في السنين الأخيرة، أخذ النقاب، يشكل موضوع نقاشٍ سياسيٍ حامٍ في بلدان أوربا الغربية. لكن ما يثير الانتباه أن هذا النقاش لم يبق مقتصراً على المجتمعات الغربية، وإنما أخذ ينتقل إلى المجتمعات العربية والإسلامية، في الوقت الذي لم يشكل الحجاب (غطاء الرأس) مشكلة في هذه البلدان، باستثناء تركية، التي رغم وجود حكومة إسلامية على رأس السلطة فيها، فلا يسمح بدخول المرأة المنقبة ولا المحجبة إلى الجامعة.
إن انتقال النقاش حول النقاب إلى (البلدان العربية والإسلامية) يرتبط بشكل وثيق بعامل موضوعي، هو عمل المرأة. إن النقاب يطرح مسألة عمل المرأة خارج منزلها، وإسهامها في العمل الاجتماعي؟ فهل يمكن للمرأة المنقبة أن تكون عاملة في معمل أو طبيبة أو صيدلانية أو طبيبة أسنان أو ممرضة أو محامية او قاضية في المحاكم أو ضابطة في الجيش أو الشرطة أو مضيفة طائرة أو بائعة في مخزن أو سائقة سيارة…..؟
إذا افترضنا جدلاً أن النقاب يدخل في إطار الحريات الشخصية للمرأة، فهل هذا فعلاً مع مع حرياتها وحقوقها كإمراة؟ فهو يحرمها موضوعياً من حقها في العمل خارج منزلها، وحتى في منزلها لا تستطيع القيام بأعمالها البيتية قبل أن تخلع نقابها. إن النقاب ببساطة يعيق تفعيل دورها في المجتمع. وكذلك علينا ألا نهمل الأثر النفسي للنقاب على مرتديته وعلى الآخر. فكيف يمكن أن يستوي التعامل بين شخص يرى الآخر و لا يتمكن الآخر من رؤية وجهه وملامحه وابتسامته وسروره وغضبه؟ وكذلك علينا ألا نهمل إمكانية استغلال النقاب من قبل أصحاب السوء والجريمة والإرهاب.
-1-
قبل حوالي سنتين، أصدر شيخ الأزهر السابق (السيد طنطاوي) قراراً إدارياً يمنع فيه المنقبات من دخول جامعة الأزهر، واعتبر النقاب أنه لا يدخل في إطار الفروض والسنن الإسلامية، وأن هذا السلوك، أولا وأخيراً، يحيل إلى التطرف والمغالاة، وخاصة في جامعة فيها فصل بين صفوف الطلاب وصفوف الطالبات، والأساتذة في صفوف الطالبات من النساء، وفي صفوف الطلاب من الرجال. واعتبرت إدارة جامعة الأزهر آنذاك قرار المحكمة بإلغاء قرارها تدخلاً في شؤونها الإدارية.
وفي هذا العام، انتقل النقاش حول النقاب إلى سورية، وذلك على أثر قرار وزير التربية بنقل حوالي ألف منقبة من ملاك وزارة التربية والتعليم إلى وزارات أخرى، وأيضاً بعد التسريبات الإعلامية المتكررة حول منع المنقبات من دخول الجامعات. طبعاً ليس من المستغرب أن تثير هذه الإجراءات ردود الأفعال في مجتمعنا، ما بين مواقف مستنكرة ومؤيدة أو بينَ بين. فالأوساط السياسية (الإسلامية) التمامية المتطرفة، اعتبرت الإجراءات استفزازاً وعداءً للدين الإسلامي، في الوقت الذي رأت الأوساط الدينية المعتدلة أن النقاب تقليداً هجيناً وغريباً على الإسلام. وفي داخل الأوساط السياسية المعارضة، بعضها اعتبر الإجراءات انتهاكاً لحرية المرأة، وبعضها تجاهل الخطوة ولم يعلق عليها على قاعدة “دعها تمر بهدوء”، وبعض آخر أظهر موقفاً واضحاً من النقاب وأضفت عليه سمة النكوص والتخلف، معتبرة أنه يحط من شأن المرأة ويتناقض مع إسهامها الفعال في العمل الاجتماعي وتطويرالإنتاج الوطني، ولكن هذه الأوساط لا ترى أن القرارات الإدارية والفوقية قادرة على حل هذا الإشكال الاجتماعي. ولقد رأى بعض المثقفين أن الإجراءات المتخذة إزاء النقاب خطوة على الطريق الصحيح كما قال الأستاذ جورج كتن مستشهداً بماركس الذي كان يعتبر أن (البرجوازية تقوم أحياناً بما يجب ان نقوم به نحن).. في اعتقادي إن أهم من يسهم في (كسح الجليد الماضوي): التغيير السياسي باتجاه الحرية والحقوق السياسية والمدنية وسيادة القانون من جهة، والإصلاح الديني وفتح النوافذ والشبابيك المغلقة، ولا يمكن بطبيعة الحال نسيان دور تطور البنية الاجتماعية/الاقتصادية كعامل موضوعي أساس.
-2-
إن عودة غطاء وجه المرأة إلى مجتمعنا، بعد أن وصل إلى حد الانقراض التام في أواخر خمسينات القرن الماضي، تشكل نكوصاً خطيراً له، وتعيق تفعيل دور المرأة فيه وحقها في ممارسة كل أنواع العمل الأجتماعي. إن النقاب يتناقض جذرياً مع عمل المرأة خارج منزلها، ويعيدها إلى وضعها الذي كانت فيه خلال القرون الماضية، وهو الوضع الذي تذكر مواطنينا به بعض الأعمال الدرامية الرائجة مثل (باب الحارة، أهل الراية، الدبور…..).
من هنا نرى، أن معالجة هذه الظاهرة الاجتماعية النكوصية، تتطلب عرض الواقع التاريخي والاجتماعي، الذي كان يشكل فيه غطاء وجه المرأة في بعض المدن السورية (وليس الريف) تقليداً اجتماعياً في عهد سيادة (المجتمع الأهلي)، وكذلك يتطلب الأمر إماطة اللثام عن الفترة التاريخية (الانتقالية) التي بدأ ينحسر فيها غطاء الوجه ويصل إلى حد الانقراض في خمسينات القرن الماضي (بدايات تشكل المجتمع المدني وتراجع المجتمع الأهلي خلال فترة الانتداب الفرنسي والسنوات الأولى التي أعقبت الاستقلال). ولقد صورت الأديبة الدمشقية غادة السمان أحسن تصوير هذه الفترة الانتقالية في (الرواية المستحيلة/فسيفساء دمشقية)…
وكذلك لا بد من الكلام على مدى ونسبة انتشارغطاء الوجه كتقليد اجتماعي أيام سيادة المجتمع الأهلي، وتبيان تأثيرالعوامل الديموغرافية على حجم انتشاره (اختلاف دور النساء في العمل خارج المنزل بين الريف والمدينة، وتأثير التنوع الديموغرافي الديني والمذهبي والأثني). فالعرض التاريخي يكشف بقوة على محدودية انتشار غطاء الوجه في مجتمعنا القديم؛ ولكن علينا هنا أن نميز دائماً بين غطاء الوجه(النقاب) وغطاء الرأس (الحجاب)الذي كان سائداً في القرون الماضية في الريف والمدينة معاً، وبين كل التنوعات الديموغرافية السورية، الإسلامية والمسيحية،السنية والشيعية والعلوية والاسماعيلية والدرزية، والعربية والكردية والشركسية والأرمنية.. وكذلك لا يمكن معالجة ظاهرة النقاب ما لم نُمِطْ اللثام عن العوامل السياسية والاجتماعية والثقافية التي أسهمت في شق الطريق أمام عودة هذا التقليد البالي مجدداً إلى مجتمعنا السوري.
-3-
إن تغطية وجه المرأة السورية لم تكن تقليداً شاملاً للمجتمع السوري. ففي الريف، بكل أنواعه الجهوية والدينية والمذهبية والإثنية، لم يكن فيه أي تنقيب أو تغطية لوجه المرأة على الإطلاق. نعم كان هنالك غطاء للرأس والشعر، ترتديه النساء الريفيات السوريات على مختلف مذاهبهن الدينية أو اثنيتهن القومية. ولقد عرَّفنا أكثر من فنان تشكيلي سوري على أزياء المرأة السورية الريفية في كل من القلمون وحرمون وحوران وجبل العرب والساحل وريف حلب وحمص وحماة وإدلب. وإن غطاء الرأس في الريف لم يكن يقتصر على النساء وإنما كان يرتديه الرجال أيضاً(العقال والكوفية).
حتى أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين كانت النساء في المدن السورية الرئيسية يقضين معظم وقتهن في منازلهن ويقتصرعملهن على الشؤون البيتية وتربية الأطفال، وحين يخرجن نادراً إلى الشارع للذهاب إلى السوق والحمام والأقارب، كن يرتدين بالفعل غطاء للوجه. وكذلك كان النساء المسيحيات في بعض المدن الأكثر محافظة وفي بعض البلدات الريفية حول دمشق(عربين وحرستا وداريا) يغطين وجوههن مثل النساء المسلمات تماماً. أما في الريف بشكل عام فالنساء بالإضافة إلى تدبيرهن للشؤون المنزلية، كنَّ يشاركن رجالهن في الذهاب إلى الحقول للقيام بالأعمال الزراعية من حرث وبذار وحصاد وأعمال البيدر وجني المحاصيل والثمار، والذهاب إلى الطاحون والتنور ورعي الماشية وبناء المنازل وترميمها وطلائها سنوياً وغير ذلك من الأعمال الكثيرة جداً. فعمل النساء في الحقول كان عاملا حاسماً في عدم انتشار غطاء الوجه في الريف. ففي الريف لم يكن يستطيع المرء خلال القرن الماضي أن يفرق بين المرأة المسلمة والمرأة المسيحية فكلتاهما كانتا تلبسان الزي ذاته. وإنني أكثر ما أتذكر زي النساء القلمونيات(الساري على الرأس، والوجه مكشوف وخصل من الشعر متدلية على جانبيه)، وهذا الزي كان منتشراً في قرى القلمون (من البريج شمالاً إلى الدريج جنوباً). وفي جبال حرمون من الزبداني وحتى سفوح جبل الشيخ على تخوم فلسطين كان هنالك زي آخر أكثر انفتاحا وفي اعتقادي لا نرى ضرورة لتوصيف لباس نساء عشرات من المناطق الريفية السورية..
-4-
وكذلك إذا افترضنا أن منتصف القرن الماضي حداً تقريبياً بين نهايات المجتمع الأهلي وبدايات المجتمع المدني عشية الاستقلال السوري، نرى أن هنالك قفزة نوعية كانت قد حدثت في المدن السورية الرئيسية بالنسبة إلى لباس المرأة. وعلى سبيل المثال فحين دخلت إلى جامعة دمشق كان فيها في عام 1959 منقبة واحدة في كلية الطب و كانت تثير استهجان الطالبات والطلاب، في الوقت الذي لم يكن في كلية الشريعة أية منقبة، أما بالنسبة إلى المحجبات اللواتي كن يرتدين غطاء الرأس فقط فكن موجودات في الجامعة ولكنهن أقلية في كل الكليات والأقسام والصفوف.
من هنا نرى أن غطاء الوجه الذي ترتديه الآن بعض النساء السوريات لا يعيش زمنه الاجتماعي التاريخي، وهو يختلف في شكله ومضمونه، عن غطاء الوجه الذي كانت ترتديه النساء قبل منتصف القرن الماضي في المدن السورية الرئيسية. فالشكل القديم لغطاء وجه المرأة السورية(الملاية الزَمّ، أو المنديل على الوجه) لم يكن مقطوعا عن السياق الاجتماعي التاريخي الذي كان سائداً في سورية( الإقطاع، عربة الدواب، الخان، الكُتّاب،الطريقة الصوفية). بينما نجد النقاب الراهن مقطوعاً عن السياق الاجتماعي الحاضر تماماً( الرأسمالية، السيارة، الطيارة، المدرسة الحديثة والجامعة، الراديو، التلفزيون، الكومبيوتر، الفندق الحديث، الخليوي، الأنترنت..) وهنالك بعض الحالات في مجتمعنا بالنسبة للنقاب الراهن تثير الاستغراب والدهشة، كأن نرى على سبيل المثال طالبة تلبس نقاب الوجه وتضع كفين أسودين في يديها ونظارات سود على عينيها في الوقت الذي نرى أمها أو جدتها لاتلبس نقاباً ولا حجاباً. ويمكننا أن نستغرب أكثر حين نرى رمزاً شيوعيا تاريخيا على سبيل المثال ترتدي ابنته نقاباً مغالياً بينما أمها لا تضع شيئاً لا على وجها ولا على رأسها. فهنالك الكثير من الحالات التي تؤكد أن النقاب الراهن لايشكل تقليداً أو عادة اجتماعيةً، فهو يعيش في غير زمانه الاجتماعي ويتناقض جذريا، مع الحياة اليومية وأنماط العمل المعاصرة ووسائل الإنتاج الحديثة. فهو نقاب مستورد/ جلب. فالنقاب الطبيعي/البلدي انتهى زمانه منذ حوالي ستة عقود أو أكثر. وهذا ما يؤكد دور العوامل السياسية الاستثنائية التي أدت إلى رجوع تغطية وجه المرأة (النظام الشمولي غير الديموقراطي، إعاقة وردع تشكل المجتمع المدني؛ انتهاك وحريات المواطنين وحقوقهم المدنية والسياسية و المساواة وتكافؤ الفرص بينهم وسيادة القانون). ونحن لا يمكننا نكران عوامل أخرى خلف عودة النقاب للمجتمع، مثل الهجرة الكبيرة إلى الخليج، والموجة التمامية الدينية المتطرفة ومفرزاتها الإرهابية التي خيمت على منطقة الشرق الأوسط منذ الهزيمة المدوية للعرب في حزيران عام 1967، والانتهاك المتواصل لحقوق الفلسطينيين السياسية وعدم إقامة وطن ودولة لهم مثل باقي شعوب الأرض.
إن مثل هذه القضايا الاجتماعية التي تتسم بالحساسية (النقاب والحجاب وقانون الأحوال الشخصية) لا يمكن تجاهلها رغم حساسيتها، وهي تحتاج إلى الحوار العقلاني المعمق والهادئ، وقد بدأنا نشهد على الساحة السورية أن الدراما كانت سباقة إلى مناقشة هذه القضايا الاجتماعية التي نحن بصددها بوضوح وصراحة، وقد رأينا ذلك في العام الماضي في (ليس سراباً)، وفي هذا العام في (ما ملكت أيمانكم) و(تخت شرقي)…… وقبل فترة في فيلم (علاقات عامة)…
zahran39@gmail.com
دمشق في31/8/2010
تغطية وجه المرأة في سورية… بين ماضٍ وحاضر
لاحول ولا قوة الا بالله النقاب تخلف والعهر حضاره
تغطية وجه المرأة في سورية… بين ماضٍ وحاضر
الديموقراطية السبيل الوحيد للحرية والاصلاح الاقتصادي والعدل الاجتماعي ومعاملة المواطنين على انهم بشر لهم حقوقهم الادمية.ان التغيير حتمي ولا يمكن ان يكون هناك نظام ينتمي الى العصور الوسطى في القرن الحادي والعشرين