إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
في مثل هذه الأيام، قبل اثنين وثلاثين عاماً، زرتُ جماهيرية العقيد، ضمن وفد دُعي للمشاركة في احتفالات الذكرى العاشرة لانقلاب أسماه أصحابه ثورة، وقُبلتْ هذه التسمية على نطاق واسع في العالم العربي والعالم، خاصة من جانب القوى الراديكالية، القومية واليسارية في ذلك الوقت.
نـزلنا في فندق يدعى ليبيا بالاس، يطل على الشاطئ في طرابلس. وكان الضيوف الذين استضافتهم جماهيرية العقيد في تلك الأيام خليطاً من بني البشر، جاءوا من أربعة أركان الأرض، أذكر من بينهم عيدي أمين، الطاغية الأوغندي، وبيلي كارتر، شقيق الرئيس الأميركي جيمي كارتر، الذي يطلق عليه الأميركيون تسمية “بيلي بيير”، لأنه مولع بشرب البيرة، وكان يرتدي جزمة طويلة تصل إلى ما قبل الركبة بقليل، كتلك التي نشاهدها في أفلام الكاوبوي.
كانت جماهيرية العقيد في تلك الأيام اسفنجة تقطر بالدولارات النفطية، والشعارات. قبل ذلك التاريخ بعامين أعلن العقيد إنشاء سلطة الشعب، بمعنى آخر شرع في تفكيك الدولة الليبية، في سياق مشروع للهندسة الاجتماعية، استمد ملامحه الرئيسة من أفكار بدائية حصل عليها عن طريق الإذاعة، والمدرسة، وما تيّسر من الجرائد والكتب.
للزمن أحكامه. ففي العام 1969 كان من الممكن إخفاء ضحالة الثقافة السياسية، والكفاءة العقلية، ناهيك عن الإدارية، لما لا يحصى من الثوريين، تحت ركام من الشعارات الراديكالية. شعارات لم تكن مُقنعة في نظر الكثير من العرب وحسب، بل وكانت مثيرة ومُغرية في نظر العديد من الغربيين، أيضاً. لذا، لم يكن من المفاجئ أن تُطلق الصحافية الإيطالية أوريانا فالاتشي على العقيد تسمية “نبي الصحراء”، كما لم يكن من المفاجئ أن تصبح ليبيا مزاراً يؤمه الباحثون عن الثروة والثورة.
المهم، مرّت أيام الزيارة ما بين كرم الليبيين، الذي يصل إلى تخصيص سيّارة مرسيدس حكومية من سيارات المراسم للضيف، حتى إذا احتاج الذهاب إلى السوق، وبين مشهد الطاغية الأوغندي، صاحب الصدر العريض، الذي تُزيّنه الأوسمة، والكاوبوي الأميركي، الذي كان يبدو شارد الذهن، ويعاني من الملل في أغلب الأحيان. وقد كان الاثنان من الوجوه المألوفة في ردهات الفندق، وقاعة الطعام.
كان العرض العسكري في الأوّل من أيلول (سبتمبر) ذروة احتفالات الذكرى العاشرة لثورة العقيد. مرّت من أمامنا مئات الدبابات الحديثة، وحلّقت فوق رؤوسنا أسراب الطائرات المقاتلة، وشنّف العقيد آذاننا بخطاب لم يعلق شيء منه في الذاكرة، لم يبق في الذاكرة سوى البزة العسكرية البيضاء، والأوسمة الكثيرة على صدر العقيد، ومشهد جنود الصاعقة، الذين تقنّعوا بقماش أخضر اللون.
في ساعة متأخرة من مساء ذلك اليوم اجتمع العقيد بعدد من الضيوف للكلام عن كتابه الأخضر. وكان الاجتماع في الساحة الخضراء، التي صُبغت باللون الأخضر، بما في ذلك الأرضية الإسمنتية، ونُصبت فيها خيمة عملاقة، جلس فيها العقيد، مرتدياً ثياباً يغلب عليها اللون الأخضر، وقد لف رأسه بشال أخضر ينسدل على كتفيه.
لاحظت في ذلك المساء البعيد أن العقيد لا ينظر إلى مخاطبيه أو مستمعيه، بل يجول بعينيه في فضاء الخيمة، ويحرّك رأسه يمينا وشمالا، غارقاً في أفكار تبدو في نظره أعلى من مدارك الحاضرين.
ولم يبق من ذلك المساء البعيد سوى حالة الغضب المفاجئ، التي انتابته عندما حاول أحد الحاضرين التساؤل حول مكانة المرأة في الكتاب الأخضر. قال العقيد غاضباً، ودون أن ينظر إلى أحد: إذا تكلمنا في هذا الموضوع لن ننتهي منه حتى الصباح. لم يرد في ذلك المساء البعيد الابتعاد عن موضوع الفرق بين الشيوعية والرأسمالية، وكيف عثر في الكتاب الأخضر على حل لذلك التناقض.
في واقع الأمر، لم يكن ذلك اللقاء ضرورياً، طالما أن الحلول السحرية التي عثر عليها العقيد كانت مُصاغة في هيئة شعارات تغطي الجدران في كل مكان، ولا يحتاج الزائر إلى أكثر من جولة في شوارع طرابلس للعثور على المنطلقات “الفكرية” للعقيد: من تحزّب خان، شركاء لا أجراء، وفي الحاجة تكمن الحرية، والشعب صاحب السلطة والثروة، والبيت لساكنه.
وللتدليل على صدق الشعارات نظّم لنا المضيفون في الأيام التالية جولات في مدن ليبية مختلفة، واذكر من بين المعالم التي زرناها حياً سكنياً جديداً، أقيم في منطقة كانت تُسمى حي الأكواخ في طرابلس. يومها التقيت بشاب يعمل في صحيفة “الزحف الأخضر”، ومن حسن الحظ أنني سمعت منه، ورأيت على وجهه، ما يكفي لاكتشاف الجانب المُظلم في جماهيرية العقيد.
كانت تجربة العيش في جمهورية صدّام، قبل زيارة ليبيا بوقت قصير، بمثابة دورة شديدة الخصوصية، وبعيدة الأثر، لتدريب الحواس على اكتشاف معنى الخوف. فالخوف، في ظل الدكتاتورية، شيء يسري في الهواء، واللغة، وفي لغة الجسد، وتفاصيل الحياة اليومية.
عندما تنخفض نبرة الصوت، كلما اقترب صاحبه من منطقة محظورة، سواء أكانت اسم الحاكم، أم بعض سياساته، يشع الخوف كضوء في النهار، ويشع في أحيان أخرى كلما ارتفعت نبرة الصوت عند الاقتراب من المناطق نفسها، للتدليل على حجم للولاء، يستمد مبرراته من خوف على المصير. وكلما أشاح مخاطبك بوجهه، أو تحاشى النظر إلى عينيك، يشع الخوف. وفي ظل الخوف تكتشف المنافق، والحاوي، والانتهازي وابن آوى، أي كل الذين حوّلتهم مشاعر الخوف إلى أساتذة في فنون البقاء.
وفي جماهيرية العقيد كان الخوف أكثر وضوحاً وبلاغة من شعارات الكتاب الأخضر على الجدران. كانت تلك الزيارة الأولى إلى جماهيرية العقيد، وقد تلتها زيارات، ومنها في الذاكرة ما
khaderhas1@hotmail.com
* كاتب فلسطيني
سكدسوفرينية ما يسمى المثقف العربي
ما دمت مناهضاً للنظام الليبي لماذا قبلت الدعوه؟