يبدو أن ثمة علاقة حميمة جداً تنشأ بين الناس والأمكنة التي نشأوا وترعرعوا فيها. تتفجر هذه العلاقة حامية عند اقتحامها والاعتداء عليها، وحنيناً عند البعاد عنها(النوستالجيا). تبقى أسماء الأمكنة التي انتقلت إلى الناس من آبائهم وأجدادهم عزيزة على أسماعهم؛ وهنالك من يقول أن العلاقة بين المكان واسمه كالعلاقة بين الجسد وروحه. وتتحول الأسماء عبر مئات السنين وربما آلافها إلى علاقة روحية تملأ قلوب الناس و ذاكرتهم فيعز عليهم تغييرها. فتتغير لغة المجتمعات والدول والأوطان لكن الأسماء القديمة للمدن والقرى والأحياء تبقى على الألسنة .. وأحياناً تتغير معالم المكان ويتغير شكله لكن إسمه القديم المتوارث يبقى مسيطراً في لغة الحياة اليومية. وحتى لو كانت أسماء الأمكنة غير مستحبة ومستساغة في اللغة المعاصرة، تبقى متداولة على شفاههم. وعلى سبيل المثال، في دمشق حارة صغيرة تتفرع عن منتصف شارع الملك فيصل في حي العمارة بقيت تدعى حتى منتصف الخمسينات “حارة الزبالين”، ثم عمدت محافظة دمشق إلى تجميل اسمها فدعتها (جادة الشرف الأعلى)، لكن الاسم الجديد المهذب والمرموق جداً، فرغم مضي نصف قرن، بقي حظه من التداول قليلاً وبقي الاسم القديم هو الأشهر. ولماذا نستغرب ففي باريس، يوجد سوق لا يزال يدعى حتى الآن بسوق القمل (Marche aux puces) وهو مكان تباع فيه الحاجيات بالرخص. ولم تلجأ بلدية باريس إلى تغيير هذا الاسم الفولكلوري.
وفي أيام الوحدة بين سورية ومصر(1958-1961)، صدرت قرارات تنظيمية من وزارة الشؤون البلدية والقروية بتغيير وتجميل أسماء بعض المناطق والبلدات والقرى فيما دعي آنذاك بالإقليم الشمالي. فسميت منطقة “وادي النصارى” بوادي النضارة، وقرية “المزيبلة” سميت(المزينة) و”الخريبة” سميت (الناصرة)، وفي منطقة القلمون سميت قرية “بخعة” (الصرخة) وسميت “قلدون” التركمانية (المراح) و كذلك في منطقة الجزيرة سميت “تل كوشك” (اليعربية).. وقرية أخرى سميت (القحطانية)…. إلخ. لكن كل هذه التسميات الإدارية الآتية من فوق بقي تداولها في إطار السجلات والمعاملات الرسمية…. وهنا يمكنني القول أن اسم المكان يبقي عليه الناس وكذلك يمكن أن يقلع عن تداوله الناس..
وفي حي القيمرية في دمشق، يقال أنه قبل حوالي مائتي عام كانت المنطقة الممتدة بين الكنيسة المريمية وسفل التلة تدعى (الآسية) نظراً لوجود بعض شجيرات الآس فيها، ومن ثم اندثرت أشجار الآس وحلت محلها بيوت السكن وأقامت بطريركية الروم الأرثوذكس مدرسة تجهيزية منذ حوالي 130 عاماً، واشتهرت فيما بعد هذه المدرسة باسم مدرسة(الآسية) أكثر مما عرفت بالمدرسة الأرثوذوكسية، والجادة كلها لا تزال حتى الآن تعرف بالآسية. ويبدو أن (ساحة الدوامنة) قد أتى اسمها من االمسيحيين الدوامنة الذين هاجروا من بلدة دوما إلى هذه المنطقة القريبة من الآسية. وهكذا معظم أسماء الأمكنة فلكل مكان قصة فحارة (بندق) المتفرعة الآن عن شارع العابد كان يمكث فيها البنادقة الآتين إلى دمشق. وحارة (بير التوته) في حي شيخ محي الدين لا تزال محتفظة باسمها حتى اليوم.
وبعد ثورة أوكتوبر عام 1917في روسيا، بقيت العاصمة الروسية على اسم مؤسسها(بيتربورغ) و يلفظها الروس بلغتهم الروسية (بتروغراد) أي (مدينة بطرس) حتى وفاة لينين ، ولكن بعد وفاته أعطي للمدينة اسماً جديداً (لينينغراد) وبقي هذا الاسم متداولاً حتى انهيار الاتحاد السوفييتي، فأرجعت السلطة الجديدة المدينة إلى اسمها الذي سميت به حين تأسيسها (بتربورغ/بطرس بورغ)، وهنا علينا أن نتساءل: ألم يشكل تغيير اسم هذه المدينة في الأساس إساءتين كبيرتين لشخصيتين روسيتين هامتين لعبتا دورين عظيمين في تاريخ روسيا الحديث بطرس الأكبر ولينين.
وهنالك حالة أخرى ليست مماثلة تماماً تتعلق بمدينة القسطنطينية البيزنطية، فقد غير العثمانيون أسمها بعد سقوطها في عام 1453 إلى اسطنبول وهذا التغيير يختلف عن التغيير الذي حدث في روسيا. فالاسم الجديد للقسطنطينية محرف عن الاسم الأصلي للمدينة (CONSTANTINOPLE). فبقيت اسطنبول أو اسطمبول تحيل إلى المعنى القديم (مدينة قسطنطين)، وهذا ربما أدى إلى ان يُلجأ إلى تحريف آخر يعبر عن الحقبة الجديدة وهو (اسلامبول/مدينة الإسلام). أما الاستانة وهوالاسم الرسمي السلطاني الذي اعطي للمدينة فقد اختفى مع سقوط السلطنة العثمانية. وعبر التاريخ أحياناً كانت تتعرض أسماء المعالم الجغرافية للتدخل الإيديولوجي والسياسي ولكن كثيراً ما بقي تأثيره ضعيفاً. لم يلجأ العرب المسلمون لهذا التغيير الإيديولوجي في صدر الفتوحات الإسلامية، فبقيت دمشق وحلب وحمص وحماة و بيروت وصيدا وصور وأورفة والاسكندرية على أسمائها القديمة، وبقيت اللاذقية وأنطاكيا تحملان اسمي القائدين السلوقيين لاوديكوس وانطيوخوس، وكذلك حينما فتحوا شبه الجزيرة الإيبيرية لم يغيروا أسماء المدن الإفرنجية، وإنما حرفوا لفظها بلغتهم العربية فقط، فمدريد صارت (مجريط) ومقاطعة كاستيليا صارت (قشتالة) و توليدو صارت (طليطلة) ومقاطعة (فاندالوسيا/ بلاد الفاندال) صارت(الأندلس) وكاتالونيا صارت (قطالونيا) وسانتاماريا صارت(شنتمرية) وليسبون صارت (اشبونة) و(غرانادا/الرمانة) صارت (غرناطة)، و(كوردوبا) صارت (قرطبة) و(سيفيليا) صارت (اشبيليا )..إلخ. فلم يتغير غير اللفظ.
وإذا عرَّجنا على بلغاريا، فنجد أن اسمها كبلد ووطن ينسب منذ القديم إلى شعب تركي كان يسكن على شواطئ الفولغا(البولغا)، كان قد هاجر إلى أرضها الحالية منذ القديم ، وهذا القوم لا يشكل أكثر من 10% من سكان بلغاريا الحاليين الذين معظمهم من العرق السلافي، وهنالك أقلية تركية وأقلية ماكيدونية، ولكن اسم الوطن لا يزال يحمل اسم قوم قديم حل في هضبة البلقان وجبال ريلا والفيتوشا؛ ولم تغير الأكثرية السلافية الاسم الأصلي للبلاد. وكذلك الحال بالنسبة إلى يوغسلافيا(سلافيا الجنوبية) هذا المصطلح الذي وضع بعد الحرب العالمية الأولى، لم يصمد طويلا وضاع بعد انهيار الاتحاد اليوغسلافي. فيبدو أن أسماء الأمكنة لا تتحمل كثيراً وطأة السياسة والإيديولوجيا. ويبدو أيضاً أن تاريخ أسماء الأمكنة الجغرافية يبعث برسالة تاريخية إلى كل السياسيين المغرمين بالدمج والصهر والتوحيد القسري فتبقى ذاكرة الناس والتاريخ أقوى منهم.
إن اسم كل مدينة في بلادنا واسم كل قرية ومزرعة وجبل وواد وسهل ونهر له قصة وتاريخ، وهذه الأسماء بمجموعها تشكل سمفونية متناسقة بلغاتها ولهجاتها وأوزانها، تتطلب من الباحثين واللغويين والمؤرخين اهتماماً كبيراً. و صمودها على مر العصور ، رغم ما توالى على هذه الأرض من أباطرة وفاتحين وملوك، يجب أن يدفعنا أكثر باتجاه هذا البحث المعمق. وأولا وأخيراً هي تشكل جزءاً حقيقياً من تاريخ منطقتنا بكامل حلقاته وتفاصيله وتعاقباته السومرية والآمورية والكنعانية والفينيقية والآشورية والآرامية واليونانية والرومانية والعربية والتركية والكردية وغيرها… ولقد بذل في هذا المضمار (أنيس فريحة)، الدكتور في الفلسفة واللغات السامية، جهداً مرموقاً في تفكيك ألغاز هذه السمفونية الرائعة، عبر كتابه “معجم أسماء المدن والقرى اللبنانية وتفسير معانيها”؛ وكذلك كان للدكتور(عبدالله الحلو) إسهام هام على هذا الطريق من خلال رسالة الدكتوراه التي أعدها بعنوان “تحقيقات لغوية تاريخية في الأسماء الجغرافية السورية” في معهد الدراسات السامية التابع لكلية العلوم التاريخية القديمة بجامعة برلين الحرة. وقد صدرت في بيروت بكتاب عن دار بيسان للنشر/1999.
* دمشق في 26/9/2010