كثيرون، وغالبيتهم من المواطنين العاديين، تساءلوا كيف أمكن الرئيس السوري بشار الاسد أن يجد وقتاً ليهتم بما آلت اليه الأمور، على صعيد تأليف الحكومة في لبنان، فيما كانت الدماء تسيل في بلاده ولا سيما في درعا. وأحد مطلقي التعليقات البريئة توقع أن يشاهد الاسد جالساً في قصره الرئاسي غداة اندلاع الاحتجاجات وسقوط قتلى في المدينة السورية الجنوبية في 18 آذار، والى جانبه شخصيات أو وفود من منطقة التوتر يتدارس معها السبيل لاحتوائه، لا أن يطل تباعاً مع النائبين سليمان فرنجية ووليد جنبلاط ليسمع منهما ويعطي رأيه أمامهما في العقبات التي يصادفها رئيس الحكومة اللبنانية المكلف نجيب ميقاتي.
رب قائل ان الرئيس السوري مطمئن الى ما ستؤول اليه الامور في بلاده، فوجد وقتاً كافياً لمدّ يد العون الى جاره الذي يتخبط في أزمة حكومية تجاوز عمرها الشهرين. لكن هذا المبرر تهاوى بعدما تبيّن ان سوريا انضمت الى لائحة البلدان التي يجتاحها تسونامي التغيير في العالم العربي. وعليه، ومن باب رد التحية بأحسن منها، يتساءل المرء لماذا لا يبادر رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان، وهو صاحب الخبرة العسكرية لكونه قائداً سابقاً للجيش في لبنان، فيتصل بنظيره وجاره السوري عارضاً عليه مساعدته في اطفاء النار في درعا، موظفاً تجربته في إخماد نيران لبنان منذ عام 2005؟ وهنا يجب التعامل باهتمام مع هذه الفكرة لا تسخيفها، بعدما تبيّن ان الغرابة كل الغرابة هي ان يعطي الاسد وقتاً لأزمة حكومية في لبنان فيما يواجه نظامه أزمة وجودية في سوريا.
منذ 25 كانون الثاني الماضي والحظ لا يبتسم للاسد وأتباعه في لبنان. في ذلك اليوم الذي اتخذ التاريخ مساراً تغييرياً في مصر أدى الى سقوط الرئيس حسني مبارك اتخذ الرئيس السوري بالاصالة والأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصر الله بالنيابة قرار اطاحة الرئيس سعد الحريري زعيم غالبية برلمانية وشعبية والإتيان بالرئيس ميقاتي الذي لا زعامة له برلمانيا وشعبياً. لقد فتح النظام السوري وأتباعه في لبنان على أنفسهم باباً ظناً منهم أن لا رياح ستهب منه. لكن حساباتهم أخطأت، فالرياح العاتية كانت قد بدأت تهب لتوها. وفي 19 آذار أطل السيد نصر الله ليعلن تضامنه مع ثورات العالم العربي، فاذا بثورة سوريا تتحرك في اليوم السابق فلم يشر اليها بكلمة، فيما كان معظم كلامه يتجه الى البحرين حيث تسبب للبنان بورطة كان في غنى عنها. اما الان وفي عزّ احتدام لهيب التغيير في المنطقة، والذي بلغ سوريا، فما زال النظام السوري واتباعه في لبنان يحاولون ان يحركوا عجلات قطار توقفت عام 2005 عندما أنهت الأكثرية الساحقة من اللبنانيين وصاية النظام السوري على لبنان، ويأتوا بحكومة تعيد زمن الوصاية.
قبل 21 عاما تقريباً، اختار الرئيس العراقي السابق صدام حسين ان يغزو الكويت. وكاتب هذه السطور كان في الامارة يعمل في الصحافة. فجاء الغزو العراقي ليشتت مئات الألوف من الساعين الى رزقهم ومنهم لبنانيون كثر، في وقت كان لبنان يرزح، تحت وطأة حرب العماد ميشال عون في وجه المسيحيين اولا، ثم في وجه السوريين ثانيا، الى ان انتهى أمره على يد السوريين. وخلال رحلة العودة براً من الكويت التي احتلها صدام حسين صيف عام 1990، وذلك عبر العراق والاردن وسوريا كانت المشكلة عند نقطة الحدود في درعا. فقد فرض الجمرك السوري على العابرين رسوماً فاقت إمكاناتهم، بعدما فاجأهم الغزو العراقي وبقيت مدخراتهم في المصارف الكويتية التي أغلقت أبوابها. وقد شاهدت بأم العين كيف كان الرجال والنساء يضعون مقتنياتهم الثمينة من ساعات وحلى امام عناصر الجمرك في درعا لتسديد هذه الرسوم. ولما وصلني الدور، وكنت مع أسرتي التي تضم زوجتي وأولادي الثلاثة لا نملك سوى ما يسدد ثمن المحروقات للسيارة، العطشى لتجتاز هذه المسافة الطويلة بين الكويت ولبنان، قلت للموظف امامي: “يا سيدي انا لا املك شيئاً مما تطلبه”. فأجابني بلامبالاة: “إذاً، لن تمر”. عندئذ أصابتني نوبة غضب وقلت له بصوت عال: “لقد شرّدنا صدام حسين من الكويت وأنتم تكملون المهمة هنا!”. فرد على غضبي بغضب أعلى. فتطايرت الكلمات بيننا لينتهي الأمر بي مخفوراً الى غرفة توقيف للمطلوبين. اعتبرت ان الحادث سيؤدي بي الى سجن المزة، وهكذا اقتنع اللبنانيون الذين كانوا في المكان، فيما كانت أسرتي في السيارة المتوقفة بعيدا لا تعلم شيئا مما يدور حولها. لكن الأقدار ابتسمت لي في عز العبوس، ليتبيّن ان رئيس المركز من آل عياش. فعاملني كأحد افراد عائلته ويسّر لي معاملة اجتياز الحدود من دون ان أدفع قرشا. وفي 18 آذار الجاري قرأت في وكالات الأنباء ان من بين الدفعة الاولى من شهداء درعا شاباً في عمر الورود يدعى حسام عبد الوالي عياش. فقفز قلبي من مكانه ألماً وعاد إليّ ما مررت به على الحدود في درعا. وأدركت ان هذه المنطقة التي طوّقت عنقي بجميل شخصي، ولو من باب اسم العائلة، تطوّق اليوم ايضا عنق سوريا وايضا لبنان بجميل انهاء الطغيان.
ولا يزال الكثيرون من جنوب لبنان يتذكرون أفضال درعا عليهم عندما كانت احوالهم تتدهور في الحوادث التاريخية في القرن الماضي، فيلجأون اليها طلباً للامان والرزق حتى استقر ببعضهم المقام هناك حتى اليوم.
سيكون اللسان أعجز من أن يجاري ابن درعا الشاعر العربي الكبير ابو تمام الذي اوقد الحماسة في أمته قبل مئات السنين
بقصيدته التي يقول في مطلعها:
السيف أصدق إنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب.
وبلغة اليوم، فإن سيف ابو تمام هو الآن شجاعة الأحرار في درعا وكل المنطقة العربية.
ahmad.ayash@annahar.com.lb