تؤكد تجربة النزاع الديني – الديني أو الديني – العلماني والمخرجات المتعلقة بها، والتي تبرز خلالها بوضوح مسألة إقصاء الآخر مذهبيا وعقائديا وفكريا، كيف أن التيار الديني يعجز عن تقديم الوجه الطبيعي لذلك النزاع، ويلجأ إلى صور الماضي الديني ليحقق من خلالها أمانيه.
فالتيار يرفض الأطر الفكرية المتعلقة ببنية الحياة الحديثة، ومنها قبول الآخر، ويفشل في مواجهة تحدياتها، وأي محاولة لفهمها تحمّله الرجوع إلى التاريخ، بسبب أنه غير قادر على استيعابها، بل إن أي محاولة للاستيعاب هي بمثابة تنازل عن “الثوابت” و”المقدسات”، فيما الاستعانة بالماضي أو اللجوء إلى التاريخ الديني، هو ضمانة للوصاية والهيمنة على المسائل والأمور، بما فيها السياسية وغير السياسية.
وما التجارب التي كان طرفها ياسر حبيب أو عثمان الخميس أو طرف صوفي أو علماني أو غيره، إلا دلالة على عجز التيار الديني عن استيعاب مفاهيم الحداثة وفشله في قبول الرأي الآخر ورفضه التعايش مع المختلف. بل تمثل تلك التجارب بالنسبة للتيار تهديدات مباشرة للدين، وأنه في سبيل مواجهتها لابد أن يستعيد تجربة الماضي بشخوصها ولغتها وأدواتها. أو بعبارة أخرى، يجب الإستلهام من الماضي الديني لمواجهة تحديات العصر الحاضر.
إن هذا الإستلهام هو بمعنى أدلجة النص التاريخي، بحيث يؤخذ من النص الإجابات التاريخية النهائية المقدسة للرد على أسئلة الحاضر المتحركة المتغيرة غير المقدسة. ومن الطبيعي أن نتوقع فشل تلك الإجابات وعدم قدرتها على الإصلاح وعجزها عن مجاراة الواقع لأنها فاقدة للصلاحية، بسبب أنها مكبلة غير حرة وغير مرنة ولا تستوعب التطور، بمعنى أنها لا تستطيع مسايرة حركة التغير الثقافي والاجتماعي التي يشهدها العالم.
وفي حين يصعد التيار الديني بأيديولوجيته إلى مراتب عليا من المثالية الدينية والأخلاقية والحياتية، فإنه يعتبر الرؤى الأخرى، كالليبرالية والعلمانية، بمثابة رؤى فاسدة مفسدة، رغم أن المخرجات الإنسانية والعلمية والتكنولوجية لتلك الأخيرة واضحة وجبارة، فيما مخرجات الأيديولوجيا الدينية الحياتية – التي تختلف عن الدين – فشلت في تأكيد صلاحيتها لهذا الزمان، بل التجربة تؤكد بأنها أيديولوجيا مضرة أخلاقيا، لأنها تروج للكذب والخيانة والفساد والإقصاء والقتل وانتهاك حقوق الإنسان باسم الدين وتحت ستار المصلحة الدينية، غير مبالية أن ينعكس ذلك بالسلب على سمعة الدين أو أن يضر بالروحانية الدينية.
إن الضرر الكبير الناتج عن الاستعانة بنهج الاستلهام من الماضي يكمن في التالي: بالرغم من فشل التجربة الأيديولوجية الدينية، إلا أن الاستغراب يكمن في إصرار أنصارها على اعتبارها أيديولوجيا مثالية، لذلك هم ينحون بها صوب التصورات الغيبية غير العقلانية، لأنها الطريق الأأمن لصد النقد والفرار من التساؤلات العقلانية.
وبعبارة أخرى، لا مجال لمدّعي المثالية الدينية في تبرير إخفاقاتهم وفشلهم في الحياة المعاصرة إلاّ الاختباء خلف التصورات الغيبية والتستر بالرؤى غير العقلانية بوصفهما “مخارج” تهيئ لهم فرصة تكرار التجربة السماوية المقدسة التي في تصورهم واعتقادهم لا مجال لفشلها. أما البديل الآخر أمام التيار الديني لمواجهة هذا الفشل فهو السعي للسيطرة على الآخر بالقوة، من خلال احتكار فهم جميع الحقائق في الحياة، وضرب التفسيرات المغايرة لفهمه، وتهديد أصحاب ذلك الفهم وطردهم من الحياة.
يقول الباحث سربست نبي في مقال له يصب في هذا الإطار بعنوان (الإسلام المعتدل) إن “القراءة الجهادية المتطرفة للدين، تمنح إطارا للتوجيه السياسي والعقائدي وموضوعا للعبادة في آن، ويحقق (الجهادي من خلالها) انسجاما بين السلوك لديه وبين وجوده ومغزاه، ويعد هذا الدمج بين الجانبين (الدنيوي والمقدس) أمرا مقدسا لديه، وتعبيرا عن الطمأنينة الدينية والسلام الداخلي”.
لذلك يتساءل سربست “كيف استطاعت الهيئات والمنظمات الجهادية أن تستحوذ على إرادة عشرات من الأفراد على استعداد للتضحية بأرواحهم وعقولهم في سبيل المبدأ القائل (الإسلام هو الحل)؟”.
إن الإجابة على السؤال قد ترتبط بنجاح الأيديولوجيا الدينية في صناعة بشر لا إرادة لهم، بشر لا يستطيعون التفكير بحرية، ولا يملكون قدرة عقلية على طرح أسئلة نقدية إعتراضية، بشر كل همهم تقليد قياداتهم الدينية إنطلاقا من أنهم ينطقون باسم السماء.
وجراء ذلك فإن هؤلاء البشر على استعداد للقتال والتضحية لتديين الدنيا، شريطة أن تكون النتيجة كسب الآخرة، ولو جاء ذلك عن طريق الممارسات غير الأخلاقية. ومما يدعم هذا الموقف أن أنصار الأيديولوجيا الدينية يعيشون في ظل ثنائية بسيطة: إما أنت معنا وإما ضدنا، إما تعمل لله وإما للشيطان. إذ يعتبر هذا من أسس مبدأ الاستلهام من الماضي.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com