يتعرّض المسلمون المهاجرون إلى الغرب لمضايقات في حياتهم اليومية أو المهنية، فنهبّ كالرجل الواحد، بيانات، تصريحات، تظاهرات، استنكارات، وأحياناً هجمات انتقامية حيّة على مقرّات غربية… صارخين بصوت واحد، أيضاً: «عنصرية!»… تلك الصفة السحرية المفسّرة المطمئنة، التي تغسل ذنوبنا وتضعنا مرة أخرى في موقع الضحية المشتهى. «عنصرية الغرب!»: في هذه الصرخة بديهة ولذة سياسية تقليدية، تمحو عيوبنا، فتضخّ فينا القوة اللازمة للإمعان في هذه العيوب.
بالمقابل، يتعرّض مسيحيّو الشرق، سكانه الأصليون، للمذابح، بعد القتل الفردي، يأتي الاضطهاد الجماعي شبه المنظم، شبه الواعي؛ فتنطلق أصوات من عندنا مبعثرة، راثية، آسفة، متعاطفة، وكل ظلامتها أن «المسيحيين يهاجرون»، يتركون ديارهم، يتناقص عددهم، فنرضي ضمائرنا بالنحيب.
نثير الزوابع ما أن يطال مسلمو الغرب، المهاجرون حديثاً، شيئاً من رمزية دينهم. ولا نشتكي مثل الثكإلى إلا بعدما يُقتل مسيحيون في قلب ديارهم التاريخية ويُرغمون على الرحيل.
هناك نطالب الحكومات الغربية بالحقوق المتساوية والاندماج والقانون ونبذ العنصرية؛ مع كل ما يصيب هذا الغرب من إرهاب لحضارة الغرب وأمنه وثقافته على يد تطرّفنا الإسلامي. فيما هنا، في هذا الشرق، نشتكي، ولا نملك عنواناً لمعالجة هذه الشكوى غير طلب «الحماية»: حماية مسيحيي الشرق؛ والذين ما يزالون يُنعتون، بأصوات بعض نخبنا، بالـ»صليبيين… عملاء الغرب«.
في الحال الأولى، نعامل المسلمين المقيمين في الغرب بصفتهم مواطنين مستقبليين، تعتري مسارهم شوائب العنصرية، ولا ينقصهم سوى اكتمال الحقوق المعترف بها بالمواطنة الصحيحة في دول قانون ومؤسسات وعدالة؛ دول ننسفها بإرهابيينا ومتطرفينا ودعاة تطبيق الشريعة، من بينهم، وهم كُثُر. وفي الحالة الثانية نعامل المسيحيين مثل ذميين، تحت قانون غير معلن، غير مُصاغ بكلمات: قانون غالبيتنا التي تسلّل إلى عقلها رفض كل أشكال القانون والدولة والعدالة والمؤسسات، وصارت لا تصنّف بغير الحلال/الحرام، ديار حرب/ديار اسلام، مسلم/كافر… وكل هذه الثنائيات قليلة ضئيلة أمام الصراع الفرعي الآخر، السني/الشيعي، الذي أحضر الماضي وحوّل ملابساته وبيزنطية جدالاته إلى حقائق وقوانين دامغة ومنحها حياة لا تستحقها.
باختصار، إحالة المسيحيين الشرقيين إلى «حماية» من جانبنا أو من جانب الغرب، وهي «حماية» أشبه بالذمية: الذمية المحلية أو العالمية للمسيحيين الناجين من زلزال الانحطاط العربي الإسلامي المتدحرج؛ وبالمقابل، المواطنة لمن يتوسّلون تطبيق الشريعة الإسلامية في الغرب والكارهين له من بين مسلميه!
لكن الأمر لا يقتصر على الحالة الدينية التي انتابت الشرق، وإن كانت المسؤولية الأعظم تقع على عاتقها؛ بل تتعداها إلى اللسان غير الديني، الذي يودّ الاعتقاد بأنه لم تجر استمالته إلى الحالة الدينية، لم يذعن لسطوتها الفكرية، فيروح يردّد كالببغاء «الأسباب» التي دفعت مسييحي الشرق للتخلّي عن بلادهم الأصلية. ومثل قميص عثمان، ينهض السبب الأول والأخير، بنظره، على أكتاف «الصراع العربي الإسرائيلي«. يقولون لك بأن هذا الصراع يقف خلف اضطهادهم المعنوي والروحي والجسدي. كيف يقيمون العلاقة هذه؟ كيف يفكّكون عناصرها؟ لا تفهم . لا تعرف. المهم مجرد تسجيل موقف «مشرّف«.
ثم يضيفون لك، بعد الاحتلال الإسرائيلي، الاحتلال الأميركي للعراق. حسناً، تجيب، الاحتلال، أي احتلال، مصدر قتل وبلاء. والمؤكد أنه مرفوض بحكم القيم كلها. ولكن من الذي يلاحق، وبخبث بالغ، مسيحيي قطاع غزة، التي انسحب منها الإسرائيليون، فسُلّمت، بعد عجز «وطني» فلسطيني، إلى «حماس»؟ عدوة الاحتلال اللدود؟ التي أصبحت صاحبة السلطة المطلقة في القطاع؛ ترفع عن المسيحيين «الحصانة» وتترك الغوغاء، «كشافة الدعوى»، يقررون مصيرهم؟
في العراق أيضاً: من الذي كان يقتل المسيحيات السافرات في البصرة؟ التطرّف الديني الشيعي. ومن الذي يرتكب المجازر بحقهم، ويهدد بالمزيد منها؟ التطرف السني المقابل. وهذا لا يُعفي التطرّفين من التقاتل لنيل الحصص الأكبر في مغانم «الدولة» الموعودة.
سوف يعترض بعضهم ويقول: «نعم، الاحتلال هو الذي جلب التطرفَين». ولكن ما لا تلاحظونه أيها السادة أن المسؤولية الفعلية للاحتلال هي إزاحة غطاء المستبدّ، الذي كان يرعى تحت جناحه القمعي كل العصبيات الدينية ويتلاعب بها. فما كان من إسقاطه، الديكتاتور، سوى انفجار المجتمع بحسب تناقضاته نصف الدفينة، شبه المسكوت عنها.
بلدان الشرق التي ما زالت «تنعم» بالديكتاتور وبالشرطة السرية والمعتقلات المخفية لا تتصدّر قصص مسيحييها نشرات الأخبار المرعوبة. المسألة مسألة وقت، وإعلام.
النقطة الثانية التي لا يلحظها المحمِّلون كافة التبِعات على إسرائيل، هي ان دولا بعينها، ليست محتلة، تشهد هي أيضا نزيفا متصاعداً لمسيحييها.
لبنان، الذي «انتصر» على إسرائيل وخرج رافعاً رأسه من الاحتلالات. ومصر، التي تعتبر بأن وجود مراقبين دوليين لانتخاباتها التشريعية هو «مسّ بسيادتها الوطنية». المسيحيون اللبنانيون يرحلون، يتناقصون، أو ينقسمون بين «حماية» سنية وأخرى شيعية؛ هم لا يذبحون بالجملة، كما في العراق، ولكنهم مثلهم، على الأقل، يشكلون هدفاً معلناً من أهداف «القاعدة». المسيحيون المصريون، الذين تُحرق بيوتهم لأتفه الأسباب، يحرّض على قتلهم خطباء الجمعة، يُحرمون من بناء كنائسهم، يُهدَّدون في يومياتهم…
في كلا البلدين، لا وجود للاحتلال، ومع ذلك، يوجد لديهم ألف سبب وسبب، مباشر وغير مباشر، خاص وعام… للرحيل. وهي أسباب تختلف عن تلك التي خلقت رغبة جامحة للشباب المصري المسلم بالهجرة إلى بلدان الغرب، في قوارب سمّيت «قوارب الموت«.
الاحتلال ليس سبباً، إنه ذريعة للتمويه والتخفيف والتغاضي عن حالة دينية متطرفة أصيب بها الشرق. عن نبذ القانون فيه، والأنظمة والمعاملات والأخلاق، عن نفور عميق من معاني الدولة، عن تحويل الدين إلى عبادة طقوس وكراهية.
ولماذا نذهب بعيداً؟ أنظر إلى حالة سكان قرية الغجر اللبنانية أو السورية، لا فرق، الذين لا يريدون للاحتلال الإسرائيلي أن ينسحب من أراضيهم. ويرون في تحرّرهم منه اضطراباً كبيراً لانتظام حياتهم الهادئة وشؤونها.
نقطة أخرى: التباكي على المسيحيين والتحسّر على اضطهادهم ورحيلهم، ثم للمرة الألف، سرد «الأسباب« التي تجعلهم «غاليين على قلوبنا»: فهم دعاة نهضة، أحيوا اللغة العربية، بعدما كانت ميتة في ظل الانحطاط العثماني (من يستطيع أن يزهو الآن بكلامه عن «الانحطاط العثماني»؟)… وإلى ما شابه من مغانم ثقافية. وهم، أي المسيحيون، بحسب المتحسّرين، يمنحوننا احساساً بالتنوع؛ نحتاج أن نكون متنوعين لكنها حاجة مائعة سطحية لا تترجمها أي أفعال في حقول التنوع المتنوعة.
والحداثة! لا تنسى الحداثة: بفضل المسيحيين، خصوصاً الأقوياء من بينهم، كانت هناك حداثة. وهذه ملكة، ليست بالقليلة في عين دعاة الحداثة بيننا. ولكن: ماذا لو لم تعد لا الحداثة ولا النهضة ولا التنوّع أشياء قائمة بذاتها؟ ماذا لو لم نعد بحاجة إلى واسطتهم لاكتسابها؟ على افتراض اننا نتوق اليها؟ ماذا نفعل بمسيحيينا في هذه الحالة؟ نطلب منهم الرحيل؟
مسؤولية المسيحيين لا تقع على كاهل سلطات محلية أو أجنبية تملك حق الردع وتنفيذ القانون، أو فرض النظام. إنها تقع على ثقافتنا الجديدة البازغة: تلك التي تجعل من الحالة الدينية صاحبة هيمنة مطلقة على العقول، حتى النيرة منها أو الخائفة أو المتلعثمة، المتجنّبة صداماً مكلفاً معها. مسؤولية المسيحيين تقع على المسلمين والمسيحيين في عدم المبادرة إلى نقد حقيقي للثقافة السائدة، التي تكاد تجهر بأصوليتها، خلف قناعها الركيك.
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية- بيروت
“نوافذ” المستقبل