ليس من المجدي قذع دونالد ترامب أو مدح هيلاري كلينتون، بل التعامل بواقعية وبناء صلات مؤسساتية وإبراز ما تبقى من عناصر القوة العربية.
يحبس العالم أنفاسه مرة كل أربع سنوات في الثلاثاء الثاني من نوفمبر عند انتخاب رئيس أميركي جديد. وقبل أقل من خمسة أشهر على استحقاق 8 نوفمبر 2016 الذي يتبارز فيه دونالد ترامب وهيلاري كلينتون، يبدو الانتظار ثقيلا لأن من سيحكم البيت الأبيض بين 2017 و2021، سيكون عمليا من كبار المؤثرين في صنع السياسات الدولية، ولا يتردد البعض بوصفه “رئيس العالم” نظرا لبقاء الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة في زمن الاضطراب الاستراتيجي، بالرغم من النكسات التي أصابتها في السنوات الأخيرة.
بالنسبة إلى الشرق الأوسط الملتهب وإلى الكثير من الدول العربية التي تعيش على فوهة بركان الفوضى التدميرية، يسود القلق، في الإجمال، لأن ديناميكية السباق الرئاسي الأميركي ومقاربات كلينتون وترامب لشؤون المنطقة لا تدلان على مؤشرات على تطور إيجابي محسوم بالمقارنة مع ولايتيْ باراك أوباما.
تتحفنا الولايات المتحدة الأميركية بكل ما هو مبتكر أو جديد أو هوليوودي، ولا يخلو ذلك أحيانا من الابتذال في بلاد حضارة الاستهلاك، لكن بلاد توماس جيفرسون تشهد اليوم مثل غيرها أزمة الديمقراطية (معطوفة على أزمة العولمة الرأسمالية منذ العام 2008) كمنهج لاختيار الحكام وإدارة الحياة العامة، والدليل القاطع أن تسفر الانتخابات التمهيدية المشحونة عن إيصال رجل الأعمال اليميني المتطرف دونالد ترامب لينتزع ترشيح الحزب الجمهوري، مقابل وزيرة الخارجية السابقة والمرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون، مما يطلق العنان لسباق مثير بين شخصيتين مختلفتين تماما.
سيكون الصراع قاسيا يغلبه الطابع الشخصي والاستعراضي على خلفية أيديولوجية بين “الانعزالي” ترامب الذي يريد أميركا قلعة محصنة، ويركز على استعادة عظمتها حسب معاييره، وبين كلينتون السياسية المخضرمة والمرأة الأولى التي تصل إلى هذا السباق وتعلم جيدا أهمية السياسة الخارجية ومخاطر تلكؤ واشنطن عن تحمل مسؤولياتها إزاء الأزمات الدولية. وبالطبع أيا كان الفائز فإنه سيكون محكوما بلعبة المؤسسات ومجموعات الضغط على أنواعها.
قبل احتدام التنافس بشكل رسمي، أتى اعتداء أورلاندو الإرهابي ليهيمن على مجريات الحملة الانتخابية ويمنح الفرصة لترامب كي يسدد سهامه ويربط الإرهاب بالإسلام، ويغلّب خطاب القطيعة، وفي المقابل قاربت كلينتون المقتلة بوجوب فرض قيود على بيع الأسلحة والتفكير حول مواجهة ما يسمى “الذئـاب المنفردة”. لكن وزيرة الخارجية السابقة، والتي كانت قد تعرضت لاتهام مشاركة المملكة العربية السعودية في تمويل حملتها، انتهزت الفعل الشائن للمواطن الأميركي متين كي تطلب من “السعودية وقطر والكويت المزيد من التشدد في منع مواطنيهم من تمويل الإرهاب”. وهكذا نستنتج أن ترامب وكلينتون سيعملان لحماية الأميركيين ومصلحة بلادهما، وأن على العرب ألا ينتظروا الترياق من بلاد العم سام. خاصة أن ملفات السياسـة الخارجية متراكمة أمام المتبـارزين من الحرب ضد الإرهاب إلى النزاع الأوكراني، والتوتر الروسي – الأطلسي والمشكلات في بحر الصين وشبه الجزيرة الكورية، بالإضافة إلى النزاعات في سوريا والعـراق وليبيا واليمن والمسألة الفلسطينية. وإذا كان بين كلينتون وترامب من قاسم مشترك فهو يتمثل في الحرص على دعم إسرائيل ومحاولة منحها ميزات إضافية.
من وودرو ولسون حتى بـاراك أوباما، كان لكل رئيس أميركي بصماته في تاريخ الشرق الأوسط بشكل أو بآخر. ومن نافلة القول أن فشل الإدارة الحالية في معالجة وإدارة الأزمات المتفاقمة في السنوات الأخيرة سيترك تداعياته على العلاقات الأميركية مع الشركاء العرب التقليديين. والملفـت أن أوباما لن يقطف الرهان الكبير في تعويله على الشراكة مع إيران بعد الاتفاق النووي، وليس من المتوقع أن نصل إلى شهر العسل الأميركي – الإيراني مع كلينتون أو ترامب. ومهما كان التقييم لإدارة أوباما وأدائها العربي، يتوجب التأكيد على أن كل علاقة بين دول تكون مبنية وفق موازين قوى وعناصر قوة وعناصر ضعف، وليس هناك من هدايا في لعبة المصالح لمن لا يدافع عن نفسه ويرتب أمور بيته ونظامه الإقليمي في المقام الأول.
منذ محاولة واشنطن التأثير على إعادة تركيب الإقليم بعد الحرب العالمية الأولى مع لجنة كينغ – كراين، إلى اتفاق كوينسي مع المملكة العربية السعودية، ومن موقف أيزنهاور من حملة السويس وأولوية دعم إسرائيـل، إلى حرب العراق وأزمات الحـاضر، تحكمت “الشيزوفرينيا” في علاقات العرب مع أميركا، وطال هذا الانفصام في الشخصية الأفراد والشعوب والأنظمة.
في أيام ما كان يسمى منظومة الصمود والتصدي في القرن الماضي كان الصوت عاليا ضد الامبريالية الأميركية، وفي السر كان كل الهم كسب رضا واشنطن. وفي المقابل كانت الولايات المتحدة تقر بدعمها ما تسميه منظومة الاستقرار الخادع السلطوية، وتعمل، ضمنا، مع الإسلام السياسي وقوى أخرى على التمسك برافعات النفوذ في كل السيناريوهات. ومما لا شك فيه أن السياسة الأميركية في الشرق الأوسط تصنعها كذلك مجموعات ضغط (اللوبي) الصناعة العسكرية وصناعة النفط واللوبي المؤيد لإسرائيل، لكن في الفترة الأخيرة لاحظنا تنامي نفوذ مجموعة ضغط مؤيدة لإيران، بينما تأخرت دول عربية معنية في إيلاء هذا الاستثمار الاهتمام الكافي، ويجري الآن الاستدراك نظرا لأهمية هذه العلاقات العامة في تغيير الصورة النمطية السائدة عن العرب، لا تنفع المبالغة في الكلام عن الصلة الحميمة والعلاقة الاستراتيجية أو الأكثر من الشك والتوجس وتوجيه الاتهامات، بل يتمثل المجدي في قراءة متمعنة لكيفية صنع السياسة الأميركية وكواليسها وقنواتها. وفي هذا السياق ليس من المجدي قذع دونالد ترامب أو مدح هيلاري كلينتون، بل التعامل بواقعية وبناء صلات مؤسساتية وإبراز ما تبقى من عناصر القوة العربية. وتمثل التحركات السعودية الأخيرة، وأبرزها زيارة ولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى واشنطن، خطوات في الاتجاه الصحيح.
سيختـار الشعـب الأميـركي رئيسـه وليـس العـرب وغير العرب لهم عـلاقة مباشرة بهـذا الخيـار، لكن نتيجة الانتخـابات سترشدنا إلى أميـركا التي تعنينـا وتهمنـا. أوبـاما قالها من دون مواربة “الولايات المتحدة الأميـركية هي الأمـة الأقـوى في العـالـم. نقطـة على السطر”، لكن الأهم أن يراها العالـم كذلك، وأن ترتبط العدالة بالقوة واحترام مصالح الآخرين لأن “انعدام الأمن في العالم سوف يعمق الخلافات بين الطبقات الاجتماعية والجماعات الدينية، وسيتوحد المتطرفون في شبكات واسعة النطاق في أنحاء أفريقيا والعالم العربي وأجزاء من آسيا”. ولأن “حدة المنافسة بين الولايات المتحدة والصين وروسيا ستزداد، مما يزيد من مخاطر المواجهات المستقبلية”.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس