في صباها كانت طلّتها مشرقة، عيناها واسعتين، ورشاقتها درب من دروب السير نحو الجنة. كنتُ منبهرة بجمالها ومؤمنة بأنه أزلي، وبأن حيوية شبابها لا تمحوهما أية قدرة على الأرض. في اثناء نزهاتنا اليومية في شوارع الدار البيضاء، كنا نلتقي بمسنّين. أحدّق في وجوههم الرثّة، الضاجة بالشيبٌ والتجاعيد. فأقلق من شيء ما، لا أدركه، وأسألها: «لماذا يبدو هؤلاء الناس هكذا…؟ لا يشبهونك؟». فتجيبني بعذوبتها المعهودة بأنهم من كبار السن، وبأننا كلنا ذاهبون إلى الكِبَر. «وماذا بعد الكِبَر؟»، ألحّ عليها: «الموت طبعا… هذه هي الحياة». «وهل يعني ذلك بأنك لن تكوني حلوة كما انت الآن؟ وانك ستموتين مثلما سيموت هؤلاء؟»؛ «نعم…»، تقولها باطمئنان، ومن دون تردّد، كأنها تعلن عن بديهة، لا عن احتمال.
وأنا، الطفلة آنذاك، صاحبة الاعوام السبعة أو الثمانية، كنت أغصّ وأبكي… أبكي بقية النهار والليل. « كيف تفقد كل هذا الجمال؟ كيف تموت هي؟»، أكرر على نفسي السؤال مرات فيما أنا أواصل البكاء حتى النوم. هي تحاول إرضائي وتطييب خاطري. ولكن ماذا تقول؟ ماذا تستطيع ان تقول؟ ما هي الكلمات التي تخفف من ألم هو شيء من أشياء الحياة؟ شيء لا يفلت منه لا جمالها ولا حيويتها، النادران؟ لا أذكر كم من مرة أصبتُ نفسي بسهم هذا السؤال، كم من مرة تكدرت وبكيت من الاجابة، المكررة، أيضا، عليه. ولا أعرف متى توقفت عن طرحه… الأرجح انني نسيته، حتى جاء أولادي الاثنين: «هل تصبحين عجوزا يوما ما؟ هل ستموتين أنتِ… مثلهم يا ماما؟». نعم كلنا زائلون؛ والغم نفسه، والاجابة نفسها. هكذا يكون الحال، حتى نهاية الكون، مهما طال، لا نصدق اننا مقبلون على مجاورة الموت.
الآن لا أستطيع النوم. ما ان أغمض عينيّ حتى تأتيني صورتها الاخيرة، وهي على فراش الموت… «فراش الموت»، وأنا على «فراش الحياة». فأنتفض ويخفق قلبي بسرعة وقوة. لا أستطيع النوم، ولا إغماض العينين. صورتها مثل الطعنة في قلبي، لا يلبيها بكاء. لا أصدق. رحلت؟ وبراءة غير منطقية في هذا السؤال، بلاهة مكرّرة. أهرب من الوجع بالحبّة المنوّمة.
أثناء النهار تنقصني بشكل فادح. في كل لحظة أحتاج إلى ان أكرر أنها رحلت، خلاص. عشرات المرات، شيء خافت يقول لي بأنها هناك «على بُعد عشر دقائق مشيا على الاقدام»، كما كانت تحب ان تعلن للأقارب والجيران بسرور عن بيتي الجديد. أمرّ بالقرب من بيتها، فأهمّ بالتوقف… أعود من رحلة سريعة خارج لبنان، فأكاد أقول لسائق التاكسي انني سأمر «خمس دقائق» بالقرب من الكولا، حيث منزلها. أكون في الشغل، أفكر بالاتصال بها لأخذ رضاها، للاطمئنان على على مزاجها وصحتها. لكنني أتنبّه، كل مرة، في آخر لحظة، «آه. …رحلت، صحيح… نسيت». وكأنه فراغ ما، نقص ما، شيء يشبه البتر. كانت امتدادا لي، فيما هي تعتقد بأنني امتداد لها. هذا الامتداد لم يعد موجوداً. مكانه صار هناك، في الفراغ، فراغ ثقيل، جاثم في البطن.
تمطر الآن على بيروت، فأفكر بأنها سوف تتصل الآن لترحّب به، وتدعو إلى «شمّ الريحة»، رائحة التراب المبلّلة بالمياه؛ وتقول «ان شاء الله» لن يكون المطر مثلما كان في العام الماضي «هل تذكرين عندما طاف المطبخ بالمياه…؟ والسنْكري ابن الاوادم، وتَبَع الألمنيوم… غشّونا…!». لكنني أدرك في غمضة عين بأنها أصبحت «مرحومة»؛ فيعود وجع البطن وثقل الفراغ. ليست هنا الآن لتتمتع بأول «الشتوية»، ونهاية الصيف الذي تكرهه.
لا نفهم الموت، يغدرنا، يطعننا، كأننا أول ضحاياه.
مع أن موتها كان متوقعاً، واحتضارها كان طويلاً ومؤلماً لنا، أنا وأخوتي الستة، ولها خصوصاً. قبل دخولها الاخير إلى المستشفى، كانت متحسّرة على فراقها القريب للحياة. هكذا كانت تشعر. كانت تمدّ عينيها، اللتين بقيتا واسعتين، وتنظر إلى البعيد، وهي جالسة على ما صار مقعدها الثابت، في صدر الصالون، تزمّ شفتيها الرقيقتين، شفقة على نفسها، وتقول «يا دنيا يا غرامي… كيف أتركك؟ كيف تتخلين عني؟». ومع قريباتها وصديقاتها الكثيرات، صاحبات الجيل نفسه، كانت تسترسل بالحسرة وتأخذ راحتها بالبكاء، وهن يشجعنها ببكائهن عليها، وعلى أنفسهن ربما…
كانت توجعني بحسرتها من وداعها للدنيا، فوق وجع قلبها وضعفه المتزايد. اما الأيام الخمسون التي أمضتها في المستشفى بين العناية الفائقة والعناية العادية، فلم يتغير أثناءها مزاجها الكتئب من فراق الدنيا… الا في الاسبوعين الأخيرين. فجأة، في أحد الايام، سادت الغبطة على وجهها، وانقلبت مشاعرها. لا أعرف ما الذي حولها نحو السعادة والسخرية من النفس ومن الآخرين؛ كثرة الاوكسيجين؟ الادراك بأن الموت بات، فعلا، أفضل من الحياة؟ عودة وعيها إلى زمن طفولتها وشبابها، زمن الخفّة والبهجة؟ رغبتتها بتخفيف أثر رحيلها علينا؟ هي العالمة بأننا، رغم صخبنا وقلة «تربيتنا»، كما كانت تقول، نحبها، ومعجبون بتألقها وشخصيتها الساحرة المليئة بالعيوب والمزايا؟ لا أعرف بالضبط سبب حبورها المفاجئ، وقدرتها على توليد النكات خلف أنابيب الاوكسجين والأمصال المتدلية عليها وتشقّق جلدها. استسلمت ربما لفكرة الموت… فأخذت تتكلم عن نفسها بصفتها من الماضي وتغنّي اغنيتها المفضلة «يا دنيا يا غرامي…» بفرحة المقبل على سرّ الاسرار. أخي عصام الذي قطع المسافات لتوديعها طلب مني تسجيل هذه الاغنية على كاسيت الراديو الذي لم يعد دارجاً لدى بائعي الموسيقى. وعندما حصلت على الاغنية بشكلها الذي تستطيع فيه الاستماع اليها، كانت قد رحلت. لم تودع الدنيا وهي تطرب لصوت عبد الوهاب، كما كانت تتمنى.
الآن، بعدما صارت لها أيام عديدة في الثرى، ما هو هذا الحزن الذي ينتابني في كل لحظة من نهاري؟ حزن لا أعرف نوعيته. عندما رحل أبي قبل عشرين عاما، في انزلاق سيارته نحو الوادي، حزنت؛ ولكنه كان حزناً كالإنفجار، مشوباً بالصدمة العنيفة والغضب. كان حزناً مباغتاً، حزناً صاخباً. وقع في الوادي مع سيارته. هكذا موت عنيف يشبه الرجال، والحزن عليه كالحزن على الرجال؛ حزن مثل الزلزال، أو الاعصار. رجل بمفرده فاجأه الموت، بعنف وقوة، مثل هم الرجال.
الحزن على أمي مختلف: انه شفقة على عذابها، على رقتها، على انوثتها الفائضة وجمالها الذي لم يبق منه الا اتساع عينيها. صحيح، رحيلها كان متوقعاً، وهي نظّمت أدق تفاصيله، موزّعة مهام دفنها وطقوسه بين السنة والشيعة؛ هي صاحبة العصبية النارية، تساوم، ترضي في آن معاً عصبيتها وما تعتقد انه عصبية زوجها: «الغسيل لشيعية» كانت تشدّد، كذلك الصلاة على القبر لمدة ثلاثة ايام، لشيخ شيعي. اما صلاة الميت فللسنة، وكذلك الدفن. والتعزية في حسينية أو أية مؤسسة شيعية. كانت عارفة انها راحلة، ونحن ايضا، اولادها، كنا نعرف. ومع ذلك… افترسها هذا الوحش، اغتالها… الجمرة هنا باقية، بذبالتها الخافتة؛ حزن الشفقة القصوى. أشفق عليها، من غير غضب ولا عنف. حزن هادىء، أنثوي، يليق بها، مثل الخيط الدقيق في ثنايا القلب، ينطلق منه، ويعبر الجسد محدثا قشعريرة خاطفة.
أرادت ان نكون كلنا، ابناءها وبناتها السبع، في جنازتها. «لا أخرج ميتة إلا وكل اخوتك حولي… فهمتِ؟»، كانت تصر. عندما انتابتها حالة الغبطة النهائية، طلبت حضور البنات، سلوى ومحاسن. البنات فقط؟ نسأل ناريمان وأنا. والصبيان؟ عصام، سعيد، هشام؟ ماذا ينقصهم؟ «انهم أبعد من البنات، واحد في افريقيا واثنين في اميركا… هل تتصورين مشقّتهم؟». ولكن عندما نعترض بأن سلوى، ايضا في أقاصي غرب افريقيا، في المغرب، أبعد من عصام، تكتفي بابتسامتها المغْناج… ثم تستجمع ما بقي لها من نَفَس وتقول «كلكم في جنازتي… فهمتِ؟«.
لا أصدق. أحتاج إلى الوقت لأصدق بأن كل هذا الغنج، كل هذا الجمال، كل هذا الغوى، غاب نهائياً… بأن وحش الموت تغلّب. انه الموت يا صديقتي، لا نصدقه، لا نصدق بأنه في النهاية آتٍ… آتٍ… لا محالة. انها أيضاً الحياة.
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية- بيروت
المستقبل