حلب الشهباء، مركز التجارة لبلاد الشام في العالم القديم، درة طريق الحرير الذي يربط أوروبا بالصين والهند، ثاني أقدم مدينة مأهولة في التاريخ (الحلبية يقولون أنها الأولى)، عاصمة الطرب الأصيل التي أنتجت للموسيقى العربية القدود الحلبية، أم المحاشي والكبب كما يسميها أبناؤها، عاصمة سيف الدولة، قبلة المتنبي، حبيبة أبي فراس وأبي ريشة والأميري، خرج منها آلاف العلماء والشعراء والأدباء والفنانون، والسياسيون، مدينة تسهر حتى الفجر، وتبدأ نشاطها قرب الظهر.
كان لها في الماضي صولة وجولة، ثقلها أنجحَ انقلابات عسكرية، وأفشلَ أخرى، تمردت على الأسد في الثمانينات فنالها من القمع الكثير، مع حماة وجسر الشغور.
كان السوريون منذ بداية الثورة ينادون حلب، يستنجدون نخوة أهلها التي يبدو أنها قبعت في الثلاجات بجانب مونة (مخزون وأصلها مؤونة) الجبنة والبرغل، لم تخل مدينة سورية من هتاف: “وينك يا حلب وينك؟”
حتى العالم الغربي يبرز على صفحات إعلامه أهمية انضمام حلب إلى صف الثورة وما تمثله من ضغط شديد على النظام.
وعندما قرر الحلبيون المشاركة، كما قال الثوار، أفردت الثورة لحلب يوماً خاصاً بها، خميس بركان حلب، واحتفى بها ثوار سوريا على الأرض، وفي الإعلام، وعلى صفحات الإنترنت.
الكل كان ينتظر ويترقب، الكل يدعو أن لا تخذلهم حلب، وتجاوب الحلبيون أخيراً، خرجوا في أماكن متفرقة من المدينة، صحيح أن الأعداد حتى الآن لا تتكافأ مع عدد السكان (حلب تمثل أكبر كثافة سكانية في المدن السورية) إلا أنها تحركت من حالة الجمود التي كانت تسيطر عليها.
هل هو بركان فعلاً؟
الظاهر أنه ليس بركاناً كما توقع من حشدوا له، وأصدق وصف له ما قاله أحد نشطاء الثوار على تويتر: شمعة أخرى تضاء في ظلام الذل المطبق على سورية.
من يعرف الحلبيين جيداً يدرك أن طبيعتهم لا تقبل الحركة السريعة التي توقعتها منهم بقية المدن، هم يركزون على تحليل الأمور، ووزنها، ومناقشتها، وإشباعها كلاماً ونقاشاً، مع الخلاف الشديد في الآراء، وإذا كانت المجازر التي أقامها النظام في درعا، وحمص وتلكلخ وجسر الشغور والحصار العسكري الذي فرضه على هذه المناطق وغيرها لم تحرك الحلبيين بالشكل الكافي، فلن يتحركوا لمجرد أن نشطاء الثورة دعوا إلى خميس بركان حلب.
شعب حلب يعشق الرقص، وهم حين يرقصون يبدؤون بإيقاع بطيء جداً على الطبل، ويتحرك أحدهم بخطوات موزونة وبطيئة، فيما يعرف بالتقسيم، وتزداد الحركة سرعة على مدى السهرة، لينتقلوا بعدها إلى الدبكة، الرقصة الجماعية الصاخبة التي تهز الأرض.
اليوم وأنا أشاهد الحلبية في أماكن متفرقة من المدينة يتجمعون في مجموعات صغيرة، ويفشلون (حتى لحظة كتابة هذه الكلمات) في الوصول إلى الساحة الرئيسية – ساحة سعد الله الجابري – تذكرت المثل المشهور (في حلب وغيرها): أول الرقص حنجلة.
اليوم بدأت حلب بالحنجلة، وأتوقع أن تزداد غداً الجمعة مع بقية مدن سورية، لكنني أقول للحلبية: سورية، بل العالم كله، ينتظر الدبكة التي تهز الأرض تحت أقدام الطغاة.
أطربينا يا حلب.
mahmoud@ceoexpress.com
* كاتب سوري من حلب