تطورت الانتفاضة في ليبيا وتحولت إلى صراع عسكري كبير، حيث أن القذافي ونظامه، وإلى درجة أقل خصومه، يستخدمون مستويات كبيرة من العنف، بما في ذلك الاستعانة بالأسلحة الثقيلة. وقد قُتل وجُرح الآلاف.
وفي الوقت الراهن، يميل التوازن العسكري نوعاً ما لصالح المعارضة. فقد تكبدت قوات النظام خسائر فادحة في منظومات الأسلحة والأفراد، وواجهت صعوبة في إعادة الاستيلاء على المناطق التي فقدت السيطرة عليها. ومع ذلك، تقاتل الحكومة بجد للحفاظ على سيطرتها على طرابلس وإخراج المعارضة من المدن التي استولت عليها. إن النظام لم يخرج بعد من القتال، وهناك صراع مطول وعنيف آخذ في التشكل.
مسار وجغرافية الصراع
بدءاً من 15 شباط/فبراير، نشأ الصراع على مساحة واسعة من أرض ليبيا مع وقوع اضطرابات مدنية في طرابلس وبنغازي وانتشارها بسرعة إلى مدن أخرى مع زيادة شدتها وحدتها. وقد طالت الاضطرابات اثنين وعشرين مدينة على الأقل، أبرزها المجتمعات الساحلية الرئيسية حيث يتركز معظم السكان ومحطات تصدير النفط. كما انخرطت في هذه الاضطرابات مناطق حضرية داخل ليبيا تمتد حتى أقصى الجنوب.
وبحلول 23 شباط/فبراير، فقد النظام سيطرته على الشرق فعلياً، بسقوط مدن مثل بنغازي والبيضاء وأجدابيا ودرنة وطبرق ومدن أخرى في أيدي المعارضة. ولم تحقق المعارضة نفس القدر من النجاح في القسم الغربي من البلاد، رغم سيطرتها على العديد من المجتمعات الرئيسية، مثل مدينة مصراتة التي شهدت نزاعات ساخنة، والتي سقطت في 27 شباط/فبراير، ومدينة الزاوية. وحتى في هذه الحالات، تذكر التقارير أن قوات النظام لا تزال تعمل في مناطق مجاورة وتحاول شن هجمات مضادة لاستعادة تلك المدن. وفي غضون ذلك، لا تزال طرابلس تحت سيطرة النظام، ويبدو أن المعارضة قد تم قمعها هناك إلى حد كبير.
التطورات العسكرية الكبرى
هناك عدة عوامل أثرت على مسار القتال. أوّلاً، انهيار النظام في الشرق في غضون أيام قليلة فقط، وهو تطور نُسب إلى المفاجأة من حجم ونطاق المظاهرات، إلى جانب ارتداد أفراد الجيش النظاميين، وإصرار المعارضة حتى في وجه استخدام العنف الخطير.
ثانياً، الفعالية النسبية لقوات المعارضة. لقد استطاع المتظاهرون من خلال أسلحة بدائية أو خفيفة (في البداية على الأقل)، والتنظيم القليل بشكل واضح، والتدريب العسكري القليل أو المنعدم، أن ينجحوا في التغلب على قوات الأمن الحكومية. ومنذ ذلك الحين، أصبحت المعارضة أفضل تسليحاً وتنظيماً بفضل مشاركة أفراد جيش كانوا سابقاً في قوات النظام.
ثالثاً، انهيار التماسك والانسجام داخل الجيش النظامي. اعتباراً من 17 شباط/فبراير، بدء بعض أفراد الأمن التابعين للنظام يرفضون الانخراط في القتال بل حتى انشقوا على النظام. وقد استمر هذا الانحلال، مما أضعف من قدرة النظام على الرد وعزز من قدرات المعارضة.
رابعاً، رغبة النظام في نشر أسلحة ثقيلة ضد المعارضة. لقد استخدم النظام أثناء القتال دبابات ومدفعية ومدافع مضادة للطائرات وطائرات مقاتلة ذات أجنحة ثابتة وأخرى ذات أجنحة دوارة.
وقد جاءت معظم هذه التطورات لصالح المعارضة. ويقيناً، يواصل النظام السيطرة على مناطق رئيسية في الغرب، وتنفيذ عمليات منسقة، والقيام بأنشطة تعزيز طويلة المدى إلى جانب تحركات تكتيكية وعملياتية محلية. ورغم ذلك، فإن قدرته المحدودة على إعادة السيطرة على مناطق أخرى تشير إلى صعوبات في تجميع وتنسيق قوات ضخمة وغياب الإرادة لدى بعض الأفراد للدخول في قتال شديد.
أنواع القوات
استخدم النظام ما لا يقل عن خمسة أنواع مختلفة من القوات ضد المعارضة، وهي: الجيش النظامي، والقوات الجوية، والوحدات البحرية؛ وقوات الأمن التابعة للنظام، بما في ذلك كتيبة خميس المجهزة جيداً، وهي وحدة عسكرية ثورية تحمل اسم أحد أبناء القذافي الذي يتولى قيادتها أيضاً؛ وعناصر الميليشيات التي ترعاها الحكومة؛ والمرتزقة الأجانب والمحليين؛ والمدنيين الموالين للنظام الذين تم تزويدهم بأسلحة خفيفة. وعلى الرغم من تباين أداء هذه العناصر، إلا أن الحكومة تمكنت من البقاء في أي مكان حققت فيه تركيزاً كبيراً للقوات.
ويبدو أن قوات المعارضة تتكون من نوعين: أعداد كبيرة من المتظاهرين غير المسلحين بصفة أساسية أو المسلحين بأسلحة خفيفة، والأفراد العسكريين الذين انشقوا عن النظام، بما في ذلك احتمال انضمام بعض الوحدات الصغيرة. وقد لوحظ أن بعض عناصر المعارضة تستخدم الأسلحة العسكرية (مثل الدبابات، ومركبات المشاة القتالية المدرعة، والمدافع الرشاشة الثقيلة المضادة للطائرات، والأسلحة المضادة للدبابات)، لكن مع قدر قليل من التنظيم على ما يبدو. هذا بالإضافة إلى الأعداد الكبيرة من الأسلحة العسكرية الصغيرة التي هي الآن في حوزتهم.
تكتيكات النظام
ركّز أسلوب التعامل الذي تتبعه الحكومة على الاحتفاظ بالمدن والمطارات أو إعادة السيطرة عليها. ويُعد القتال من أجل السيطرة على المدن هو الصراع الرئيسي، لكن ظهرت المطارات كأماكن هامة، يمكن أن [تقلع منها طائرات] النظام لفرض سيطرتها المتبقية، مثل دعم الهجمات الجوية وتحركات القوات. ويسعى القذافي على ما يبدو إلى إنشاء وتأمين منطقة سيطرة من مرسى البريقة [ميناء ومنطقة صناعية نفطية] في الشرق وحتى الحدود التونسية.
وتضمنت أساليب ومناورات النظام ضد المعارضة استخدام قناصة وأسلحة آلية ثقيلة وغاز مسيل للدموع ورصاص مطاطي. وبالإضافة إلى ذلك، استخدمت دوريات متجولة من المرتزقة والميلشيات، الذخيرة الحية لإخلاء الشوارع والسيطرة عليها ومنع تشكل المظاهرات. وفي المناطق التي فقد النظام السيطرة عليها، فإنه يستخدم مجموعة من القوات الثقيلة والخفيفة لشن هجمات مضادة. وقد استعمل النظام طائرات نفاثة مقاتلة ومروحيات للهجوم على مستودعات الأسلحة ومرافق الاتصالات التي استولت عليها المعارضة، ويستخدم طائرات نقل ومروحيات لنقل القوات. وفي الواقع، شكل التهديد بالقيام بهجوم جوي مصدر قلق كبير لقوات المعارضة. كما يستخدم النظام عمليات الاستخبارات والمعلومات للسيطرة على تدفق المعلومات وما يتردد حول الصراع. وقد تضمنت هذه الإجراءات إعاقة الاتصالات، والحد من المعلومات المتاحة للجمهور الليبي والعالم الخارجي على حد سواء، والانخراط في نشاط دعاية هائل مؤيد للنظام.
المشهد المستقبلي
لقد ضعفت نوعاً ما التوقعات المبدئية بأنه لا يمكن إيقاف تقدم المعارضة — فقد أثبت النظام أنه أكثر مرونة مما بدا عليه في الأيام الأولى للانتفاضة. وبغض النظر عن مدى غرابة المظاهر العامة للعقيد القذافي، إلا أن الموالين له يشنون قتالاً منظماً وحازماً للحفاظ على سيطرته. ومن ناحية المعارضة، أدى غياب تنظيمها العسكري ومحدودية القوة النارية التي تتمتع بها والخصومات السياسية الناشئة في صفوفها إلى إعاقة [تقدمها]. وقد أظهرت بالفعل بعض الصعوبات في الجهود التي تشنها للاستيلاء على طرابلس بالقوة أو تعزيز مناطق أخرى متنازع عليها. وتشير جميع هذه العوامل بأن القتال قد يكون طويلاً ومُكلفاً.
ومع ذلك، يبدو أن اليد العليا هي للمعارضة. فهي تتمتع بعزم هائل، وتحظى بدعم جزء كبير من السكان (وإن لم يكن جميعهم) وتسيطر على العديد من المدن الرئيسية. وفي غضون ذلك، فقد النظام الكثير من قدرته العسكرية وليس لديه وسيلة لإعادة بنائها، على المدى القصير على الأقل. وفي ظل غياب أي حلفاء أجانب يمكن الاعتماد عليهم، يقاتل هذا النظام بقوة للاحتفاظ بسيطرته على جيب داخل البلاد.
ومن المرجح أن يتطور الصراع في أحد من ثلاثة اتجاهات واسعة:
1. قد ينهار النظام بسرعة في ظل الضغط الذي يشكله التقدم المتواصل الذي تحرزه المعارضة، وعزلته والتفسخ داخل قوات الأمن.
2. يمكن أن ينشأ صراع مطول لأن ليس لأي من الجانبين القدرة على هزيمة الآخر بسرعة. وقد يترتب عن ذلك حدوث فترة من الاشتباكات المستمرة، وربما إجراء شكل من أشكال المفاوضات، وقيام محاولات من قبل النظام للخروج من عزلته عبر تقديم وعود بالإصلاح.
3. ومن خلال قيام النظام بالاستفادة من القتال داخل المعارضة ومشاكل الإمداد والتجهيز، قد يبدأ في تأكيد نفسه مجدداً واستعادة السيطرة على المناطق المفقودة.
ومن بين هذه السيناريوهات الثلاثة، يبدو أن السيناريو الثاني هو الأكثر احتمالاً، حيث يفتقر كلا الجانبين إلى القدرات الهجومية لإنهاء الصراع بسرعة.
التداعيات
قد يكون للصراع المطول عواقب هامة عديدة. أولاً، سوف تزداد الخسائر في الأرواح والإصابات مع اتخاذ القتال منحنى أكثر خطورة، حيث إن ذلك سيلحق أضرار بالاقتصاد والبنية التحتية. ومن شأن هذا أن يزيد من المخاوف الإنسانية ويؤدي إلى تدفق المزيد من اللاجئين في الداخل والخارج. ثانياً، سوف تؤدي زيادة الخسائر في الأرواح والإصابات والصراع المطول إلى زيادة الضغوط من أجل حدوث تدخل عسكري خارجي. وقد تركز الكثير من الاهتمام حتى الآن على إقامة مناطق حظر الطيران، لكن هذه قد لا تكون كافية للتعامل مع قوات القذافي المتبقية. إن الأدوات الرئيسية للنظام هي الوحدات البرية، لذلك من غير المحتمل أن تكون هناك حاجة لفرض مناطق حظر قيادة السيارات أو شن هجمات جوية للحد فعلاً من قدرة هذا النظام على التحرك ضد المعارضة.
جيفري وايت هو زميل للشؤون الدفاعية في معهد واشنطن ومتخصص في الشؤون العسكرية والأمنية.