ــ ١ ــ
كانت الثورة الدائمة أملاً لدى المفكرين الذين يؤمنون بالأسلوب الثوري، ولكن هذا لم يتحقق، كما لم تتحقق آمال عديدة شعبية ثورية كإحلال الاقتصاد التعاوني محل الاقتصاد الرأسمالي، والجمع بين النقد والعمل كأن تصدر إحدى العملات بعمل ساعة وأخرى بعمل ثماني ساعات أو عمل أسبوع أو عمل شهر، وقد يتمايز العمل فيتغير لون ورق العملة، ولم تتحقق السينديكالية التي تصورها «روبرت أوين» عندما يضرب العمال عن العمل فيتهاوى المجتمع وعندئذ يتقلدون هم زمام الأمور ويديرونها بما يحقق العدالة، بل لم يتحقق ــ أو لم تستمر ــ أكثر هذه الآمال تواضعًا، وهي أن يتخلص العمال من «عبودية الأجور»، وأن يتولى العمال أنفسهم إدارة المصانع كما حدث فى يوغوسلافيا فى الستينيات من القرن الماضى عندما أرادت الدولة أن يتحرر العمال من «عبودية الأجور»، فجعلت العاملين فى كل مصنع ملاكاً له، وتركتهم ليديروه بالطريقة التى يرون، شرط ألا يبيعوها، وقام العمال بذلك فكونوا مجلس إدارة منهم وعينوا مديرًا فنيًا وبدا أن التجربة نجحت، وأصدرت منظمة العمل الدولية كتابًا ضخمًا عن التجربة قمنا بترجمته، ولكنها لم تستمر لانفراط نظام «جوزيف تيتـو».
سُـقنا هذه المقدمة عن أمنيات للشعوب لم تتحقق لأننا رأينا احتمال إقامة «الثورة الدائمة» كجزء من تجربة ثورة ٢٥ يناير سنة ٢٠١١، لأن الظروف والملابسات جعلتها تتكوَّن تلقائيًا، وتتمكن من حشد جموع تصل إلى الملايين وتتخذ من ميدان التحرير مقرًا ونقطة انطلاق، وبالممارسة توصلت إلى أسلوب حضاري متميز للضغط على الحكومة، هو الحشد السلمي للجماهير يوم الجمعة.. يوم الصلاة الجامعة.. ويوم الإجازة، فلا يتعطل الإنتاج، وأدى تلكؤ السلطات الحاكمة في الاستجابة لمطالبها إلى أن تعيد الحشد جمعة بعد أخرى حتى تتحقق إرادة الشعب، وقد يُظن عندما تصل إلى هذا أنها تكون قد أدت مهمتها وأن عليها أن تنفرط، ولكن تجربتها مع السلطات أكدت لها أنه ما لم توجد أداة جماهيرية منظمة للثورة، فإن الأداء الذي ستقوم به الحكومة سيهبط وتتطرق إليه البيروقراطية وأصحاب المصالح.
بالطبع أن الصورة بعد الاستجابة للمطالب ستتغير عن الصورة قبل الاستجابة، فقبل الاستجابة كان لابد أن يجاوز الحشد المليون حتى تخشع الحكومة وتسلم، أما بعد تحقيق المطالب، وعندما تكون المهمة الحرص على المواصلة والمتابعة والحيلولة دون نكث الحكومة أو تسلل عوامل الوهن إليها، فإن الأمر لا يتطلب الحشد المليوني، ولكن البقاء الدائم للثورة بصورة تمكنها من مواصلة المتابعة، وعند الضرورة ــ أي عندما تنكث الحكومة- فيمكنها أن تستدعى الملايين التى لم تقطع علاقتها بها بحكم وجودها، وتتكرر القصة.
الثورة الدائمة إذن ممكنة بل ضرورية، ولعلها أن تكون أحد الحلول التى أبدعتها هذه الثورة الفريدة، ولعل ذلك أن يدخل تاريخ الثورات باسم «جمعة ميدان التحرير»، وقد تأخذ بها شعوب أخرى بعد أن تحل «الأحد» محل «الجمعة».
والتحقيق العملي لهذا الكلام كله يوجب نوعًا من التنظيم لضمان سلامة واستمرارية العمل، ويمكن أن يكون شيئاً كهذا:
١- يخصص مكان واسع فى ميدان التحرير لثورة ٢٥ يناير يتميز عن بقية الميدان ويسمح باجتماع الألوف من العمال ويكون هذا المكان ملكاً للثورة لا يشاركها فيه أحد، ويوجد فيه الجهاز الإداري، كما تعقد فيه الاجتماعات، ويمكن لقيادة الثورة أن تخصص مكاناً تضع فيه بعض المنصات ليمكن لمن شاء أن يقول ما شاء تعبيرًا منها عن انفتاحها ولاستمرار السياق الشعبى.
٢- يكون للثورة الدائمة جهاز أمناء من ثلاثين عضوًا ويعقد جلسات يرأس كل واحدة أحد الأمناء وينتخب الرئيس والسكرتير لمدة ثلاث سنوات، كما تكون للجهاز جمعية عمومية تجتمع بصفة دائمة تضم من ٥٠٠ إلى ١٠٠٠ ترسلهم فروع قيادة الثورة فى المحافظات طبقاً لنظام يضعه مجلس الأمناء.
٣- يتصل هذا الجهاز بأجهزة مثيلة له على مستوى المحافظات والمدن…إلخ، ويكون الجميع على اتصال وثيق بالجماهير.
٤- يتابع الأمناء أداء الحكومة، فإذا كانت أمينة.. متجاوبة.. اعترف لها بهذا، أما إذا قصرت فإن الأمناء يطلبون إليها تصحيح ذلك.
٥- إذا لم تستجب الحكومة فيدعو الجهاز بقية الأجهزة إلى الاجتماع فى ميدان التحرير لاجتماع «ألفى» فى يوم جمعة، أي يضم من ٢٠٠٠٠ إلى ٣٠٠٠٠، ويرسل مذكرة تاركاً للحكومة أسبوعًا لتغيير مسلكها.
٦- إذا لم تستجب الحكومة فيمكن لجهاز الأمناء حشد مجموعة مليونية للضغط على الحكومة للتجاوب مع إرادة الشعب.
وأهم شىء فى ضوء هذه القضية كلها ألا تقطع قيادات الثورة، على اختلاف مستوياتها، اتصالها بالجماهير، وأن تحرص على تماسكها الداخلى بحيث لا يجدُّ عليها وهن أو خلاف وعليها أن تتخذ لتوثيق هذه العلاقة كل الوسائل من التواصل والاجتماعات والنشر بمختلف الوسائل الحديثة التى أتاحها الكمبيوتر على أن التواصل الشخصى سيظل دائمًا أهمها.
بهذا توجد «الثورة الدائمة» وتوجد ما يشبه الحكومة الشعبية الموازية للحكومة الرسمية، التى يمكنها كبح جماح السلطة وتسييرها لخدمة الشعب.
والعنصر الرئيسي في هذا كله هو الميدان والجماهير، وبدون الميدان والجماهير لن تكون هناك ثورة، ومن هنا فلا يجوز للثورة مهما كان التجاوب معها أن تفرط في حقها فى الميدان وفى أن تشغله بالصورة التى تثبت وجودها دون مضايقة للمرور أو غيره.
ــ ٢ ــ
أخشى ما أخشاه أن تـُـظلم هذه الثورة الرائعة ــ الفلتة ــ المعجزة، بل أسوأ من ظلمها الانقضاض عليها أو محاولة تمييعها.
والانقضاض عليها أو تمييعها يمكن أن يأتى من أنصار العهد المباركى والمستفيد منه، وهم جبهة قوية، ولم تـُـعامل بحزم ثورى يقضى على خطورتها، بل قيل إنها ستحاكم محاكمة عادلة، والنقص هنا أن هذه المحاكمة العادلة تأخرت طويلاً، حتى استعادوا قوتهم ولن يعجزهم أن يديروا موقعة أخرى مثل «موقعة الجمل»، والأنكى أن محاكمتهم لن تكون أبدًا عادلة.
ذلك لأنهم يحاكمون بقوانين هم الذين وضعوها وهم الذين جعلوها تتضمن ثغرات تسمح لهم بارتكاب جرائمهم دون أن يُدانوا، فقد وضعها ترزية قوانين، وصدَّق عليها مجلس مزور، وأفتاها رئيس فقيه دستورى يحلل الحرام ويحرم الحلال، ويقضى أن المجلس سيد قراره.
لهذا فإننا نجد هؤلاء المجرمين يتبجحون، وكل واحد يقول إنه برىء، ويطالب بأن يحقق معهم، وحقق معهم بالفعل وعلى رأسهم وزير الإسكان وخرجوا أبرياء.
تلك نقطة دقت على الذين يتعلقون بشكلية القوانين، ويظنون أن القوانين مقدسة دائمًا، ولا يعلمون أن القوانين فى المجتمع الطبقى إنما تسبغ الشرعية على مصالح الطبقة المسيطرة، ونعترف بأن النائب العام يبذل جهدًا فائقاً، ولكن أين يذهب أمام هذا الخضم من الجرائم؟
فإذا كان للمادة الثانية من الدستور فائدة ــ فهذا يومها ــ فطبقوا عليهم حد الحرابة الذى يجعل من الممكن «أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ»، وليس فى هذا «وحشـية» بعد أن فرضوا التعاسة والشـقاء على الشعب وأن يشرب من مياه المصارف، ولا يجد رغيف العيش، ولا نوراً، ولا كهرباء، وأن يعيش فى عشوائيات، وبعد أن نهبوا البنوك والأراضى وسلموا الصناعة والتجارة إلى مستثمرين أجانب فهدموها.
ويمكن أن تـُـظلم الثورة، ويمكن أن يأتى هذا الظلم من الذين أشعلوا شرارتها وأحكموا طريقتها ويحدث هذا لو سمحوا لوحدتهم أن يتطرق إليها خلاف أو صراع أو أن يستهدفوا السلطة المهلكة، أو أن يعتبروا أنفسهم صاحب الثورة والمحتكر الوحيد لها، لقد كانوا بالفعل الذين فجّروها، ولكن عندما تولاها الشعب وساندها بالملايين، فإنه كان يتجاوب مع إرادة «التغيير» وطلبًا للحرية والعدالة، فلم تعد الثورة ملكهم، بل أصبحت ثورة الشعب.
وإذا كان لى أن أقترح عليهم شيئاً فهو أن يجعلوا الدكتور البرادعى ممثلهم، فقد أثبت إيمانه بالتغيير وهو صاحب المبادئ السبعة، وأعتقد أن عليهم التنسيق معه فهو أولى بهم وهم أولى به.
ويمكن أن يظلم الثورة المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذى اؤتمن على «تسيير» الأمور إذا تجاهلها وهى صاحبة الفضل الأول، وأقول له «كن مع الشعب، وانس صفتك العسكرية»، لأن خصيصة الجيش هى الدفاع عن استقلال البلاد وحماية أرضها ولا يدخل ذلك فيما نحن بصدده، إنما الوارد طريقة الحكم السياسى الاجتماعى الاقتصادى، وفى هذه فإن إرادة الشعب، وبصيرة الشعب، هى السلطة العليا التى يكون علينا جميعًا الالتزام بها.
وليذكر الجيش أن رئيس الجمهورية لا يكتسب صفته إلا بعد أن يقسم يمين الولاء للوطن، وأنه إذا كان عليهم التزام نحو الحاكم، فذلك لأن الحاكم نفسه أقسم اليمين للوطن وللحكم بإرادة الشعب، فإذا تجاوب المجلس مع الثورة، وهى إرادة الشعب فلا يتنافى هذا مع قسمه القديم للحاكم.
على أن الشعب، وبعد أن أصبح صاحب الثورة، فإنه يمكن أن يظلمها، ذلك أن نجاحه الباهر فى إزالة أكبر طاغية فى المنطقة وسلوكه النبيل سواء مع شباب الثورة، أو المجلس العسكرى أو إسقاطه لكل الولاءات إلا الولاء للوطن- كل هذا جعل هذه الثورة «أسوة» و«قدوة» ونموذجًا ألهم الشعوب العربية للثورة على قادتهم فقامت الثورة فى ليبيا وفى البحرين وفى عمان واكتسبت قوة كبيرة فى اليمن والعراق، فإذا انتكس الشعب أو تصرف بما يحول دون كمال نجاح هذه الثورة، فإن آثار ذلك لن تنعكس على مصر وحدها، وإنما ستكون لها أصداؤها السيئة على بقية الشعوب العربية.
بل يمكن أن نقول إن هذه الثورة أصبحت ملكاً للعالم وجزءاً من تاريخ الثورات، وأعتقد أن ثورة أخرى لن تظفر بمثل ما قاله أوباما عنها، ولا ما اعترف به بقية قادة العالم، وأن على الشعب أن يكون جديرًا به محافظاً عليه.
جاء على النت خبر يقول «إن شخصية مهمة جدًا ذهبت عام ٢٠٠٥ إلى البنك المركزى المصري، وسحبت مبلغ ٧٥٠ مليون دولار، وأودعت المبلغ عربة كانت منتظرة ذهبت به إلى جنيف ومنها إلى بدروم السفارة المصرية، وحاول المسؤولون إيداع المبلغ في البنوك التي رفضت كلها لأن لديها تعليمات بعدم إيداع مبالغ كبيرة بأسماء أشخاص، ولكن بأسماء حكومات»، ونحن ننشره كبلاغ للنائب العام، كطلب صاحب «النت».
* القاهرة