كان أحد تداعيات تفجير كنيسة القديسين، غضب أقباط مصر “العلني”. ونقول “العلني”، لأنه بالتأكيد غضب الأقباط كثيراً في تاريخهم الطويل، لكثرة ما تعرضوا له من مظالم، في مُقدمتها الاضطهاد والتفرقة.
ولكنه كان دائماً غضب مكتوم، لا يسمعه الحاكم، ولا بقية المحكومين من إخوانهم المسلمين. وكانت وما تزال الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، تدعم هذا الصمت، اعتقاداً منها أن ما يقع عليهم من ظلم هو “اختبار لإيمانهم”، وتدعّم هذا الاعتقاد عند رعايا هذه الكنيسة، جيلاً بعد جيل.
والسبب الثاني للصمت، هو عدم رغبة الكنيسة في دخول أي مواجهات مع الدولة، أو حتى إحراجها ـ ومرة أخرى، اعتقاداً بأن الدولة هي “الحامية الأمنية” لهم من “الغوغاء” ومن التنظيمات المتطرفة.
ولكن هذا الاعتقاد بأن الدولة هي الحامية، قد تعرض للاهتزاز منذ حوادث أول فتنة طائفية بلدة الخانكة، القليوبية، في خريف عام 1971، والتي أعقبها أمر مجلس الشعب بتأليف لجنة تقصي الحقائق، برئاسة المستشار جمال العُطيفي، وكيل مجلس الشعب آنذاك، وكان ضمن أعضائها د. رشدي سعيد، أبو الجيولوجيين المصريين، وعضو مجلس الشعب (أمدّ الله في عُمره). وجابت اللجنة كل أنحاء جمهورية مصر العربية لتقصي الحقائق على الطبيعة حيثما سمعت أن توتراً أو احتكاكاً كان قد وقع خلال آخر خمس سنوات. وأصدرت اللجنة تقريراً ضافياً، أنهته بعشر توصيات، رأت أنها كفيلة بسد منابع تلك الفتن، بما في ذلك إجراءات احترازية للإنذار المُبكر وناقش مجلس الشعب التقرير، وتبناه بالإجماع، فصارت له قوة القانون.
ولكن الجهات التنفيذية التي أوكل إليها تنفيذ تلك “الوصايا العشر” للتقرير، الذي أصبح يُعرف باسم “تقرير العُطيفي”، لم تنفذ أياً منها. وكانت النتيجة أن مصر شهدت ما يزيد عن مائة وستين حادثاً طائفياً، خلال الأربعين عاماً التالية لحادث مدينة الخانكة، كان آخرها حادث الإسكندرية ليلة رأس سنة 2011. وبينما لم تؤدي مواجهة الخانكة إلى أي قتلى أو حتى جرحى، أدى كل من الأحداث التالية لقتلى وجرحى بالعشرات. ومع ذلك لم يتحرك مجلس الشعب، أو الشورى، لتقصي الحقائق في أي منها. وترك الأمر كُلية لوزارة الداخلية.
وفي استطلاع سريع لآراء عينة من الأقباط، اتضح أن معظمهم يُحمّل المسئولية لكل من وزارة الداخلية ورئاسة الجمهورية. بل وذهب بعضهم إلى أن الداخلية هي التي تُدبّر هذه الفتن الطائفية، إما إلهاءً للرأي العام عن أمور عامة سالبة، مثل تزوير الانتخابات الأخيرة، أو لتبرير مد العمل بقانون الطوارئ، الذي اعتمد عليه نظام الرئيس حسني مُبارك، منذ أكتوبر 1981، في أعقاب اغتيال سلفه، الرئيس محمد أنور السادات.
ولكن الأكثر حُزناً وإزعاجاً، هو أن نسبة مُتزايدة من أقباط مصر، الذين هم أصل سُكانها وسرّ استمراريتها، يُفكرون في الهجرة إلى الخارج، إحساساً منهم بعدم الأمان، وعجز أو عدم استعداد الحكومة المصرية لتوفير الحماية لهم.
والمُزعج في هذا الأمر، أنه يتزامن مع محنة يعيشها المسيحيون في العراق. فقد استهدفهم ما يُسمى بتنظيم “القاعدة في بلاد الرافدين” (أي دجلة والفُرات)، فدمّر كنائسهم، وعرّض عشرات منهم للتشريد وللقتل. وأقباط مصر (ما بين ثمانية وعشرة ملايين) هم الكُتلة البشرية المسيحية الأكبر في العالم العربي والشرق الأوسط. وبالتالي، تكون نزعتهم لهجرة قسرية، معناه أن الشرق سيخلو من المسيحيين. وبينما ربما يروق ذلك لمتطرفين ومتزمتين مسلمين، فإنه بالقطع ينطوي على خسائر إنسانية وحضارية فادحة.
ففضلاً عما يعنيه ذلك من تقلص التنوع الإنساني، والإفقار الحضاري لمجتمعاتنا العربية، فإنه ينطوي على خسائر تنموية أكيدة. فنسبة كبيرة من عُلمائنا، وأساتذة جامعاتنا، وأطبائنا ومُهندسينا هم من الأقباط. وربما كنا في حاجة إلى تذكير الأجيال الجديدة، بأن دماء أقباط مصر اختلطت بدماء مُسلميها في كل حروب الوطن، خلال القرنين الأخيرين، أي منذ أصبح المصريون جميعاً يخضعون للتجنيد الإجباري، ومنذ فُتحت أمامهم أبواب الكُليات العسكرية في ثلاثينات القرن العشرين. وقبل ذلك حينما انفجرت ثورة 1919، كان الأقباط ضمن قياداتها ومُناضلوها، وشُهدائها، جنباً إلى جنب مع إخوتهم المسلمين. فكان مكرم وليام عبيد، رفيقاً لسعد زغلول في مواجهة جنود الاحتلال في مصر، وفي المنفى في سيشيل ومالطة، ثم في التفاوض في مؤتمر الصلح في فرساي، وأخيراً ضمن الوفد الذي وقّع مُعاهدة 1936. وبينما كان مكرم عبيد هو القبطي الألمع لأنه كان خطيباً مفوهاً، ويحفظ من آيات القرآن الكريم أكثر مما كان يحفظه زملائه المسلمين، فقد كانت زعامات ثورة 1919 تضم مسيحيين أقباطاً آخرين، منهم فخري عبد النور، الذي ظلّ أبنائه وأحفاده ضمن، نشطاء الحركة الوطنية المصرية المُعاصرة إلى اليوم. وأحدهم، وهو مُنير فخري عبد النور، أحد أقطاب حزب الوفد الجديد.
ولا يُعقل أن تظل حالة الاحتقان الطائفي على ما هي عليه، وتنفجر كل سنة أو سنتين. فالملاحظ إن كل انفجار، يجئ أشد وأسوء من سابقيه.
ومن الواضح أن هناك عجزاً سياسياً وأمنياً وثقافياً في إدارة الشأن الديني ـ الطائفي ـ المصري. وليس أسوأ منه إقليمياً وعربياً، إلا عجز النخبة السياسية السودانية، في إدارة التنوع العرقي بين جنوب السودان وشماله. وهو العجز الذي ظهرت بوادره منذ اليوم الأول لاستقلال السودان، في يناير 1955، وظل هذا العجز يتضاعف بمرور السنين، وانفجر في حرب أهلية، استمرت لأكثر من ثلاثين عاماً، ولم تهدأ إلا بالاتفاق لإجراء استفتاء لإعادة تقرير المصير، وهو ما سيكون قد اكتمل مع ظهور هذا المقال. وكل البوادر تنبئ بأن أغلبية الجنوبيين، ستصوت لصالح الانفصال، والاستقلال عن الشمال.
ورغم أن في هذه النتيجة خسارة مؤلمة لكل دُعاة الوحدة الوطنية، والإفريقية، والعربية، إلا أن المسئول عنها هم النُخبة السياسية، المدنية والعسكرية، التي قادت السودان، وأساءت القيادة. ولكن العزاء، هو أن الاستفتاء سيحقن دماء السودانيين، وربما يعود السودانيون إلى التعاون شمالاً وجنوباً، وأن يرتقوا إلى وعي جديد، يُمكّنهم من إعادة توحيد السودان “كونفيدرالياً”. ثم إذا نجحت التجربة “الكونفيدرالية”، فلعلهم يحولونها تدريجياً إلى وحدة فيدرالية، وتبقى كذلك. وهو ما يعني عُملة مالية واحدة، وسياسة خارجية واحدة، ولكن كل جزء يحكم نفسه ذاتياً، من خلال حكومة منتخبة ديمقراطياً.
وواقع الأمر أن السنوات العشر الوحيدة التي تمتع فيها السودان بالسلام، منذ استقلاله، قبل ستين عاماً، كانت هي السنوات التي تمتع فيها الجنوب بالحُكم الذاتي، بعد اتفاقية أديس أبابا (1973)، ولم يُدمّر تلك التجربة القصيرة، والتي كانت الأكثر ضوءاً في تاريخ السودان الحديث، إلا الحُكم العسكري الغاشم لجعفر نميري.
فندعو الله أن يوفق السودانيين شمالاً وجنوباً، إلى تعايش وتعاون سلميين، بصرف النظر عن نتيجة الاستفتاء، وأن يقي السودان شمالاً وجنوباً، شر حُكم العسكر الغشوم. آمين
semibrahim@gmail.com
مواطنون أحرار يتحدّون الدولة المُستبدة
سوري قرفان
مقاومة الإستبداد تتطلب درجه من وعي وتحرر من قيود العبوديه التي ورثها الانسان العربي سواء من أجداده أو عقيدته. فالتبعيات الطائفيه تمثل عائقاً كبيرا لمقاومة الاستبداد والمستبد. القبطي مثلاً يعرف كما يعرف المسلم بكراهية كل منهما لعقيدة الأخر، وهذا كاف بحد ذاته كذريعة للمستبد إن يضرب ودون خوف أي حركة تحرر.