سارع معلقون إسرائيليون إلى نفي أوجه الشبه بين مظاهرات الإسرائيليين الأخيرة في الميادين، وبين ما حدث في ميدان التحرير في مصر. ولكن لماذا ينفي هؤلاء أوجه الشبه بين حدثين مختلفين: وقع الأوّل في إسرائيل احتجاجاً على ارتفاع أسعار المساكن وإيجارات البيوت، والثاني في مصر في سياق ثورة شعبية نجحت في إسقاط نظام؟
الجواب: لأنهم لا يريدون الاعتراف بحقيقة أن ما يحدث في العالم العربي هذه الأيام يؤثر على الإسرائيليين بطرق مختلفة، من بينها محاولة تقليد النموذج المصري، حتى وإن اختلفت المطالب، ولم تكن الدعوة إلى إسقاط النظام على جدول الأعمال.
أكثر ما يغيظ الإسرائيليين القول إنهم يستلهمون نموذجاً عربياً في الاحتجاج. هذه نقطة أولى، فلنتقدم خطوة إضافية إلى الأمام. ألا يحق لنا التفكير، نظرياً على الأقل، في خروج الإسرائيليين إلى الشوارع، والاعتصام في ميدان رابين في تل أبيب، في يوم ما، مطالبين بإسقاط النظام.
لم تغب هذه النقطة، أيضاً، عن أعين المعلّقين الإسرائيليين، فقالوا في معرض نفي أوجه الشبه، إن إسرائيل تشهد انتخابات دورية، ولا يعاني مواطنوها من قمع النظام القائم، كما هو الشأن في مصر وغيرها من البلدان العربية.
وكل هذا صحيح. لكن الانتخابات الدورية، والحريات المكفولة لليهود الإسرائيليين لا تكفي للحيلولة دون ظهور معارضة شعبية واسعة تستهدف إسقاط النظام، طالما أن الانتخابات جزء من لعبة النخب السائدة، التي تحتكر السلطة والثروة، وطالما أن الحريات الفردية لا تنفي حقيقة أن النـزعة العسكرية، ومجتمع الغيتو، لا ينسجمان مع منطق العصر، ولا يمثلان ضمانة لمستقبل الدولة. إنهم ينتظرون البرابرة وراء الأسوار (والإحالة هنا إلى مضمون وأخيلة رواية لكويتزي) ولن يتمكنوا من البقاء في حالة انتظار إلى الأبد، فالأبد طويل جداً.
هذه الفكرة عويصة، نوعاً ما، وتحتاج إلى تفسير. يصعب القول إن معارضة النظام القائم في إسرائيل يمكن أن تصل إلى حد المطالبة بإسقاطه. والواقع أن المخاطر التي تتهدد النظام قد تأتي في يوم ما من جانب اليمين الديني المتطرّف، الذي يريد الاستيلاء على الدولة، أو من جانب الجيش إذا شعر الجنرالات بفقدان دورهم المركزي في الدولة والمجتمع. وهذه المخاطر ليست من بنات أفكاري، إذ يمكن العثور على ما يحيل إليها في أعمال أدبية إسرائيلية، وفي دراسات سوسيولوجية وسياسية. وغالبا ما يمثّل المستوطنون في سيناريوهات كهذه رأس الحربة، أو الصاعق.
ولكن ماذا لو فكّرنا في سيناريو آخر، ماذا لو فكرنا في ظهور معارضة شعبية حقيقية للنظام الكولونيالي الإسرائيلي، ولا أعني، هنا، نظام الاحتلال في الضفة الغربية وغزة، بل النظام الإسرائيلي نفسه، باعتباره نتاجاً موضوعياً لتحالف وشراكة بين الجيش ونخب سائدة تسعى إلى تأبيد وجودها، ومركزيتها في السياسة والاقتصاد والمجتمع من خلال: أولاً، تأبيد الاحتلال في الضفة الغربية، وانتهاج سياسة تستدعي الدخول في حرب واحدة على الأقل كل عشرة أعوام.
المقصود ثورة شعبية تسقط النظام، وتدخل في مفاوضات سلام مع الفلسطينيين لاقتسام أرض فلسطين التاريخية بطريقة عادلة، أو العيش في دولة واحدة، والمصالحة التاريخية مع العالم العربي.
هذا السيناريو مدهش، ولكنه بعيد الاحتمال، فالثورات الشعبية لا تحدث لأسباب تتعلّق بالسياسة الخارجية. ناهيك عن حقيقة أن الإسرائيليين يستفيدون من الاحتلال، ومن النظام الكولونيالي، الذي يمثل في نظر الغالبية العظمى ضمانة للوجود.
ومع ذلك، يمكن لما يمثل ضمانة أن يصبح عبئاً في يوم ما. الاحتلال، مثلا، يهدد هوية الدولة في نظر بعض الإسرائيليين، ويعبر هؤلاء عن مواقفهم بالدعوة إلى إنهاء الاحتلال، وتمكين الفلسطينيين من إنشاء دولة لهم في الضفة الغربية وقطاع غزة. وماذا لو اتضح أن الاحتلال جزء من بنية النظام الكولونيالي. بهذا المعنى يصبح النظام مُستهدفاً، وتصبح الدعوة لإسقاطه مقدمة لإنهاء الاحتلال.
مرّة أخرى، هذه أشياء بعيدة الاحتمال في المدى المنظور، ولكنها ممكنة بالمعنى النظري. وهذا الاحتمال النظري المجرّد يقودنا إلى سؤال حول دور الفلسطينيين، والمحيط العربي، في نقل فكرة كهذه من ثنايا المجرّد، والمحتمل بالمعنى النظري، إلى الواقعي، والممكن، والقادر على احتلال مكانة ما في السجال السياسي العام.
لا يكره الإسرائيليون شيئاً أكثر من تذكيرهم بحقائق من نوع أن تحوّلاتهم الاجتماعية والسياسية والثقافية محكومة بالعلاقة مع الفلسطينيين أولاً، والمحيط العربي والشرق أوسطي ثانياً. وغالباً ما يصرّون في الأكاديميا والمؤتمرات على القول إن تطوّر المجتمع اليهودي في فلسطين تحقق منذ بدء الاستيطان، وحتى الآن، بفضل ديناميات داخلية تخص الييشوف اليهودي نفسه، أو العلاقة مع أوروبا.
السؤال: ماذا يفعل الفلسطينيون، والمحيط العربي، لتوجيه أنظار الإسرائيليين إلى فكرة من نوع إسقاط النظام كمدخل لتسوية تاريخية وعادلة؟
أقصر الطرق شن حرب ناجحة. وهذا غير ممكن، وأطول الطرق تقديم نموذج في السياسة والحكم يتسع، أيضاً، للهويات الدينية والقومية، بما فيها هوية الإسرائيلي نفسه، وهي في طور التكوين، ومأزومة.
أعرف مدى تعقيد الفكرة، وما يكتنفها من تناقض. ولكن على الصعيد النظري والمجرّد، لا أبحث هنا عن إجابات، بل أحاول صياغة أسئلة، ربما من بينها: متى وكيف ولماذا يخرج الشعب في إسرائيل لإسقاط النظام؟
khaderhas1@hotmail.com
* كاتب فلسطيني