخاطرة بالـTV Reality Show بنسخته الجنبلاطية المبتكرة. غيّر أم لا؟ كوّع أم لا؟ “حا يغيّر ويكوّع” غداً أم لا؟ إلخ… مسلسل مطبّات وطلعات-نزلات وتكويعات وعرج ومرج ونحو ذلك. كل ما يحشو عادة مسلسلات التلفزة “الواقعية”. جنبلاط سوبرستار! (بيني وبينكم، آخر همّ عند اللبنانيين معرفة ما إذا سيغيّر الأستاذ أو يكوّع أو أو أو… لكن المشهد لا يخلو من التفكيه والترفيه. على الأقلّ، ها هوَ “سياسيّ” لبناني فيه نتفة فائدة).