أريد أولاً وقبل أن يأخذني السياق أن أحيي الشعب الليبي البطل الذي نفض عنه غبار الأباطيل التي نسجها أفاك أشر، وأبشرهم بالنصر وأن طاغيتهم سيذهب إلى الجحيم وستبقى ليبيا حرة مستقلة.
*
اعتقد البعض أن ائتلاف الثورة لن يستطيع بعد أن جمع قرابة «مليونين» في الجمعة التي خطب فيها الشيخ القرضاوي أن يجمع مليوناً آخر في الجمعة التالي، وأن قبضته على الأمور قد تراخت ولن يستطيع أن يجمع مثل هذه الجموع مرة أخرى، ولكن الائتلاف خيب ظنونهم وبدد شكوكهم، فقد جاءت الملايين، كما خرجت في مختلف العواصم، وأثبت الائتلاف أنه سيد الموقف وأنه يقوى ولا يضعف، يزيد ولا ينقص، وارتفع سقف مطالبه إلى إسقاط الوزارة والبدء الجدى فى تصفية آليات النظام السابق وأكابر مجرميه ووعد بمليونية أخرى قد تتطور إلى اعتصام إذا لم يتجاوب.
من الطبيعي أن يتضايق المجلس الأعلى للقوات المسلحة من هذه الجموع المحتشدة ونداءاتها، ولكن الحقيقة هى أنه هو المسؤول عنها وأنه لم يدع لائتلاف الثورة خياراً آخر.
فمن الواضح أن هذا الائتلاف الذي فجّر شرارة الثورة والذى تجاوب معه الشعب من أقصاه إلى أقصاه لأنه كان ينتظر الثورة وأنها يوم الخلاص، ولم يكن هذا ليتم، وليستمر طوال شهر لتعديل بعض مواد الدستور، ولا للقبض على أربعة أو خمسة من كبار المسؤولين، فقد كان مطلب الثورة واضحًا ومحددًا من البداية «إسقاط النظام».
والنظام يعنى آليات وقيادات هذه الآليات مثل الحزب الوطنى واتحاد العمال ومجلسى الشعب والشورى، وبالطبع وفوقها جميعًا «الوزارة» وقادتها الذين أقاموها وشغلوها.
وقد أعلن المجلس الأعلى للقوات المسلحة أن هذه المطالب مشروعة، وأنه جاء ليحققها، وأنه ليس له مطمع فى السلطة، وأنا أعتقد أنه مخلص تماماً فى ذلك، ولكن غلبت عليه طبيعته العسكرية فلم توجهه الوجهة التى يقتضيها السياق وكانت تملى عليه أن يعلن فوراً حل كل الآليات المزورة التى كانت تحكم وإلقاء القبض على قادتها، أو على الأقل التحفظ عليهم فى بيوتهم وحرمانهم من التصرف فى أموالهم ومراقبة تليفوناتهم، حتى لا ينفسح المجال لهم لتهريب أموالهم أو لعرقلة عمل الثورة.
لو أنه فعل هذا لعزز الثقة التى منحها الشعب له ولأرضى الائتلاف الذى فجر هذه الثورة، ولحقق آمال الملايين.
*
يا ليت المجلس الأعلى للقوات المسلحة رجع إلى سوابق مجيدة لجيش مصر.
في سبتمبر سنة ١٨٨١ وقف الأميرالاى عرابى ووراءه قادة الجيش وفرقه، ووراءهم تمامًا كل الشخصيات البارزة التي تمثل الشعب المدني بمصر، وطالب عرابي الخديو بزيادة عدد الجيش وإقالة وزارة رياض ووضع دستور.
واستجاب الخديو توفيق، علمًا بأنه كان أسوأ خديو، وأنه لم ير مليونين أمامه.
ومرة أخرى..
عندما قرر ضباط ٢٣ يوليو إقالة الملك فاروق، ولم يكونوا قد سيطروا على الجيش فى القاهرة، فضلاً عن الجيش فى الإسكندرية، وأوفدوا على ماهر ومحمد نجيب ليحصلا على تنازل منه، فإنه قبل ورفض أن يستعين بقوات لم تكن قد أيدت الحركة، بل قبل أن يوقع على وثيقة «نزولاً على إرادة الشعب»، ولم يقبل أن يسفك دم.
فهل يعقل ألا تنال ثورة ٢٥ يناير سنة ٢٠١١ ما نالته ثورة عرابى سنة ١٨٨١ عندما نجحت فى إقالة الوزارة ووضع دستور؟ أو لا تنال سنة ٢٠١١ ما ناله الانقلاب الناصرى سنة ١٩٥٢ عندما تنازل الملك «نزولاً على إرادة الشعب»؟
هل العالم يتقدم أو يتأخر؟ وهل تقاس قومة عرابى وانقلاب عبدالناصر بثورة ٢٥ يناير الباهرة؟ إن الثورات لا يمكن أن تعمل بالطرق التقليدية، فإنها إن فعلت لما كانت ثورة، فالثورة لا تحدث إلا عندما يكون الفساد قد عمّ وطمّ وتشابك وتمددت خطوطه حتى لا يمكن حلها ولا يكون إلا البتر أو الثورة، فإذا مورست الحلول التقليدية فهذا يعنى أنها فقدت طبيعتها وأصبحت إصلاحًا عقيمًا لا ينجح لأن المشكلة لا تعالج بإصلاح، ولأن الوقت أيضًا لا يسمح بمماطلة.
كل الثورات كان أول عملها هو تدمير أعمدة وقادة النظام القديم، الثورة الفرنسية قضت على النبلاء كافة، وأعدمت الملك وزوجه وابنه الصغير، الثورة البلشفية قضت على الرأسمالية والإقطاعيين كافة وأعدمت أسرة القيصر، الخلافة العباسية استأصلت كل بنى أمية بل وبنى طالب ودمرتهم تدميراً.
ولم يكن الذين قاموا بهذا دعاة مذابح ولا اندفعوا لمجرد الانتقام، ولكنهم أرادوا تأمين الثورة وتأكدوا أن بقاء هؤلاء تهديد حقيقى وخطير فلم يكن هناك حل آخر.
وقد يقال: أين الشرعية.. أين الدستور؟ فنقول إن هذه الثورات اكتسبت شرعيتها من إيمان الشعب بها وإنه هو الذى قام بها، وشرعية كل ثورة تقاس بقدر شعبيتها، إن كل الدساتير تنص على أن الأمة هى مصدر السلطات وأصل الشرعيات، فإذا سألتم عن شرعية ثورة قام بها الشعب من أقصاه إلى أقصاه كنتم كالمرأة التى تبحث عن ابنها وابنها على كتفها، وحتى إذا قيل إن سفك الدماء محرم فى كل شرع، فلو كان ذلك مطلقاً لما حُكم بالإعدام على أى مجرم أو قاتل، أما الحقيقة فهى أنه حيث يسود العدل تحرم الدماء، أما عندما يسود الظلم فإن الدماء هى وسيلة لإعادة العدل.
فلا حجة فى انعدام الشرعية، فشرعية إرادة الشعب فوق كل شرعية أخرى.
يقولون نحن فى حاجة إلى وقت، فنقول لستم فى حاجة إلى وقت، وهل مجرد إصدار أمر بالتحفظ على كل أعمدة وقادة النظام ولو كانوا ألفاً يتطلب وقتاً، لقد اعتقل عبدالناصر الألوف فى عام ١٩٦٥ فى يوم واحد، ونحن لا نسألكم الاعتقال كما فعل عبدالناصر أو القتل كما فعلت الثورتان الفرنسية والشيوعية، ولكن مجرد التحفظ بحيث نحول دون أن يستخدموا صفاتهم ومراكزهم وأموالهم فى مقاومة الثورة ولكى تكون الأموال المنهوبة والأسرار المكتوبة تحت يد الثورة، وليس فى يد أعدائها.
وفى تجربتى مصر سنة ١٨٨١ وسنة ١٩٥٢ درس مهم ذلك هو أنه عندما يتلاحم الشعب مع الجيش تنجح الثورة كما حدث فى ثورة عرابى، وعندما يعمل الجيش منفرداً فإنه يفشل ويأتينا بهزيمة سنة ١٩٦٧ المخزية. وقد سنحت الفرصة لكى يتلاحم الشعب مع الجيش عندما أقر قائد المجلس الأعلى للقوات العسكرية بشرعية مطالب الثورة، فكان من الممكن أن يقوم المجلس الأعلى للقوات العسكرية بائتلاف ثورة ٢٥ يناير عن طريق مجلس مشترك يضم أيضًا بعضًا من الشخصيات التى يثق بها الشعب.لو أنه فعل لتحقق التلاحم ولتحقق النجاح.
ولكنه لم يفعل، وأمر بتشكيل وزارة كان لابد أن تعمل بالطرق التقليدية، وبهذا انحرف بالثورة عن مسارها، وألجأها إلى جمع الجموع، بينما سلكت الوزارة المسلك التقليدى فأخطأها التوفيق فى كل عملها.
وأنا أفهم أن طبيعته العسكرية كانت تحول دون ذلك، لأن الثورة لم تنبثق منه ولأنه تسلم السلطة من الحاكم المطرود، فما كان يمكن أن تسلك مسلكاً ثورياً.
أراد تعديل الدستور بينما المطلوب دستور جديد يحقق الحريات ويركز السلطة فى يد الشعب، أوجد وزارة يرأسها عسكرى كان من المقربين إلى الحاكم المطرود.
وأبقت هذه الوزارة على أفراد من أعمدة النظام القائم، فلما ثار الشعب أجرت تعديلاً احتفظت فيه بالأسوأ فى بعض الحالات وأحلت السيئ محل الأسوأ فى حالات أخرى، وإلا فما معنى الإبقاء على وزير للعدل كان كل همه تطبيق سياسة مبارك فى التضييق على القضاة والحيف على حقوقهم وتنظيم إشراف قضائى يطبق شرعية زائفة على تزييف زاعق.
وما معنى الاحتفاظ بوزير خارجية هو رمز لسياسة الاستخذاء أمام إسرائيل والعداوة لحماس، وتأييد إغلاق المعبر فى وجه الجياع؟
وما معنى إحلال ضابط هو بالقطع أفضل من المجرم الأثيم الذى كان يتولى وزارة الداخلية، ولكنه أيضًا لا يخلو من مآخذ؟
أما العجيب الغريب فهو إقالة عائشة عبد الهادى التى دخلت وزارة القوى العاملة بفضل قبلتها على يد السيدة الأولى، وتولية شخص من صناعة الطيران يعرفه الفريق شفيق ويعرف قدراته المحدودة، لكى يكون عضوًا فى مجلس إدارة اتحاد العمال. هذا الاتحاد الذي أصبح ذيلاً للسلطة، والذى ناصر الخصخصة وأيد قانون العمل الذى جرد العمال من حقوقهم.
إننا لم نفقد الثقة فى المجلس الأعلى للقوات المسلحة وما زلنا نقدر حياده ونصدق وعوده، ولكننا نخشى من أن يؤثر عليه سحر السلطة التى تجعل من الملاك شيطاناً، وأن تغلب عليه طبيعته العسكرية ونربأ به أن يكون ممن قالوا «غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا».
الباب لا يزال مفتوحاً والوقت لايزال مسموحاً، فلينهض المجلس الأعلى للقوات المسلحة ويمد يده إلى ائتلاف الثورة ويقول «أهلاً بكم أيها الأبطال.. تعالوا معنا نبن مصر الجديدة».
gamal_albanna@islamiccall.org
* القاهرة