كل بلدان العالم ترسم لنفسها أدواراً: هذه تقود العالم أو جزءاً منه، بحسب حجم فائض قوتها؛ وتلك تموّل، تستثمر أو تقيم المشاريع وتفتتح المدارس والمصحّات؛ والأخرى تجمع شتاتاً أو مهاجرين أو إثنيات؛ أو تنوّر، تحضِّر، تمدّ بالنظريات أو الجماليات؛ أو بالعكس تقدم تاريخها مادة لصناعة السياحة والانبهار بآثارها. غيرها من البلدان يخترع، يصدّر، يصنّع، أو يحمي الأموال الهاربة من بلادها، أو يقيم محطة تلفزيونية، ذات وظيفة سياسية ثقيلة، خارجية خصوصاً… اللائحة والأدوار ليست كلها مطابقة لواقعها، المنقوص دائماً. منها ما كان، ومنها ما سيكون، ومنها ما هو في طور التكوين. منها أساطير وذكريات وبقايا امبرطوريات تحلم بعودتها.
ولكل من هذه البلدان آلته الثقافية لتعزيز هذا الدور، تغار عليه، تحميه من النكران، من المنافسة. تنذر له لسانها وعقلها، تقاتل من أجله وتعبّئ ما ملكت من طاقات وقدرات. وتعتقد بأن الدور، أو الوظيفة، يحصّنها من الملمّات. خصوصاً عندما تطغى الحقيقة الاقتصادية أو الاسترتيجية، عندما يطلّ شبح من يدعي القيام بالدور نفسه، وبأفضل منه، دائما.ً
إلا لبنان: لبنان هو الاستثناء. لبنان وحده من بين بلدان الدنيا يقع خارج عن هذا المجْمع عليه من الأدوار. وحده يتوسّل لغيره أدواراً على أرضه، أدواراً معلنة وأخرى نصف معلنة. وكلما استعصت احتمالات التقاء أبنائه، أو اتفاقهم على مستقبله القريب، زادت جرعة الأدوار الخارجية القديمة وأضيف اليها عدد آخر من لاعبي الأدوار.
والأدوار، كما هو بديهي، لا تحتاج إلا لمسرح. واللبنانيون، على ضيق مساحة بلادهم، يقدمون هذا المسرح، المعروف لديهم باسم «الساحة»؛ وبسخاء المعتقد بأن صاحب الدور الجديد هذا إنما جيء به من أجل انقاذنا من خلافاتنا المستعصية. واختلاف اللبنانيين حول هذه الأدوار، مفاضلتهم بين هذا أو ذاك، أمر بديهي، طالما جُذب صاحب هذا الدور ليكون عزوة هذه الفئة أو تلك، هذه الطائفة أو تلك، ضد الأخريات من الطوائف أو الفئات.
ولسان أصحاب هذه الأدوار البطولية متعوب عليه. من أجل ترسيخ هذه الأدوار، يعطونها الشرعية اللازمة، يردّدون ما يلامس غرور اللبنانيين، وهو ليس بالقليل… يغازلونهم، يعدونهم بالجنة، بغية نيل البطلولة المطلقة. لعبة أدوارهم لا تدور بيننا وبين أصحاب هذه الأدوار، بل بين بعضهم البعض. هم لا ينافسوننا، بل يتنافسون علينا. وكلما سجل واحدهم نقطة على الآخر، يريد لنا التوهّم بأن كلماته هي التي رجّحت. كلمات من نوع: «لبنان بلد الحرية والتنوع والتعايش والاستقلال»…
وبما أننا منقسمون أيضاً حول طبيعة هذه الأدوار الخارجية، هذا يحمدها وذاك ينكرها ويمجّها… يسهل على نفوسنا أن تُدغْدغ، كلٌ من جهة فئته أو طائفته، ثم بعد ذلك التسليم بهذه الأدوار صاحبة الوصاية. وقد يكون الشيء الايجابي الوحيد في هذه التدخلات هو أن لا أحد من الأبطال الخارجيين نال البطولة المطلقة. ربما يعتقد بعضنا العكس، ويرى أن لبنان لم يستقر إلا عندما استقرت البطولة يوماً ما، عندما غلب بطل بطلاً آخر. وقد يكون على حق، أن يتمنى «لوناً واحداً«، أن يثبت بطل واحد على الخشبة-الساحة. ولكن هذا غير ممكن في لبنان، بالضبط بسبب انفتاح «مسرحه»، ساحته، على أدوار لغيره، بسبب أتون الأدوار المفتوحة.
النتيجة الأولى لهذه الفكرة أن قوة لبنان، أي عدم تغليبه طرفاً على آخر، عدم قدرته على تحمل اللون الواحد، هو سبب من أسباب بلائه بأمنه وبافتقاد أبنائه الى دور لهم على بقعته الصغيرة. ولكن النتيجة واضحة: فقد أصبح لبنان الآن مسرحاً تقف على خشبته البطولات الكبرى، من «حليف» و»أخ» و»شقيق» و»صديق»؛ فيما اللبنانيون، أصحاب الدور الطبيعيين، الشرعيون، هم جماهير واحد من هؤلاء الأبطال. يهتفون له في الصفوف الخلفية، بأصوات الكورَس، ولا يلحظون أن كلمات التملّق بلبنان صاحب «التعدّد والحرية… إلخ»، إنما لا تنبع إلا من أنانية، من طمع بالبطولة الأكبر على الأرض السائبة.
ما الذي يسهّل على أصحاب الأدوار الخارجية التسلّل بهذا اليسر الى الساحة-المسرح اللبناني؟
الأسباب في الهواء تتلقّفها الألسنة كلها: لبنان يلفظ أبناءه نحو الهجرة، يقوم على نظام طائفي، معرّض لمطامع إسرائيل، دولته ضعيفة، سياسيوه فاسدون لا يغارون إلا على حصصهم، الضئيلة أصلاً. وهو فوق ذلك يعاني من خطيئة أولى، من إرادة استعمارية في تأسيسه، اتفاقية «سايكس بيكو»، التقاسم بين فرنسا وبريطانيا أيام عزّهما. ليس بالكيان ولا التاريخي ولا الراسخ ولا القائم بذاته. «الوطن المسخ»، هكذا يصفه غلاة المتمسّكين بأسباب عدم شرعية وجوده. وهم ليسوا بالقلائل، فشيوع صفة «المسخ» على وطن ما، وعلى ألسنة ابنائه، ينمّ عن قِدم التقليد بنبذ هذا الكيان «الهش»، عن رسوخ الهشاشة في قلوب هؤلاء الأبناء، قبل عقولهم.
مع انك لو أخذت كل سبب من هذه الأسباب، فلن تتأخر بملاحظة ورودها في غير بلد:
الهجرة؟
في العالم الآن 225 مليون مهاجر موزعين حول العالم، يشكل الصينيون غالبيتهم. ولكن، أيضاً، لبنان بلد استقبال للمهاجرين: لاجئون من حروب بلدانهم المتحاربة ومن اقتصادها. فلسطينيون، سوريون، سودانيون، مصريون، سيريلنكيون، أحباش، بنغلادشيون إلخ. أبناؤه، «الأصليون» اليوم، جلّهم أتى من الجزيرة العربية والمغرب ومصر وأرمينيا… أكبر بلد مصدّر للمهاجرين هو الصين. والصين هي من «المناعة» بما يسمح لها بفتح أدوار لها على مسارح جديدة.
إسرائيل؟
لسنا وحدنا على حدودها. مصر، الأردن، سوريا. اثنتان منها وقّّعتا سلاماً معها، والثالثة في حالة حرب، مبدئياً، معها. ومع ذلك، فإن للدول الثلاث أدواراً محدّدة على مسارحها الخاصة، فضلاً عن أدوار، متفاوتة، على المسرح اللبناني. أم أن إسرائيل هي وحدها الطامعة بلبنان، من بين بلدان هذا المعمورة الفسيحة؟
النظام الطائفي؟
التغليب الدائم لمنطق الطوائف؟ فرز المواطنين على أساس انتماءاتهم الأولية؟
الأنظمة المحيطة بنا كلها طائفية. الفرق الوحيد بينها وبين النظام الطائفي اللبناني أن طائفيتها ليست مسجلة في العلن، ولا مصاغة بالتعبيرات اللبنانية الدقيقة. كل الأنظمة المحيطة، الملكية والجمهورية، الوراثية والمقبلة على توريث، المقاوِمة وغير المقاوِمة. ومع ذلك لها قدم على الخشبة اللبنانية.
تبقى الخطيئة الأولية. خطيئة التأسيس. «من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر». من من بلدان الدنيا لم يعتر لحظتها التاسيسية، يوم قيامها، خطأ، خطيئة، مجزرة، اغتيال، غزو، اجتياح، إبادة، استيطان… ديني، عرقي، إثني…؟ فقط بلدان الولايات المتحدة؟ لشدّة ما نحب أن نكرهها؟ وماذا عن بلدان أميركا اللاتينية؟ وفي ضميرها أيضاً إبادة للهنود؟ أو كل هذه التداخلات بين أمم أوروبا، التي نهضت على أنقاض ملايين القتلى بعد نهاية الحرب العالمية الثانية؟ أو دولنا العربية نفسها، التي لم تصبح عربية إلا بعد غزوات إسلامية، لم تكن سلمية ولا مسالمة. هل من غزوات سلمية؟
اذاً، لماذا لبنان بالذات، يقدّم نفسه كساحة لكل الأدوار الخارجية المشتهاة؟ إذا كانت كل الأسباب ضرورية لإضعاف أدوار أبنائه، إلا أنها ليست كافية لإقناعنا بأن هذا المصير مكتوب على جباهنا؟ وبأن علينا التسليم، الإمعان في التسليم بهذه الأدوار الثانوية، التابعة، والتشجيع عليها وبناء ثقافتنا «الوطنية»، هويتنا، بل مراجعة تاريخنا لمواءمتها، بناء على مقتضى هذه الأدوار.
لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه، شرط أن يعنوا بهذه «النهائية» تكريساً لشرعية بطولتهم لأدوارهم على مسرح تاريخهم. الأسباب التي يغفرون لأنفسهم بواسطتها خطيئهم المتواصلة لا تشرّفهم، وتقلص من قيمة شكواهم كمواطنين ساخطين، تقليدياً أيضاً، من «الأوضاع»، من «الفوضى» من «غياب الدولة»، من «السياسيين الذين يجب أن يتنحّوا….« إلخ…
لا تقوم هوية شعب، الهوية الصحية، الواعدة، بناء على تخلّيه عن قراره بصنع مصيره. الهوية اللبنانية ما زالت في طور الصياغة والتعثر والتلعثم. الهوية تتم باستكشاف عيوبها، بالذهاب بعيداً في عمق هذه العيوب، بنقدها، بعدم التباهي بحسابات الدكاكين، بالتأمل في مدى هذه الهوية البعيد، أو المتوسط إذا شئتَ.
لكن قبل الشروع بالتأمل علينا الانتباه الى المفارقة: من أننا أصحاب أدوار ثانوية على مسرحنا، كومبارس، ولكننا حاضرون (حاضرات) بقوة في مسرح الصورة، الافتراضي، على الشاشة الصغيرة، بالنساء، مذيعات، مقدمات البرامج، فاتنات، وفنانات، أيضاً، لا تنقصهن الفتنة ولا التفنّن ولا حتى الفن. فهل تكون قوة لبنان ليست بـ»ضعفه»، بل
بـ»أضعف خلقه»؟
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية- بيروت
المستقبل