أوّل الكلام: مبروك يا طرابلس والعقبى لأختك دمشق.
أما بعد، أخيراً انتهى مسلسل العقيد معمّر القذافي، الذي فُرض على الليبيين والعرب والعالم عقوداً طويلة، بأعوامها، وصيفها وشتائها، وليلها ونهارها. انتهى مسلسل عميد الزعماء العرب، ومفجّر عصر الجماهير، ومؤسس أوّل جماهيرية في التاريخ، وأمين القومية العربية، وملك ملوك أفريقيا.
وهل من عاقل في الدنيا يرتضي لنفسه ألقاباً كهذه، فكلها ألقاب كوميدية تدل على حقيقة أن ولداً شبه متعلّم، يستولى على السلطة وهو في السابعة والعشرين من العمر، يمكن أن يفعل هذا وأكثر منه، إذا لم تتوفر ضوابط اجتماعية وسياسية تمكِّن هذا المجتمع أو ذاك من ردعه قبل فوات الأوان.
والردع مسألة إشكالية. هل كان ثمة في ليبيا في أيلول (سبتمبر) 1969 ما يكفي من القوة والحصانة الذاتية، بالمعنى السياسي والاجتماعي، وحتى الثقافي، لإرغام مجموعة صغار الضباط على العودة إلى الثكنات؟
ولكن المشكلة لا تنحصر في ليبيا، فما وقع هناك لا يختلف عمّا وقع في بلدان عربية أخرى وقعت في قبضة القادمين من الثكنات، وأغلبهم أنصاف متعلمين، جاءوا من مناطق ريفية، ولم يكن لديهم ما يكفي من الكفاءة السياسية والخبرة لاكتشاف الفرق بين إدارة مجتمع وإدارة معسكر للجيش.
ولذا، يمكن صياغة السؤال الأوّل بطريقة جديدة: هل كان لدى العرب ما يكفي من القوّة والحصانة الذاتية، بالمعنى السياسي والاجتماعي، وحتى الثقافي، لإرغام مجموعة من صغار الضباط وكبارهم (لا فرق) على العودة إلى الثكنات منذ انقلاب حسني الزعيم في سورية في العام 1949، الذي افتتح حقبة الانقلابات العسكرية في العالم العربي؟
ولكي لا تأخذنا العزة بالإثم ينبغي الاعتراف بحقيقة أن الانقلابيين، الذين جاءوا على ظهور الدبابات والشعارات، ظهروا في أجواء محلية وإقليمية ودولية لا تنظر إلى هذا النوع من التغيير السياسي، والوصول إلى السلطة، بطريقة سلبية، كما هو الأمر الآن.
ولا بد من التذكير بحقيقة أن عبد الناصر، أهم الانقلابيين العرب، قد أسهم إلى حد كبير في إضفاء الشرعية على انقلابات العسكر، لأسباب تتعلّق بمكان ومكانة مصر، وبما طرحه من تصوّرات تمس حاضر العرب ومستقبلهم. ومن المؤسف، مهما تكن النوايا، أن النتائج كانت كارثية.
ربما نظرت النخب المدينية، التي كانت جزءاً من بنية الأنظمة التي أطاح بها الانقلابيون، إلى “ثورات العسكر” بطريقة سلبية، لكنها لم تكن صاحبة نفوذ في “الشارع”، ولا كان في جعبتها ما يكفي لإقناع “الشارع” بصلاحية أنظمة عصفت بها تحوّلات ديمغرافية هائلة، في ظل نشوء إسرائيل، والحرب العربية ـ الإسرائيلية الأولى، وانقسام العالم إلى معسكرين متناحرين، وصعود حركة التحرر القومي في المستعمرات السابقة.
وبهذا المعنى، ليس صحيحاً ما يردده الثوّار الليبيون هذه الأيام حول خيبة أمل تغطي اثنين وأربعين عاماً مما تعدون، الصحيح أن الليبيين، شبابهم على الأقل، علقوا رهانات كثيرة على حكم القذافي في أوائل عهده قبل اكتشاف خواء وبلاهة الرهانات الصغيرة والكبيرة. وقد عُقدت رهانات مشابهة في بلدان عربية أخرى، وكان نصيبها الفشل، بلا استثناء. ثمة ما يشبه القدر الإغريقي، هنا. وهنا، بالذات، نعثر على إجابات محتملة للسؤال السابق في صيغتيه الأولى والثانية.
المهم أن “ثورات العسكر”، وأنظمتهم السلطانية والعثمانية والمملوكية المُستحدثة، قد انتهت، سواء من لفظ منها أنفاسه، غير مأسوف عليه، أو من ينتظر. والدليل نعثر عليه في أجواء محلية وإقليمية ودولية لا تحظى فيها فكرة الانقلاب العسكري بقدر كبير من الاحترام أو الشرعية، كما ونعثر عليه في معنى ومبنى الربيع العربي نفسه.
ولكن الأهم من هذا كله يتمثل في التذكير بحقيقة أن انتهاء حقبة الأنظمة السلطانية والعثمانية والمملوكية (حتى مع وجود من لم يسقط منها بعد) يجب ألا يلهينا عن ضرورة التفكير في احتمال وقوع المجتمعات العربية في قبضة أشخاص وأيديولوجيات واستيهامات سياسية تعيد إنتاج الأنظمة نفسها بطريقة جديدة، لا عن طرق الانقلاب العسكري، ولكن ربما عن طريق صناديق الاقتراع.
فإذا كان الانقلاب العسكري قد سقط كخيار، إلا أن الأجواء المحلية والإقليمية والدولية، التي تُضفي الشرعية على صندوق الاقتراع، تمثل دفيئة مثالية لأشخاص يعتنقون أفكاراً خلاصية، ويلعبون بأدوات العصر.
ولكي لا نبتعد كثيراً في التحليل والتأويل فإن الأصولية الإسلامية، حصان الثورة المضادة، هي المرشحة لهذا الدور، بعد فشل جناحها الأكثر تطرفاً في الاستيلاء على السلطة بسلاح الإرهاب، وبعدما فتحت الثورات العربية أفقاً جديداً للحراك السياسي في العالم العربي.
الأفق الجديد مفتوح على الديمقراطية (الحقيقية، وبمعناها الغربي إذا شئت) كضوء في نهاية النفق. الوصول إلى هذا الضوء يهدد أنظمة لم يصنعها الانقلابيون مثل مشيخات النفط، التي لن تخطر على بال حكامها أفكار من نوع صندوق الاقتراع، وتداول السلطة، والملكية الدستورية.
لذا سيبذل هؤلاء كل ما لديهم من نفوذ يمشي على قدمي ثروة نفطية هائلة، للتدخل في الصورة المحتملة للأنظمة القادمة في العالم العربي. وهنا يحدث التقاطع بينهم وبين الأصولية الإسلامية، وسنسمع في قادم الأيام الكثير عن خصوصياتنا العربية والإسلامية، وكلما سمعنا كلاماً كهذا يجب أن نرى فيه تجليات بلاغية للصراع على طبيعة وهوية الأنظمة القادمة في العالم العربي.
الصراع على طبيعة وهوية الأنظمة القادمة في العالم العربي، عند نقطة التقاطع تلك، يمثل عنوان المرحلة الأخيرة قبل الوصول إلى الديمقراطية الحقيقية، (وبمعناها الغربي إذا شئت). وإذا كان الأمر بالأمنيات نرجو ألا تطول هذه المرحلة أكثر مما يجب، فالعرب في ربع الساعة الأخير قبل الصعود إلى قاطرة التاريخ، وإعلان الانتماء إلى العصر، طموحاً وسياسة، وأنظمة، ومجتمعات، وتطلعات.
ومع هذا وذاك، خير الختام أوّل الكلام: مبروك يا طرابلس والعقبى لأختك دمشق.
khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني