1- حقل السلطة
من منّا لم يسمع عبارة من نوع: تكلّم السيف فاصمت أيها القلمُ؟
يكره المثقفون، عادة، كلاما من هذا النوع، ويستنبطون تأويلات مختلفة من عبارات كهذه، للتدليل إن لم يكن على أولوية القلم (الفكر) فعلى الأقل على نديته. والمطل على طبيعة السجالات التي شهدها العالم العربي على مدار عقود كثيرة، خاصة المعنية منها بالعلاقة بين الثقافي والسياسي، لن يشكو ندرة النماذج التوضيحية.
بيد أن المفارقة، هنا، تكمن في أمرين: أن رافع لواء السيف في العبارة المذكورة صاحب قلم في المقام الأوّل، وأن الدلالة الحقيقية لهذه المعادلة التي يميل فيه الميزان لصالح السيف (السلطة، القوّة، الدولة، الحرب) نادرا ما استرعت انتباه المعنيين بالعلاقة بين الثقافي والسياسي.
أعني بذلك أن التضاد الوارد في هذه العبارة لا يقوم في الواقع على سؤال: لمن الأولوية، بل على سباق بين نوعين من الكلام لحيازة قدر من رأس المال الرمزي في حقل السلطة. لفهم هذا السباق تنشأ الحاجة لتعريف المقصود بحقل السلطة.
حقل السلطة هو الفضاء الذي تُمارس فيه علاقات القوّة بين مالكي رأس المال السياسي والاقتصادي والديني. وهؤلاء هم المهيمنون على بقية الحقول الفرعية للإنتاج، بما فيها حقل الثقافة.
بمعنى آخر: علينا البدء من نقطة أولى مفادها أن الاجتماع البشري، الذي يجد تمثيله الأعلى في بنية الدولة، يقوم على تقسيم للعمل بين أفراده، وأن هذا التقسيم ينجم عن سيادة نوع ما من علاقات الإنتاج، وأن علاقات الإنتاج هذه تعكس علاقات القوّة بين الفئات التي تكوّن هذا المجتمع أو ذاك، وأن هذه العلاقات ليست بالضرورة عفوية أو طبيعية، بل ترجمة للهيمنة من جانب طبقات أو فئات اجتماعية تستفيد منها وتحرص على تحسين شروطها وديمومتها. ولأنها كذلك فهي خط من خطوط التماس بين قوى مختلفة، ومصدر دائم للتوتر والحراك.
أعودة إلى الماركسية هي، وإلى العلاقة بين البناءين الفوقي والتحتي؟
ولم لا، شريطة التحرر من وهم الطليعة، وحزب الطبقة العاملة، ودكتاتورية البروليتاريا.
المهم أن الأبرز والأقوى بين مالكي رأس المال السياسي والاقتصادي والديني يحتلون قمة الهرم الاجتماعي، وأن هؤلاء يمارسون نفوذا كبيرا على عملية إنتاج وتكريس القيم، ومن تحالفاتهم وعملياتهم التفاوضية الدائمة والمؤسسات الموّلدة لرأس مالهم الرمزي، والساهرة على ديمومته وحمايته، يتكوّن حقل السلطة.
وتجدر الملاحظة، في السياق نفسه، أن مالكي رأس المال الديني فقدوا مكانتهم التقليدية الممتازة في كثير من المجتمعات الغربية الحديثة، وأن ما تشهده المجتمعات العربية، مثلا، من صراعات دامية بين ما يوصف بالمتدينين والعلمانيين يدل في جانب منه على محاولة لاستعادة تلك المكانة التقليدية، ذات الجذور التاريخية، والميراث الثقافي العريق، في حقل السلطة.
والمهم، أيضا، أن المنتجين الثقافيين جزء من عملية إنتاجية أكبر عمادها تقسيم العمل، وأنهم خاضعون لعلاقات الإنتاج السائدة، وأن نشاطهم الإنتاجي محكوم بقوانين السوق. هذه الحقائق متوفرة، دائما، بيد أنها غالبا ما تُعامل بازدراء من جانب المنتجين الثقافيين. فهؤلاء يصرّون على إضفاء قدر من التسامي على عملهم الإنتاجي إلى حد يضعه في مرتبة أعلى من قوانين السوق وعلاقات الإنتاج. لذلك، تبدو الثقافة (وأعني بها الثقافة العالِمة، أو الكتابية) متعالية، لا تخضع لقوانين السوق.
إن الغرور وحده، وكذلك التجاهل، لا يفسران الميل إلى التسامي، والتظاهر بالتعالي على قوانين السوق، وعلاقات الإنتاج، فظهور الحركات القومية الساعية إلى إنشاء جماعاتها المتخيّلة في الأزمنة الحديثة، والتي كانت في الغالب من صنع المُنتجين الثقافيين أنفسهم، أفردت لهؤلاء مكانة خاصة، وأضفت على وظيفتهم الاجتماعية دلالات رومانسية ما تزال عظيمة الشأن والنفوذ في مناطق مختلفة من العالم، على الرغم من محدودية، وفي أحيان كثيرة، هامشية المكانة، التي يحتلونها في حقل السلطة، على غرار صاحبنا رافع لواء السيف.
ولكن هذا التفسير يظل ناقصا ما لم نضع في الاعتبار ما يدعوه بيير بورديو “بالمعجزة الاجتماعية”. فعلى الرغم من الخضوع لقوانين السوق، وعلاقات الإنتاج، إلا أن لعملية توليد ومراكمة واستثمار رأس المال الرمزي في الحقل الثقافي خصوصية تضعها في حالات بعينها فوق القوانين التقليدية للسوق.
تتجلى هذه الخصوصية في حقيقة أن الثقافة حقل اقتصادي مقلوب: مَنْ يخسر يربح. فقد يخسر بعض المنتجين الثقافيين الحرية ويتعرّضون للسجن والتنكيل والنفي والاضطهاد، ويعانون من التهميش وشظف العيش، نتيجة أفكار يعتنقونها، لكنهم لهذه الأسباب نفسها يحصلون على قدر أكبر من رأس المال الرمزي.
على ضوء هذه الصورة المركّبة للمنتجين الثقافيين نفهم لماذا ينطوي تعبير من نوع “مثقف السلطة” في حالات كثيرة على قدر واضح من الازدراء، ولماذا يتعاظم رأس المال الرمزي للمثقفين المنخرطين في مشاريع الإحياء القومية، وكيف تعيش الطفيليات في الحقل الثقافي بالطريقة نفسها التي تعيش فيها الطفيليات في الطبيعة، وفي السوق.
كما نفهم التضاد بين السيف والقلم كسباق بين خطابين، ينتمي كلاهما إلى الحقل الثقافي، لحيازة قدر من رأس المال الرمزي في حقل السلطة، والتفاوض حول المكانة المحتملة أو المرجوّة للمنتجين الثقافيين. فالقائل بأولوية السيف يقبل بمكانة أدنى، بينما المُطالب بندية القلم يضع سقفا أعلى للتفاوض.
ومن الطريف تأمل الطريقة التي ابتكرها المنتجون الثقافيون الفلسطينيون بعد إنشاء السلطة الفلسطينية في أواسط التسعينيات للتفاوض بشأن المكانة المحتملة أو المرجوّة في أوّل حقل للسلطة في تاريخ الفلسطينيين. بيد أن هذا الأمر يستدعي الانتباه في البداية إلى خصوصية نشوء الحقل الثقافي الفلسطيني نفسه.
2- الحقل الثقافي
ينشأ الحقل الثقافي (ويتكوّن من حقول فرعية منها الأدبي والعلمي والفني والفلسفي أو الفكري) في سياق، ونتيجة، تضافر وتفاعل ثلاث عمليات تاريخية هي: نشوء المركز، وإنشاء حقل للسلطة، وإنتاج الأدب المكرّس.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بالحالة الفلسطينية فقد تعرّض الحقل الثقافي الفلسطيني للتدمير في العام 1948 عندما اختفى المركز (المدن الرئيسة التي وقعت في قبضة الاحتلال) وطُرد السكّان، وحل حقل السلطة الإسرائيلي محل حقل السلطة الذي أنشأته سلطة الانتداب ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، وتبدد الأدب المكرّس، حتى أن عبد الرحمن ياغي يذكر في كتابه “حياة الأدب الفلسطيني” أن بعض الكتّاب الفلسطينيين نسوا ما أصدروه من كتب قبل النكبة.
وعلى الرغم من حقيقة أن في مبالغة كهذه ما يستحق النقاش، إلا أن الانقلاب الديمغرافي والسياسي والاجتماعي والثقافي في العام 1948 لم يزحزح الأدب المكرّس قبل ذلك العام عن مركزيته وحسب، بل عطّل شروط إنتاجه، وخلق شروطا جديدة تستدعي نوعا مغايرا من الأدب الجدير بالتكريس.
وعلى مدار عقدين لاحقين من الزمن وجد المنتجون الثقافيون الفلسطينيون أنفسهم في العراء، وفي حقول ثقافية مختلفة ومتباينة بقدر اختلاف وتباين المناطق التي عاشوا فيها، في ما تبقى من فلسطين، وفي المحيط العربي، وفي العالم بشكل عام.
وقد كانت حظوظهم في الحقول الثقافية الجديدة مختلفة ومتباينة، وإن كانت في أغلب الأحيان ملتبسة. فهم لا يستطيعون التفاوض بشأن مكانة خاصة، ناهيك عن التنافس، في الحقل الثقافي لبلد اللجوء (مصر، سورية، العراق، الأردن، لبنان)، ما لم يقبلوا بعلاقات القوّة والإنتاج السائدة في حقل السلطة الجديد، أيضا.
والملاحظ، في هذا الصدد، أننا نستطيع تحليل المواقف والأيديولوجيات التي اعتنقها، وعبّر عنها، أغلب المنتجين الثقافيين الفلسطينيين، كنوع من التأقلم، أو التفاوض، أو التعارض، مع حقلي الثقافة والسلطة الجديدين في البلد المُضيف.
فعلى الرغم من الخطاب القومي العام للبلدان العربية المُضيفة، إلا أن أوضاع المثقفين الفلسطينيين فيها لم تكن في أفضل الأحوال ـ خاصة إذا تصرفوا بقدر غير محسوب من الاستقلالية، مثالية ـ كما كان تحقيق المعجزة الاجتماعية على طريقة بورديو، أي مَن يخسر يربح، للحصول على قدر أكبر من رأس المال الرمزي في حقل السلطة، أمراً باهظ التكاليف وبالغ الصعوبة.
وبالقدر نفسه، أعتقد بأننا نستطيع تحليل طبيعة المنتجات الثقافية استنادا إلى خصوصية الحقول الثقافية والسياسية في البلدان المُضيفة. فمن المُلاحظ، مثلا، غلبة الأدب (الشعر، القصة، الرواية، والمسرح بقدر أقل) على الإنتاج الثقافي للفلسطينيين في البلدان العربية، بينما اتسم نشاط المنتجين الثقافيين الفلسطينيين في الغرب بميل أكبر إلى علوم التاريخ والاجتماع والأدب والفكر بشكل عام.
بيد أن معادلة العيش في العراء، أو التأقلم مع حقول الثقافة والسلطة في البلدان المضيفة، تغيّرت بعد ظهور الحقل الثقافي الفلسطيني، الذي نشأ بفضل، ومتزامناً مع، إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية في أواسط الستينيات. وربما لن أجد عبارة تصوّر معنى ودلالة ما حدث في تلك اللحظة الفارقة أفضل من عبارة لإدوارد سعيد وردت في تقديمه لكتاب “المسألة الفلسطينية”.
يقول سعيد:
“على الرغم من حقيقة أننا كنا مشتتين ومفتتين جغرافيا، ونفتقر إلى رقعة أرض تخصنا، إلا أننا توحدنا إلى حد كبير كشعب بفضل “الفكرة” الفلسطينية (التي عبرنا عنها بوضوح نتيجة معاناتنا للسلب واضطهاد الإقصاء) والتي امتازت بالتماسك المنطقي فاستجبنا بحماسة لها”.
ولنلاحظ، هنا، أن سعيدا يتكلّم عن “الفكرة الفلسطينية” المُوِّحدة في معرض الكلام عن عودة الفلسطينيين إلى التاريخ، ويعود بها إلى تجربة جمعية عنوانها السلب والإقصاء. وهذه هي خصائص حقلي الثقافة والسياسة الفلسطينيين قبل إنشاء السلطة الفلسطينية، ونشوء حقل للسلطة: جغرافيا مفتتة وشتات، وتجربة جمعية تُولّد فكرة توحيدية موِّحدة.
ومن نافلة القول، بطبيعة الحال، أن مهمة استنباط “الفكرة الفلسطينية” من التجربة الجمعية، وتحصينها بالتماسك المنطقي، كانت المهمة الملقاة على عاتق المنتجين الثقافيين، الذين انخرطوا في إنجازها بهمة عالية، ونجحوا بفضلها في حيازة الكثير من رأس المال الرمزي في فلسطين وفي العالم العربي.
ومن الملاحظ، أيضاً، أن الحقل الثقافي الفلسطيني الوليد، ونتيجة التداخل بين الوطني والقومي، في المسألة الفلسطينية، تمكّن من تجنيد الكثير من المثقفين العرب، أيضا، ليصبح حقلا ثقافيا موازيا ومنافسا، وبدا في مراحله الأولى بديلا لبعض الحقول الثقافية في عدد من البلدان العربية.
يمكن، دون عناء، الكلام عن منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها التعبير السياسي والثقافي عن الطور الجديد للحركة القومية الفلسطينية بعد النكبة. وهذه الفكرة مهمة بشكل خاص عند الكلام عن المركز، الذي يمثل أحد شروط نشوء الحقل الثقافي. فالمركز ينشأ مع نشوء حركات التجديد والإحياء القومي، ويتجلى في المدن الرئيسة. وقد قامت بيروت بدور المركز المؤقت نتيجة ما وصفه إدوارد سعيد بالتفتيت الجغرافي والافتقار إلى أرض تخصنا.
ثمة خصوصية أخرى فرضت نفسها فمنظمة التحرير الفلسطينية ـ كما تجلت في المؤسسات والفصائل والمنظمات المهنية والشعبية، والبيروقراطية الإدارية ـ كانت حقلا للسياسة، ولكن يصعب وصفها بحقل للسلطة، الذي يستدعي، كما أسلفنا، وجود لاعبين آخرين غير مالكي رأس المال السياسي، ووجود مجتمع تستدعي السيطرة عليه، وتقسيم العمل فيه، من جانب نخبة سائدة، بلورة وحماية منظومة متكاملة من علاقات الإنتاج والقوة والقيم.
ولعل الفشل في التمييز بين حقلي السياسة والسلطة يفسّر الأخطاء التي وقع فيها بعض محللي ومنتقدي الحقل الثقافي الفلسطيني في مرحلة ما قبل إنشاء السلطة الفلسطينية في أواسط التسعينيات. فمن بين التحليلات التي تستهدف التدليل على فشل السياسات الثقافية للمنظمة، وأحياناً على فشل المشروع السياسي نفسه، الشكوى من غياب المثقف العضوي، ومن سيادة وتفشي الوعي الريفي، وميل المنتجين الثقافيين المنخرطين في مؤسسات المنظمة إلى التأقلم، والمساومة، والانصياع لإرادة القيادة السياسة المتنفذة.
ومنشأ الخلل، هنا، سحب نموذج المثقف العضوي، الذي صاغه غرامشي في معرض الكلام عن المسألة الجنوبية، وحقيقة أن المثقف الريفي، إذا سلّمنا بوجوده، عضوي أيضا، فالطبقات الاجتماعية تنتج مثقفيها، أما الانسلاخ الطبقي، أي انقلاب المثقف على طبقته والتصاقه بالطبقة العاملة، فمسألة يصعب التحقق منها خارج السرديات البطولية نفسها، التي صاغتها حركات راديكالية للإحياء والتحرر القوميين، على امتداد القرنين التاسع عشر والعشرين، وكانت السمة الأبرز فيها التحالف بين الإنتلجنسيا والمثقفين من جهة، والحركات السياسية من جهة أخرى.
أخيراً، تبقى مسألة الأدب المكرّس، باعتبارها الضلع الثالث في عملية إنشاء الحقل الثقافي. والتكريس يتجلى، عادة، في ممارسات رمزية، ومؤسساتية، وفي انتخاب منتجات ثقافية تلبي حاجات راهنة، وتتسم بطاقة تمثيلية وتحريضية عالية.
ولعل أولى أشكال الممارسات الرمزية تتمثل في انتخاب أيام ومناسبات خاصة (أماكن للذكرى والطقوس: يوم الأرض، تواريخ ميلاد الفصائل، مهرجان الشقيف الشعري..الخ) يتم الاحتفال بها بطريقة دورية، ويلعب المنتجون الثقافيون دوراً رئيساً في تنظيمها وترويجها.
ويُضاف إليها على المستوى المؤسساتي إنشاء منظمات مهنية للعاملين في الحقل الثقافي (المؤتمرات واتحادات الكتّاب والصحافيين والفنانين)، وإنشاء مراكز بحثية وإعلامية، وإصدار دوريات ثقافية وسياسية وفنية متنوّعة، علاوة على كتب ومطبوعات أخرى. وكل ما سبق يمثل، في الواقع، المنصة التي تجري عليها عملية انتخاب وتكريس نصوص وتمثيلات أدبية معيّنة.
فلنفكر في المكانة الهامشية لتوفيق صايغ، مثلا، في الأدب المكرّس مقابل أصوات أقل موهبة وكفاءة احتلت المتن. ولنفكر في المكانة الملتبسة لجبرا إبراهيم جبرا، قبل الحصول على مكانة تحظى بالاعتراف، وفي هامشية إدوارد سعيد (رغم المديح اللفظي المتأخر) وهشام شرابي وإبراهيم أبو لغد.
وهنا تجدر الملاحظة أن عملية الانتخاب والتكريس وإن خضعت لعلاقات إنتاج (مهما تكن طبيعتها) وانخرطت في سياق تقسيم للعمل يحظى بالاعتراف، إلا أنها تتأثر، أيضا، بما يمكن تسميته بروح الزمن، أو الخصائص الثقافية والنفسية والسياسية التي تسم هذه الحقبة التاريخية أو تلك. وهذه الفكرة تأخذنا من وصف ظهور الحقل الثقافي وآليات عمله، إلى محاولة تشخيصه.
3- تشخيص الحقل الثقافي
فوجئت عندما قدّمت صيغة أولية لهذه الورقة في ندوة مصغّرة باعتراض من جانب بعض الحاضرين على مصطلحات من نوع روح الزمن zeitgeist. وهذا، في الواقع، مفهوم أساسي من مفاهيم العلوم الإنسانية يقوم على إدراك لوجود خصائص بعينها تُميّز مرحلة عن أخرى.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بالحقل الثقافي الفلسطيني فإن ما وسمه من سمات رئيسة يتجلى بطريقة أفضل، عندما نضع “الفكرة الفلسطينية” بالتعبير السعيدي في سياق اللحظة التاريخية التي ظهرت فيها، فتأثرت بها واكتسبت الكثير من ملامحها.
وأعني بذلك خطاب وأيديولوجيا حركة التحرر القومي في المستعمرات بعد الحرب العالمية الثانية، وصعود أيديولوجيا القومية العربية الراديكالية بشقيها الناصري والبعثي في الخمسينيات والستينيات.
هذا هو الإطار العام للحظة (المرحلة) التاريخية التي ظهر فيها الحقل الثقافي الفلسطيني بعد النكبة، والذي لم يسم “الفكرة الفلسطينية” بسماته وحسب، بل وأسهم في تشكيل وعيها لذاتها وللعالم، ناهيك عن تزويدها بكثير من مفردات اللغة التي استخدمتها للكلام عن نفسها وعن العالم. ومن بينها المفردات الخاصة بالوظيفة الاجتماعية والسياسية للمنتجين الثقافيين، والعلاقة المحتملة بين الثقافي والسياسي، دور الثقافة نفسها في مرحلة التحرر القومي.
وفي هذا السياق، فإن الوظيفة والعلاقة والدور هي المفاتيح الضرورية لكل ممارسة نقدية بطريقة استرجاعية من شرفة الماضي المريحة، التي تطل على زمن مضى، أو هكذا ينبغي أن تكون. وهذه المفردات جميعها تمثل عصب السردية البطولية (إنتاج الجماعة المُتخيّلة، وتشخيص عودتها الظافرة إلى التاريخ)، التي أخذ المنتجون الثقافيون الفلسطينيون على عاتقهم في اللحظة المعنية مسؤولية توليفها وسردها.
ولم يكن من قبيل المصادفة أن يكون شعار الاتحاد العام للكتّاب والصحافيين الفلسطينيين “بالدم نكتب لفلسطين”. فقد نظروا إلى أنفسهم كمناضلين، وإلى الثقافي والسياسي كوجهين لعملة واحدة، وإلى الثقافة كجبهة للقتال. وكانوا، بهذه الطريقة، أبناءً مخلصين لزمنهم، كما هو الشأن مع أقرانهم في مناطق مختلفة من العالم.
بيد أن هذه النظرة كانت عاجزة عن تأمل ذاتها، وتعاني على غرار حالات كثيرة مشابهة في العالم العربي والعالم من غلبة الشعار، واختزال الممارسة الثقافية في الأدب، وعدم الالتزام بالشروط الموضوعية للإنتاج الثقافي.
وينبغي في هذا الصدد إفراد مكانة خاصة لمحمود درويش، الذي أدرك في وقت مبكر، ومنذ البدايات الأولى لتشكّل الحقل الثقافي الفلسطيني، ضرورة الالتزام بالشروط الموضوعية للإنتاج الثقافي، عندما عبّر عن ضيقه الشخصي من الحب القاسي الذي يبديه النقّاد العرب إزاء ما يكتبه الفلسطينيون من نصوص، مطالباً بإخضاعها لمعايير نقدية لا لمعايير وطنية. وهذا لا ينفي أن آخرين استفادوا من المعايير الوطنية، طالما أن النقدية لا تخدم نصوصاً رديئة.
وبالقدر نفسه حاول محمود درويش تحرير الحقل الثقافي من مشكلة اختزال الممارسة الثقافية في الأدب من خلال فصلية “الكرمل”، التي كانت منبراً للعلوم الإنسانية، ومن بينها علوم الأدب، إلى جانب النصوص الأدبية، ناهيك عن محاولة جسر الهوّة بين الثقافة العربية من جهة والثقافة العالمية من جهة أخرى. بيد أن هذه المحاولة ظلّت فردية تحيل إلى فرادة صاحبها، ومكانته الخاصة في الثقافة العربية والعالمية، لا إلى سمات عامة حكمت الحقل الثقافي الفلسطيني نفسه.
يمكن تفسير اختزال الممارسة الثقافية في الأدب استناداً إلى دور الأخير في إنتاج الجماعة المتخيّلة، وإلى قابليته العالية للتجنيد والاستهلاك، وبالتالي سهولة وسرعة الحصول على رأس المال الرمزي، بيد أن علاقات القوّة والسلطة في الحقل الثقافي تحيل إلى جانب آخر لا يحظى بالاهتمام.
وأعني بذلك أن الأدب فردي ويقبل التأويل بطريقة مجازية، بينما الإنتاج العلمي والفني والفكري جمعي ومؤسساتي في أغلب الأحيان، يحتاج إلى نفقات أكبر، يستدعي قدراً من الاستقلالية، ويشترط نوعاً من التقاليد.
وهذا لم يكن متوفراً في الحقل الثقافي الفلسطيني، الذي تداخلت فيه علاقات القوّة والإنتاج بطريقة توحي للوهلة الأولى باستقلالية المنتجين الثقافيين، لكنها تخضع في العمق لقانون السوق، وتقسيم العمل، وآليات العرض والطلب.
وهذا يفسر إلى حد كبير النهايات المأساوية لمؤسسة ثقافية رفيعة مثل مركز الأبحاث، كما يفسر ما وسم العلاقة بين إدارة المركز ومالكي رأس المال السياسي في منظمة التحرير الفلسطينية من توتر دائم، يمكن العثور على الكثير من دقائقه وتفاصيله في مذكرات مشوّقة للدكتور أنيس صايغ.
4- أوّل حقل للسلطة
نشأ الحقل السياسي الفلسطيني، وتمركز خارج فلسطين، على امتداد ثلاثة عقود من الزمن، منذ أواسط الستينيات ـ التي شهدت ولادة الحركة القومية الفلسطينية ـ وحتى أواسط التسعينيات، التي شهدت إنشاء السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة.
ونكتفي، هنا، بالقول إن هذه النشأة فريدة من نوعها. فالحقول الثقافية تنشأ في بلدانها الأصلية. وجود منتجين ثقافيين في فلسطين ومختلف مناطق الشتات خلق حقولا فرعية، بينما كان الحقل الرئيس ما نشأ في بيروت، وترافق مع صعود منظمة التحرير الفلسطينية، وقد ارتبطت الحقول الفرعية بالحقل الرئيس وانخرطت فيه.
المهم أن إنشاء السلطة الفلسطينية خلق، للمرّة الأولى في تاريخ الفلسطينيين بعد النكبة، حقلا للسلطة يتكوّن من مالكي رأس المال السياسي والاقتصادي والديني، الذين يحتلون قمة الهرم في مجتمع طبيعي لا في مخيّمات للاجئين، كما كان الحال في لبنان وبلدان عربية أخرى. إن الاحتلال الطويل، والسلطات المحدودة للسلطة الفلسطينية، يضفيان خصوصية على حقل السلطة هذا، لكنهما لا يجرّدانه من السمات الرئيسة لحقول مشابهة للسلطة في العالم.
وبقدر ما كانت نشأة الحقل الثقافي الفلسطيني، خارج أرضه، فريدة من نوعها، فإن تكوّن حقل للسلطة في فلسطين، للمرّة الأولى في تاريخها، كان فريدا من نوعه أيضا. ففي الغالبية العظمى من المستعمرات السابقة، وفي سياق حروب التحرر القومي، نشأ حقل السلطة مع نجاح الحركة القومية في تحقيق الاستقلال، وإنشاء دولتها القومية، التي كانت في نظر المنتجين الثقافيين تتويجا ظافرا للسردية البطولية.
لكن نشوء حقل للسلطة في فلسطين لم يترافق مع نجاح الحركة القومية في تحقيق الاستقلال، بل تحقق بطريقة تتناقض مع مكوّنات السردية البطولية، التي أنفق المثقفون الفلسطينيون أعمارهم في سردها وتوليفها، والتي ـ وهذا هو الأهم ـ حصلوا بفضلها على قدر كبير من رأس المال الرمزي، وعلى أرباح معنوية ومادية كثيرة، لا تنسجم في حالات بعينها مع مُنجزهم الثقافي الخاص.
وقد نشأت نتيجة هذا الوضع معضلة مثلثة الأضلاع: أخلاقية وسياسية وثقافية. أخلاقية: بمعنى أن الانتقال من سردية إلى أخرى يستدعي قدرا من التكيّف باهظ التكاليف. وسياسية: بمعنى أن التعامل مع السياسي والثقافي كوجهين لعملة واحدة لم يعد ممكنا بحكم التناقض بين السردية البطولية من جهة، والواقع الجديد من جهة أخرى. وثقافية: بمعنى أن إنشاء حقل للسلطة يستدعي تقسيما جديدا للعمل، ومفاوضات جديدة بشأن المكانة المحتملة لمالكي رأس المال الثقافي في حقل السلطة.
وقد عثر المنتجون الثقافيون، خاصة بيروقراطية الحقل الثقافي، على حل يحفظ ماء الوجه بالمعنى الأخلاقي، ولا يقطع مع هرم السلطة سياسيا، ولا يستدعي التفاوض حول المكانة المحتملة في حقل السلطة.
العنوان الرئيس لهذا الحل: الفرق بين السياسي والثقافي. فالأوّل يشتغل في وعلى العابر، والتكتيكي، والمتغيّر، أي السياسة، بينما الثاني يشتغل في وعلى الدائم، والثابت، والاستراتيجي، أي الثقافة. لذلك، نترك للسياسي حرية المناورة، ونشتغل، نحن، على الثوابت.
من نافلة القول التذكير بحقيقة أن هذا الحل توفيقي وتلفيقي إلى حد كبير. ليس، فقط، لأن السياسة فعل ثقافي في الجوهر، وأن الثقافة فعل سياسي بامتياز، ولكن لأن حقل السلطة، الذي يستدعي تحالفا بين مالكي رأس المال الرمزي والاقتصادي والديني، ينتج عن، وينشئ علاقات للقوّة، ذات تجليات اجتماعية تتصل بكيفية تحصيل ومراكمة وتوليد فائض القيمة وتوزيع الثروة الاجتماعية.
وبالتالي فإن اختزال السياسة في المفاوضات بين السلطة وإسرائيل يعفي من المسؤولية الاجتماعية، كما أن اختزال الثقافة في العمل على توليد وحماية الثوابت (مهما كانت) يجرّد الممارسة الثقافية من وظيفتها الاجتماعية.
وبهذا المعنى تصبح الديمقراطية، وقضايا النساء، والتقسيم العادل للثروة، والسلم الاجتماعي، أشياء خارج اهتمامات المثقف المهموم بحراسة الثوابت، والمهموم، في حقيقة الأمر أكثر، بالحفاظ على رأس المال الرمزي، وعلى مكانة خاصة في حقل السلطة، بما تنطوي عليه من امتيازات مادية ومعنوية.
في الحالتين (اختزال السياسة والثقافة) ثمة محاولة للحفاظ على خصوصيات الوظيفة والعلاقة والدور، كما تشكّلت في حقل ثقافي نشأ خارج أرضه، وكان محكوما بسمات مرحلة بعينها مضت وانقضت. ولعل هذه المحاولة تفسر ذلك الانفصام ما بين القضايا الاجتماعية والممارسة الثقافية منذ إنشاء السلطة الفلسطينية وحتى يوم الناس هذا.
بيد أن عملية الاختزال، هذه، لم تكن محصورة في بيروقراطية الحقل الثقافي كما تبلورت في زمن مضى، فإنشاء حقل للسلطة في فلسطين خلق أشكالا متنوعة من الحراك ودفع بفئات جديدة إلى حلبة السباق، لتحصيل رأس المال الرمزي، والالتحاق بمالكي رأس المال السياسي والاقتصادي والديني، وتحقيق مكاسب مادية ومعنوية في الحقل الجديد.
لم يجد المُنافسون الجدد، والباحثون عن نصيب في الكعكة، صعوبة في التحالف مع بيروقراطية الحقل الثقافي، كما لم يجدوا صعوبة في التماهي مع قيمها، وتبني حلها التوفيقي والتلفيقي للعلاقة بين السياسي والثقافي.
وهذا التحالف يفسر، إلى حد بعيد، لماذا أصبحت الشعبوية، وفي زمن قياسي، ثقافة سائدة، ولماذا ينبغي تحويل حقل السلطة إلى أداة مفهومية لتحليل الممارسة الثقافية. وهذا، على أية حال، معنى هذه المداخلة.
مداخلة في مؤتمر مؤسسة الدراسات الفلسطينية المنعقد في جامعة بيرزيت في 30-31 أكتوبر الماضي بعنوان “البحث عن فلسطين: ثغرات وآفاق بحثية”.
khaderhas1@hotmail.com
* كاتب فلسطيني – برلين
الثقافة والسياسة والسلطة..!!
سالم علي — maram_100020@hotmail.com
مقال جميل جدا عن واقع الثقافة الفلسطينية واريد مقلا عن تاريخ الصفوة المثقفة الفلسطينية لاني احضر رسالة ماجستير تتحدث عن الصفوة المثقفة
الثقافة والسياسة والسلطة..!! عصام عوده — isam2odeh@yahoo.com الأستاذ حسن خضر تحية وبعد: ربما كقارىء مهتم بالشأن السياسي ,وجدت فيما تتقدم به موضوعا من صميم تشخيص أزمة الثقافه,وبتواضع أقدم الملاحظات التاليه: 1-هناك مراحل شهدت ازدهارا أو هبوطا لسوق الثقافه(في فلسطين) وفيما كانت مرحلة الهجره في سنواتها الأولى ممتلئة بمولدات الثقافه كانت سلسله الصدمات للتأقلم مع معطيات الهجره تخرج العاقل من دينه. حتى حينها كان يمكن اعتبار الثقافه اشبه بكماليات. لأن واقع الهجره كان ماديا ومسرحا واقعي. 2- احسست ان المثقف الفلسطيني في بيئاته المستحدثه كان مجبرا على الأبداع في حقول معينه من الثقافه. كان صعبا عليه ان يحشر نفسه في قضايا… قراءة المزيد ..