في ظل الأجواء السياسية الملبدة بالغيوم، فإن سؤال الديموقراطية يطرح نفسه مجددا في الكويت. ماذا ينتظر التجربة الديموقراطية؟ وما الذي يمكن أن نفعل من أجل تطويرها؟
هناك موقف للسلطة والحكومة ومن يقف في صفّهما من النواب والشخصيات السياسية وغير السياسية، ينتقد بشدة الممارسة الديموقراطية، ويهاجم مواقف الطرف المقابل (المعارض) متهما إياه بالقفز على الأعراف التي تتحكم باللعبة الديموقراطية، وعلى رأسها نصائح أمير البلاد. في المقابل، تتهم المعارضة الطرف الحكومي بأنه يسعى إلى تفريغ الدستور من محتواه، وإلى عدم احترام قوانينه، وبأنه يهدف لتكبيل يد الديموقراطية بحيث يعرضها بصورة مشوهة خالية من أي نوع من الممارسة الحقيقية.
ومن يراقب الهجوم البرلماني – الحكومي السلطوي المتبادل سيلاحظ إلى أي مدى يساهم ذلك في طرح سؤال الديموقراطية.
لا تعتبر الديموقراطية آلية للتصويت فحسب لوصول أشخاص إلى كرسي مجلس الأمة، إنما تستند إلى انتزاع الحقوق والحريات من خلال تلك الآلية. وللأسف فإن غالبية عظمى من الباحثين وأصحاب الشأن السياسي يقعون في خطأ كبير حينما يلغون المطالبة بالحقوق والحريات منها، ويتمسكون بالآلية فقط، إذ يعكس ذلك فهمهم القاصر عن الديموقراطية. فهل من الديموقراطية أن يؤيد نواب في مجلس الأمة انتهااك الحقوق والحريات؟ أو أن يؤيدوا الاستخدام المفرط للقوة ضد التجمعات السياسية؟ هل رضي الشعب الكويتي بالديموقراطية من أجل ضرب الحريات ووأد احترام حقوق الإنسان؟
لا يمكن أن نجرد الديموقراطية عن الواقع الاجتماعي، كما لا نستطيع أن نزعم بأن الديموقراطية لا تحمل في داخلها أهدافا أخلاقية وإنسانية. ونزع الخوف من نفس الإنسان كفيل بحصوله على جرأة تساعده في طرح مشاكله وقضاياه والحلول لها دون خوف من أحد أو رهبة من سلطة. ليس هذا فحسب بل من شأن الديموقراطية أن تجعل الإنسان معتدلا في طرحه بحيث يحسب حساب الآخرين الذين ينافسونه. كما من شأن الديموقراطية أن تساهم في طرح حلول للقضايا والمشاكل بوسائل سلمية غير قائمة على القهر. فالديموقراطية قادرة على إزاحة المسؤولين دون اللجوء إلى العنف، وهو أمر لن يتحقق إلا بتفعيل آلياتها بحيث يستطيع الناس عن طريق الانتخابات والاستفتاءات والحريات، ممارسة ضغوط لتغيير الوضع وإصلاحه. ولو فقدت تلك الآليات وجودها فإن فلسفة الديموقراطية ستفقد معناها. فالديموقراطية تعتمد على مجموعة من الآليات التي تهدف إلى تغيير الوضع دون اللجوء إلى العنف، وتهدف إلى اتخاذ قرارات وتنفيذ خطط بحيث لا تنبع من مصدر واحد يحتكر جميع السلطات والتفسيرات، وتشدد على الدفاع عن حقوق الإنسان وعن حرية الرأي والتعددية دون أي سقف أو خطوط حمراء فكرية أو رهبة من جهة معينة.
إن جميع الديموقراطيات التي تلتزم بالآلية من دون الالتزام بالمحتوى الحقوقي والإنساني، هي إما تدعم موقفها بأيديولوجيا تؤمن بمطلقها الذي لا مطلق بعده، أو جماعات تزيّف الديموقراطية من أجل تحقيق مكاسب ضيقة لا تمت بصلة لقيم ومفاهيم الحياة الحديثة. والكثير من نواب مجلس الأمة أثبتوا في أكثر من مناسبة أنهم أعداء للأسس التي تستند إليها الديموقراطية، خاصة ضد تلك التي تطالب باحترام حقوق الإنسان وتدافع عن حرية الفكر والتعبير. غير أن بعض المواقف الحكومية لا تقل سوءا عن مواقف النواب، بل إن أحداثا كثيرة أثبتت أن الموقف المناهض للحريات ولحقوق الإنسان قد تم طبخه في مطبخ يضم الحكومة ونوابا.
والدفاع عن حقوق الإنسان وحرياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية هو أصل أساسي في الديموقراطية، ولابد للدستور المنظّم للحياة الديموقراطية أن يحتوي على ذلك، ويجب مواجهة كافة الجهود الساعية إلى وأد تلك الحريات والهادفة إلى التقليل من قيمة الإنسان في مواد الدستور وفي القوانين المشرّعة، وإلا ستعبّر الديموقراطية عن آلية فحسب من دون الاستناد إلى الأصل أو المحتوى الرئيسي، وجراء ذلك ستكون نتائج الديموقراطية وخيمة على حريات الناس وحقوقهم.
ولا يمكن لمناهضي أسس الديموقراطية أن ينسجموا مع أسس الحياة الحديثة وقيمها، بل كل ما يستطيعون فعله هو التعايش مع آلية الديموقراطية ليستغلوها بطريقة تحقق لهم مصالحهم الضيقة. فهم يركلونها بمجرد ما تصبح معطياتها في الضد من فهمهم للأمور وتحديدهم للمصالح. فالبعض يدّعي أن الديموقراطيات في الدول العربية، ومن ضمنها في الكويت، غير حقيقية، وبأنها انعكاس لديموقراطية “منقوصة”، كون المشرفين عليها ومنظّميها هم حكومات تريد فراق الديموقراطية. وفي ظل صحة هذا الادعاء استنادا إلى تاريخ الممارسة الديموقراطية، وبالأخص في الكويت حيث تم الانقلاب على الدستور وعلى الديموقراطية وجرى حل مجلس الأمة حلا غير دستوري عامي 1976 و1986 وعلّقت العديد من مواد الدستور المتعلقة بقضايا الحريات واحترام حقوق الإنسان، إلا أن مواقف بعض النواب من الديموقراطية الحقيقية لا تختلف عن مواقف الحكومات.
إن الحديث المتكرر عن نواب التأزيم ونواب الصراخ بوصفهم سبب الأزمة السياسية في الكويت، حديث يفتقد إلى المصداقية، ويمثّل رؤية غير واقعية للأزمة. فتاريخ الصراع السياسي في الكويت بين الحكومة والتجمعات السياسية أو بين السلطة والمعارضة لم يكن سببه ذلك، بل هناك من يتهم الحكومة بالترويج لهذا السبب لإبعاد الأزمة عن أسبابها الحقيقية. فتاريخ الصراع السياسي بين السلطة والمعارضة، خاصة الصراع في مجلس الأمة، لم يكن دافعه الأسباب المرتكزة على سلوك نواب التأزيم، والتي تعتبر أسبابا ثانوية بل وهامشية. فجميع مجالس الأمة التي تم حلّها، وجميع الأزمات التي حدثت بين السلطة والمعارضة، لم تكن أسبابها ما يُطرح راهنا، بل تنحصر الأسباب الحقيقية في عوامل أخرى تقع تحت عنوان رئيسي هو ضيق السلطة والحكومة من الديموقراطية كمفهوم ونهج وممارسة وأطر وشروط. ولعل أبرز تلك الشروط في ظل الظروف الراهنة ما يندرج تحت عنوان الحرية والتعددية واحترام حقوق الإنسان، المكفولة جميعها في الدستور الكويتي.
فحرية الرقابة والنقد والتعبير التي كفلها الدستور الكويتي لنائب مجلس الأمة، وقبله للمواطن، هي أحد الأسباب الرئيسية للأزمة السياسية في الكويت. فهي تكفل للنائب ممارسة دوره الرقابي والتشريعي، ودوره السياسي خارج أروقة البرلمان، وتكفل للمواطن ممارسة دوره الناقد للأوضاع السياسية. وذلك يجعل السلطة والحكومة تضيقان من هذا الأمر. بل إن مخرجات ثقافة المراقبة والنقد قد تجعلهما في الضد مما جاء في الدستور من حثٍ على المساءلة والنقد، وهو ما يساهم في توتير العلاقة بين السلطتين التفيذية والتشريعية ويدخل البلاد في أزمات متتالية. لذا من الطبيعي أن تتأزم الأوضاع السياسية في البلاد، وهو ما يجعلها أمام أمرين: إما القبول بالديموقراطية بجميع شروطها المكفولة بالدستور، والمطالبة بأكثر من تلك الشروط في المستقبل، وإما استمرار الأزمات السياسية.
إن ضعف أداء الحكومة وعدم جديتها في معالجة الكثير من المفاسد وترددها في إنجاز العديد من المشاريع، واستخدامها المفرط للقوة في موضوع الحريات بما يجعلها تنتهك حقوق الإنسان، يحسب ضدّها ويجعلها المسؤول الأول عن استمرار الأزمة السياسية الراهنة في البلاد. فأكثر من مراقب للوضع السياسي يشدد على أن أداء الحكومة ضعيف، وأنها تسعى عادة إلى تأزيم الأوضاع من أجل تنفيذ سيناريو سياسي معين. ما يعني أن هناك إصرارا حكوميا على تشكيل صور التأزيم الراهن وفق مقاييسها الخاصة، وأحد تلك المقاييس هو رفع سقف التعسف في تطبيق القانون ضد كل من ينتقد الحكومة ورئيسها والوزراء، مما يؤشر على ضيق صدر الحكومة من موضوع النقد ومن حرية التعبير، وخشيتها من الدور الشعبي المعارض لها الساعي إلى التحكيم بينها وبين التجمعات السياسية.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com