في “الربيع العربي”، وفي أسبوع سقوط القذافي، يبدو “طبيعياً” أن يجيب الجنرال خالد نزار على أسئلة القضاء حول دوره في أعمال القمع غير القانونية لـ”جبهة الإنقاذ الجزائرية” وغيرها. حتى لو كانت “جبهة الإنقاذ” تنظيماً أصولياً معادياً للديمقراطية صراحةً (في تصريح شهير قال الشيخ علي بلحاج أن عرس الديمقراطية في الجزائر سيكون جنازتها، أو شيئاً من هذا القبيل). بل لأن الجزائر، على ما يفاخر بعض ضباطها، خرجت من “حكم القانون” منذ الإستقلال. ولأن شيئاً لا يبرّر قتل الناس، وتعذيبهم، وسجنهم، من خارج القانون. وهذا، مع معرفتنا الأكيدة بأن مسلحي “جبهة الإنقاذ” ارتكبوا جرائم فظيعة ضد الشعب الجزائري.
في أي حال، يبدو أن الجزائر قد تكون أحد الأرقام “التالية” بعد تونس وليبيا، وبعد سوريا واليمن. وقد حان الوقت لكي “يحرر” الجزائريون بلادهم من الإحتلال الداخلي!
الجنرال نزار قال في إجابته على أسئلة القضاء السويسري أن الدور الأساسي في القمع كان لرئيس الأركان، الجنرال محمد العماري!! وهذه بداية حسنة.
الشفاف
*
يقول أحد المواطنين الجزائرييْـن اللذيْـن رفعا شكوى قضائية ضد الجنرال الجزائري المتقاعد خالد نزار وأدت الى توقيفه في جنيف يوم 20 أكتوبر الجاري واستجوابه قبل الإفراج عنه، إنه قام بذلك “بدافع المسؤولية الأخلاقية تجاه الضحايا”.
وفي محضر جلسة الإستجواب، الذي نشرته صحيفة “الوطن” الجزائرية، دافع الجنرال خالد نزار عن دور الجيش الجزائري أثناء العشرية السوداء وشدد على أنه “لم تكن هناك فرق خاصة وأن أغلب التجاوزات هي من صُـنع الجماعات المسلحة، وإن وُجدت بعض التجاوزات من قبل قوات الأمن، فقد تمت معالجتها”.
وكان وزير الدفاع الجزائري السابق والجنرال المتقاعد خالد نزار تعرّض أثناء تواجده في جنيف يومي 20 و21 اكتوبر 2011 للإيقاف والإستجواب من قبل النيابة العامة الفدرالية، بناء على شكوى قضائية تقدمت بها منظمة TRIAL أو “محاكمة” (لملاحقة حالة الإفلات من العقاب دائما) غير الحكومية التي كانت مدعومة بشكوى مرفوعة من طرف مواطنين جزائريين تعرضا للتعذيب في بلادهم.
هذه المعلومات أكدتها جانيت بالمير، الناطقة باسم النيابة العامة في تصريحات لوكالة الأنباء السويسرية يوم السبت 22 اكتوبر واضافت أن التهمة الموجهة للجنرال نزار هي “الإشتباه في وقوع جرائم حرب” خلال فترة “الصراع المسلح الذي عرفته الجزائر ما بين عاميْ 1992 و1999 والذي واجهت فيه الحكومة عدة مجموعات إسلامية مسلحة”.
عن الدوافع التي دفعت أحد مقدمي الشكوى ضد الجنرال خالد نزار، يقول السيد أحسن كركدي الذي كان طبيب أسنان في بلدية مفتاح ونائب رئيس البلدية بها عن حزب جبهة الانقاذ الإسلامية في حديث لـ swissinfo.ch “هذه الشكوى التي نتقدم بها اليوم، لا أقوم بها من أجلي شخصيا، بل من أجل كل الأشخاص الذين توفوا تحت التعذيب والذين لم يعودوا بيننا اليوم من أجل المطالبة بالعدالة. فصراخهم لا زال يتردد في أذني لحد اليوم، لأن التعذيب النفسي أتعس في نظري. إن مَـن يتعرض للتعذيب الجسدي مرة واحدة، يظل طوال حياته يعاني من التأثيرات النفسية الناتجة عن صراخ مَـن يتعرض للتعذيب بالمياه او بالنار أو بالضرب، وهذا ما لا اقوى على نسيانه، لذلك اعتبر أنها مسؤولية أخلاقية بالنسبة لي لتقديم هذه الشهادة مكانهم، بعد أن رحلوا عن هذا العالم”.
ويضيف “إذا كانت النيابة العامة الفدرالية ترى أن هناك” اشتباها في ارتكاب جرائم حرب”، فإن بالنسبة لي يتمثل الأمر في اعتقال لعدة مرات في عام 1993 وتعرضي للتعذيب على ايدي السلطات الجزائرية بتهمة تمويل الجماعات المسلحة”.
أما رئيس جمعية TRIAL فيليب غرانت، فقال لـ swissinfo.ch “إن الجمعية التي لا دوافع وراءها غير دعم ضحايا الجرائم الدولية مثل جرائم الحرب او الجرائم ضد الإنسانية وعمليات الاختفاء القسري والتعذيب، ترى أن الشروط القانونية لفتح تحقيق، اكتملت بتواجد الجنرال خالد نزار فوق التراب السويسري، مما سمح بفتح تحقيق فيما نشك بأنها جرائم حرب ارتُـكبت في الجزائر في بداية التسعينات”.
مسؤولية وزير الدفاع
يتضح من محضر جلسة استجواب الجنرال خالد نزار من قبل قاضية النيابة العامة الفدرالية، والتي سارعت صحف جزائرية – على غير المعتاد – إلى نشرها، أن جل الأسئلة دارت حول دور الجنرال خالد نزار أثناء العشرية السوداء التي عرفتها الجزائر ما بين 1992 و1999 (أي بعد الإعلان عن وقف المسار الإنتخابي الذي فازت فيه الجبهة الإسلامية للإنقاذ بأغلبية الأصوات) وخصوصا في الفترة التي تولى فيها مناصب رئيس هيئة الأركان ووزير الدفاع وعضو المجلس الأعلى للدولة.
وبعد أن كرر الجنرال خالد نزار أن الجيش “لم يتورط في أية تجاوزات”، قال للقاضية السويسرية بصريح العبارة: “إذا كنتم ترغبون في معرفة بأي ثمن ما إذا كنتُ قد ساهمتُ بشكل من الأشكال في بعض التجاوزات، فإن وزير الدفاع عند اندلاع حرب مسلحة في أي بلد من البلدان، يتنحى جانبا لترك المجال أمام قائد هيئة الأركان لإتخاذ القرارات. وقائد هيئة الأركان آنذاك، كان محمد العماري”.
وأضاف خالد نزار – حسب محضر الإستنطاق المنشور – “لم أعط أية أوامر. والأوامر الواضحة الصادرة كوزير دفاع أو كعضو في المجلس الأعلى للدولة، كنت موافقا عليها، باستثناء ما يتم من تجاوزات”. وفي معرض التأكيد على “عدم وجود شيء يُلام عليه”، استشهد الجنرال خالد نزار باستقالته من منصبه وقيامه بتأليف عدة كتب عن مسيرته العسكرية.
في المقابل، يقول المواطن الجزائري السيد أحسن كركدي مقدم الشكوى في تصريحات خاصة لـ swissinfo.ch: “إن ما أتهمُهُ به هو عدم القيام بما من شأنه أن يُوقف ارتكاب هذه الفظائع. فقد كان رئيس هيئة الأركان ثم وزيرا للدفاع وأحد المحرضين على وقف المسار الإنتخابي، وهو الذي فرض حالة الطوارئ. وأرى من وجهة نظري، أنه هو الذي سمح لكل الوحدات العسكرية المسلحة بممارسة التعذيب، لأن كل مراكز الشرطة والدرك والثكنات العسكرية في كامل التراب الجزائري، مُورست فيها عمليات التعذيب. وقد تحول ذلك إلى تصرف منهجي ولم يعودوا يقدمون الضحايا أمام المحاكم. وحتى بالنسبة للذين تمت إحالتهم على المحاكم، فلم يكونوا يأخذون حتى مجرد الإحتياطات لإخفاء آثار التعذيب أثناء عرضهم على القاضي”.
من جهته، يقول فيليب غرانت، مدير منظمة “ترايال” TRIAL غير الحكومية التي تتخذ من جنيف مقرا لها في حديث مع swissinfo.ch: “في المرحلة الحالية، ليست لدينا أية أدلة عن أن الجنرال خالد نزار مارس بنفسه التعذيب أو أشرف شخصيا على عمليات اختفاء أو قتل، بل تتعلق الشكوى بدوره كوزير للدفاع خلال هذه السنوات وإشرافه على أجهزة الأمن، ونظرا لعدد التجاوزات التي تمت من إعدامات واختفاءات وتعذيب” في تلك الفترة.
وأضاف السيد غرانت “لا يبدو في نظرنا أن الجنرال نزار كان يجهل كلية ما كان يحدث، لكن يجب أن ننتظر لرؤية ما إذا كان بالإمكان تقديم الأدلة على أنه أعطى أوامر لارتكاب تلك الجرائم وأنه لم يقم على الأقل بما من شأنه وقف ارتكابها، والدليل على ذلك، غياب أية متابعة لعسكريين يُشتبه في ارتكابهم لتلك التجاوزات حينما كان وزيرا للدفاع وعدم القيام بأي تحركات من شأنها وقف تلك الممارسات، التي إن لم تكن تحظى بدعم علني، فعلى الأقل كانت تحظى به ضمنيا”.
“تمنيت محاكمته أمام العدالة الجزائرية”
الجنرال المتقاعد خالد نزار ردّد مرارا أثناء استجوابه من قبل قاضية النيابة العامة الفدرالية، وحسبما جاء في نص محضر الجلسة المنشور أنه “لا يفهم دوافع هذا التحقيق.. ولا أسباب هذه الصحوة المتأخرة”، لكنه حرص منذ بداية الإستجواب على التذكير بأن معاهدة عام 1984 تنص بالحرف الواحد على أنه في حالة جرائم حرب، وإذا كان الشخص لم يتعرض لمحاكمة في بلده، فلا يمكن متابعته قانونيا في بلدان أخرى”.
في معرض الرد على هذه الحجة، يقول فيليب غرانت، مدير منظمة TRIAL المعنية بمكافحة الإفلات من العقاب “إنه تصور خاطئ” وأضاف شارحا في حديثه لـ swissinfo.ch: “لقد عرفت العدالة الدولية تطورا في السنوات الأخيرة، وليس هذا من محض خيال قانونيين مثاليين، بحيث أصبح بالإمكان في حال ارتكاب جرائم خطيرة أو دولية، محاكمة أشخاص أجانب في بلد أجنبي. هناك معاهدات دولية تسمح للدول بمعاقبة مرتكبي تلك الجرائم، سواء تعلق الأمر بمعاهدات جنيف أو معاهدة مناهضة التعذيب، وهذا ما سمح بمتابعة مرتكبي جرائم الإبادة أو جرائم الحرب في الخارج. وهناك عشرات الدول التي فتحت تحقيقات من هذا النوع”.
من ناحيته، عبر السيد أحسن كركدي، مقدم الشكوى في سويسرا، عن الأسف لعدم إحالة هذا الملف على القضاء الجزائري وقال لـ swissinfo.ch: “لقد تمنيت لو تم تنظيم هذه المحاكمة في الجزائر وأن تشرف العدالة الجزائرية على محاكمته، هو ومن معه بالنسبة لكل الجرائم التي ارتكبوها. ولا لأأفرق في ذلك بين من ارتكب جرائم، سواء كان من الجيش أو من الجماعات المسلحة، لأن كل من مارس التعذيب، يجب أن يُحاكم أمام عدالة نزيهة. مع الأسف الشديد فإن عدالة من هذا النوع ليست موجودة في الجزائر ولن تر النور في ظل تواجد هؤلاء. وما دامت هناك عدالة في الدول الديمقراطية، وجدنا أنها الحل الوحيد المتاح لذلك توجّهنا إليها”.
في انتظار عودة محتملة
النيابة العامة الفدرالية أعلنت بأن “التحقيق سيستمر”. ومع أنه لم يتسنَّ الحصول في الوقت الحالي على جدول زمني للجلسات القادمة، إلا أن فيليب غرانت، مدير منظمة “ترايال” TRIAL أوضح لـ swissinfo.ch أن “الجنرال خالد نزار وعد بالحضور في جلسات التحقيق القادمة وسنرى ما إذا كان رجل شرف ليُوفي بتلك الوعود”.
ولدى سؤال مقدم الشكوى أحسن كركدي عما ينتظره الآن من الإجراءات القضائية التي أطلقها القضاء السويسري، أجاب: “لا أنتظر أن يتم تعذيبه بدوره، لأنني من مناهضي التعذيب، ولكن ما آمل فيه، هو أن يُجيب الجنرال خالد نزار على هذه الإتهامات أمام العدالة. كما لا أرغب في أن يكون في ذلك درس للجزائر وحدها، بل لكافة الدول. ويكفي أن ننظر إلى ما يجري في ثورات الربيع العربي. ومن المفارقات، أنه تم استجوابه في اليوم الذي تم فيه إلقاء القبض على القذافي. ولا أرغب في أن ينتهي مثلما انتهى إليه القذافي. وإذا كان لدى كل صاحب دور في المأساة الجزائرية قدرٌ من الكرامة، فليعيدوا النظر في تصرفاتهم وليراجعوا انفسهم وليعترفوا بأخطائهم أمام العدالة، وبعدها يُشرع في عملية مصالحة وطنية وليس بفرض عملية مصالحة مع تناسي بأن هناك أكثر من عشرين ألف مفقود تم العمل على اختفائهم”.