تسير السيارة من منطقة الحمرا باتجاه وسط بيروت، وأحمد قبور يغني في الراديو ”لو جمّعنا دموع الأرض، بيطلع معنا نهر دموع“، الطريق نفسها كل يوم في كل الأوقات صباحاً ومساءاً، وأحياناً بعد منتصف الليل، ولكن المقصود هو الوصول إلى ساحة الحرية للمشاركة في ”انتفاضة الاستقلال“ عام ٢٠٠٥، من بعيد يتجمع المئات أوالآلاف أو عشرات الآلاف أو حتى الملايين في الساحة، حشد يتبدل حسب الأيام، فيوم الاثنين هو للأرقام المليونية، وباقي الأيام هي للمشاريع الشبابية المختلفة، مرة للسلسلة البشرية ومرة لأكبر علم لبناني ومرة للرسم أو غيرها من أنشطة اخترعها ساكنوا المخيم.
الليلة مطر زائد يدخل من مسارب الخيمة فأستيقظ عند الرابعة صباحاً على صوت الحركة في الخارج، شباب من ”القوات“ و ”الاشتراكي“ يحاولون تحويل المياه إلى مسارب جانبية لكي لا تغرق الخيم، يستعجلون ولكن المطر يتوقف فجأة، والمكان يحمل رائحة الربيع، فتهدأ الحركة ويعود الجميع إلى النوم، إلا الشبان الذين قرروا البقاء مستيقظين محاولين حماية المخيم من التهديدات التي أطلقها بعض حاملي السلاح والعصي من ”الأشاوس“.
ليلة أخرى ينام الجميع على الأرض، على الزفت أو الرصيف وفي خيمة الضريح بجانب الشهداء، يلتحفون السماء التي تقطعت غيومها، هناك بعض النجوم القليلة في سماء بيروت. الفئة العمرية للمعتصمين تلك الليلة لم تكن موحدة، شبان وأطفال وكهول وعجزة ناموا ليلة ٢٨ شباط على أمل الصمود في وجه التهديدات، كان عددهم خلال بداية المساء لا يتجاوز ١٥٠٠ شخص ليصلوا رغم الحصار عند ساعات الفجر الأولى إلى أكثر من ١٥٠٠٠، إنه من أصعب الأيام وأكثرها خوفاً في فترة الانتفاضة، ولكنها الليلة الأكثر فرحاً وابتسامات وزعها المعتصمون على بعضهم هناك لتشجيع الكل على البقاء مع الانتفاضة رغم التهديد والحصار.
بين ١٤ شباط ٢٠٠٥ و١٤ آذار ٢٠١١ تغيرت الظروف وتبدلت الأوضاع، ولكن بقيت مجموعة من النقاط الأساسية لم تتبدل، ما زال السلاح غير الشرعي يهدد اللبنانيين بدلاً من الوصاية، ،ما زال الشباب اللبناني يحمل أوراقه باحثاً عن فرص عمل في بلاد الله الواسعة هارباً من ”قمصان سود“ أو انتشارات مسلحة في الليل والتي تمنع فيما تمنع قيام مؤسسات. فيما صار الانقلاب عادة تطال كل شيء، من الحكومة إلى الوظائف اليومية وغيرها الكثير.
ولكن الثابت الوحيد الذي لم يستطع الانقلابيون تبديله هو الأمل الذي حققه الشباب خلال انتفاضة الاستقلال أي المحكمة الخاصة بلبنان، فمنذ استشهاد الرئيس رفيق الحريري، بدأت المنظمات الشبابية ومنظمات المجتمع المدني طرح فكرة المطالبة بلجنة تحقيق دولية لجريمة الاغتيال، حملنا العرائض ووقع عليها المشاركون في ساحة الحرية، كان هناك آلاف الأوراق التي تحمل توقيعات أفراد لبنانيين معظمهم من الشباب تطالب بإخراج التحقيق من أيدي النظام الأمني المشترك ووضعها بيد لجنة دولية لمنع تزوير الحقائق الذي مارسه البعض من خلال التلاعب بمسرح الجريمة.
العريضة الأولى وقعت خلال ليلة الاعتصام التضامني مع الشهيد باسل فليحان حين كان لا يزال يعاني من الحروق التي طالت جسده، هناك بالقرب من السان جورج حمل شباب التقدمي والتيار الوطني الحر واليسار الديموقراطي الأوراق التي تطالب بالعدالة وتدعو إلى محاسبة المجرمين بداية عبر لجنة تحقيق دولية ومن ثم عبر محكمة خاصة.
تغيرت الكثير من الأولويات عند الطرف الآخر، وبدل المشاركة في بناء الدولة صار همهم استعمال السلاح في الداخل للتخويف وتغيير المعادلات والانقلاب على نتائج صناديق الاقتراع، مرة عبر سبعة أيار أو حتى عبر معارك الحلفاء في برج أبي حيدر، والانتشار على خطوط تماس وهمية في مناطق الجبل لقلب الظروف وتغييرها، كأن هذا السلاح لا يستطيع العيش إلا بتخويف الداخل والقضاء على أمل بناء دولة مستقبلية تحمل كل التنوع.
يوم ١٤ شباط أعلن الرئيس سعد الحريري بداية مرحلة جديدة لقوى ١٤ آذار، أعلن عن ضرورة حماية المحكمة الخاصة بلبنان ورفض السلاح الموجه إلى صدور اللبنانيين، ومنذ أيام قليلة أعلن من بيت الوسط استمرار المعركة في وجه سلطة السلاح، قال كلاماً واضحاً في هذه المسألة، وأعلن عدم التخلي عن السير في حماية لبنان من الاغتيال السياسي والدفاع عن الحريات والديموقراطية. كان الرئيس سعد الحريري يتقدم في موقفه ليؤكد كما كل مرة أن العبور إلى الدولة مسألة غير قابلة للنقاش أو تقديم التنازلات، الدولة الحلم العصرية والحديثة دولة القضاء العادل والحريات العامة والخاصة ودولة القضاء فعلياً على الفساد من خلال رفع مستوى الحياة لدى الشعب اللبناني.
في الطريق إلى ١٤ آذار الجديد، هناك الكثير من الأحلام والقضايا التي تحتاج إلى تحقيق، وهناك أيضاً أمال معلقة للشباب اللبناني من أجل تحقيق شعارات تؤكد أن لبنان الواحد المستقل الديموقراطي ذو السيادة بقوانين انتخاب عصرية، هو وحده ما يجمع اللبنانيين من كل الطوائف، هذا الحلم هو ملك للناس الذين نزلوا إلى ساحة الشهداء ووضعوا حياتهم من أجل وطنهم، وسقط منهم كثيرون، من سمير قصير وجورج حاوي وجبران تويني وبيار الجميل ووليد عيدو وانطوان غانم ووسام عيد.
يوم ١٤ آذار القادم، سيعيد اللبنانيون تركيب أحد أكبر المشاهد السيادية في حياتهم من أجل وطنهم، وسيظهر في ذلك اليوم أن الشباب اللبناني لم يفقد قدرته على وضع شروطه الحقيقية في وجه السلاح والاغتيال وفي وجه الانقضاض على بنى الدولة، وكذلك رسم أحلامه وتأكيدها ليكون حجر الأساس في بنائها.