في مشهد مكرّر لأحد البرامج التلفزيونية الفكاهية، يقف رجلان أمام الكاميرا وهما بحالة يرثى لها، يشكوان همومهما اليومية المعيشية: واحد يئن تحت ثقل عائلة مكوّنة من عشرة أولاد، والثاني ينقص في بيته الغاز والخبز. ثم يعود الأول فيروي قصة وفاة جدته التي لم يجد لها ما يكفي من المال لدفنها، والثاني يشكو الأقساط المدرسية التي لم يتمكن من تدبيرها، وهكذا، ثلاثة هموم أو أربعة، وفي كل من فقرات البرنامج نفسه، تُضاف لائحة أخرى من المشكلات الخاصة التي قد تصادف أي مواطن في أية بقعة من الأرض. وتنتهي كل شكوى بسؤال استنكاري يبطن السخرية، ويطرحه الاثنان تباعا وهما يلويان أيديهما بوجه الكاميرا، وكأنها، أي الدولة، متوارية: «ويْنِيي الدولة؟». فأن يكون السؤال بالعامية اللبنانية «وينيّة؟» بدل «وين؟ يشتمل على مسؤولية المبحوث عنه بالاختباء.
ومع ان البرنامج من إنتاج قناة ذات توجّه سياسي محدّد، هو نقيض التوجه الآخر الذي ينقسم حوله اللبنانيون، إلا أن هذه الفقرة بالذات لاقت رواجا بين غالبية اللبنانيين، على اختلاف انقساماتهم وتطرفاتهم. فالقفلة التي تجيب على الشكوى بسؤال «ويْنِيّي الدولة؟» باتت على ألسنة كل المتحدثين بتقصير الدولة وبغيابها، بأثر ذلك على حوادث السير وزحمته، بالقطع المتمادي والعشوائي للكهرباء، بالاشتباكات بين العائلات حاملة السلاح، بالتخبّط العمراني وغياب أي تخطيط مديني، بالأرصفة التي تضيق … واللائحة التي لا تنتهي.
واللبنانيون المهمومون بأشياء كثيرة والملاحقون بالتوتّر، يحكون بمرارة غياب الدولة ويضربون يدا بيد عجزاً وتسليماً وحنقاً. ولكنهم لا يستطيعون البقاء على هذه الدرجة من سوء المزاج. لذلك، حين يسردون قليلا مما يذوقونه في يومياتهم، يفتّقون أثر البرنامج الفكاهي، وينهون محادثهم بنفس سؤال الفقرة: «ويْنِيّي الدولة؟»… مثلهم مثل شخصيات البرنامج، بائسون مضحكون، يضحكون على أنفسهم ويخلّصون ضمائرهم من عذاب مسؤوليتهم المحتملة في تغييب هذه الدولة.
ولكي تكتمل دائرة التملّص هذه، فان رجالات «الدولة» أنفسهم، او بالأحرى، المفترض إنهم رجالات الدولة، يطرحون أيضا، وان بسياقات مختلفة وبلهجة أكثر وقارا، «أين هي الدولة؟». فتضيع لو كنتَ من غير المتآلفين مع أسرار تعقيدات لبنان المتوالدة: ماذا؟ مواطنون يسألون عن الدولة، ومسؤولون كذلك يسألون؟
في الأمر دوامة فكرية لا يوقفها العرف القائم بتحميل أوزار الدولة على كاهل «المسؤولين» الرسميين فحسب. رجالات الدولة تقع عليهم، بالتعريف، مهمات بناء دولة، وأدبياتنا لا تنضب عن الإدانة الشديدة لخطباء حكامنا الباحثين، هم أيضا، عن الدولة، والذين لا يتخاذلون عن هذه المهمة فحسب، بل ينسفونها من بداية مسارهم السياسي وحتى نهايته. وهذه الأدبيات والخطب، يضيف إليها «المعارضون» الرسميون لهذه الدولة، لا يضيفون أي معنى جديد يُذكر، أو فعل يُذكر، على ما يعنون، هم والسياسيون الملتحقون بهم.
الآن أصبح من الأمور الملحة ان يتجه النظر إلى مسؤول آخر عن غياب الدولة، أي المجتمع بمختلف تكويناته ولحظاته وايماناته وأنماط عيشه. لاحظ أولا: متى يطرح اللبنانيون، ساخرين، سؤال: «ويْنِيّي الدولة؟»؟ فقط عندما يعانون من غياب الخدمات الدنيا للدولة. أي عندما لا تقوم الدولة بواجباتها التي أقرّتها في بيانات وزارية او انتخابية لا تُحصى، بل وتقرها غالبية التصورات القائمة عن الدولة ووظائفها.
ولكنهم لا يطرحون السؤال في حالات أخرى، مثلا عندما يكون هناك للدولة حقوق عليهم، أي يفترض بهم احترام النظام والقانون. في هذه الحالة، يصلّون كي لا يكون للدولة وجود ولا احترام. يخالفون قوانينها، يسرقونها، يرْشون موظفيها… إلى ما هنالك من سلوكيات لا أخلاقية، ولا معيارية، يشكرون ربهم ليل نهار ان مجالات كهذه، مثل غيرها من المجالات، لا وجود للدولة فيها. فيغيب السؤال الفكاهي، ويسود البلطجية والاعتباط.
هل يريد اللبنانيون دولة؟ هل يرغبون فيها فعلا؟
لن تجد إجابة على هذا السؤال في الإعلام، الذي يبدو مستغرقا بالانقسام حول قضايا أكثر «نُبلا». بل تجد الإجابة في الحديث غير المغطّى إعلاميا مع مواطنين من مختلف تكويناتهم، الطائفية خصوصا. يقولون نريد دولة. ولكن ماذا يعنون بالدولة؟ ما هي تصوراتهم عن هذه الدولة؟ هم أنفسهم هؤلاء المواطنون الذين يتنفسون الصعداء عن مخالفتهم لأنظمتها، يريدون دولة، كلٌ بحسب رؤية طائفته لموقعها في هذه الدولة وحصتها «الشرعية» منها. ولكن كلهم مجْمعون على فحوى واحد لقوام هذه الدولة: بحسب قوة كل طائفة على الأرض، أو التي تتصورها الطائفة هي القوة، فالدولة هي المكان الذي تترجم فيه هذه القوة، تحصل على «مكاسب» و»وظائف» ومواقع في القرار. أي أن رؤية مكونات المجتمع للدولة لا تختلف عن رؤية الممسكين بزمامها: الدولة هي القوة لي، لا لغيري. وإذا حصلت منافسة، يأخذ كل منا الحصة المناسبة لهذه القوة من مغانم هذه الدولة؛ بالحسنى اذا توافرت وبالقوة، المسلحة وغير المسلحة، اذا نقصت. عندما يتشابه المجتمع مع السلطة على الشهية المفرطة لهكذا مغانم، فهذا يعني بأن المجتمع ليس له فضل على السلطة، سواء بالحق أو بالأخلاق أو بالقانون.
نقطة أخرى: عندما ينتفض اللبنانيون ويسخطون على دولتهم القاصرة، وينهالون على «الزعماء والسياسيين» باللعَنات والشتائم، ويؤكدون بأنهم «لم يروهم منذ الحملة الانتخابية الأخيرة»، فإنهم لن ينسجموا مع أنفسهم في الاقتراع الانتخابي المقبل: يصوتون لمن كان هدف سخطهم واستنكارهم. هذا سلكوك مكرّر أيضا، لا تستوي انتخابات برلمانية او بلدية او اختيارية من دونه. هم أنفسهم الذين أكلوا أصابعهم ندماً على التصويت لهذا النائب الغائب، ونعتوه بأبشع الصفات، سوف يقترعون له في الانتخابات المقبلة. وجوابهم لدى السؤال عن هذا التناقض مثل جواب الثكالى: «ولكن هل أتى غيره؟». وكأن الـ»غيره» هذا هابط من المريخ.
الآن، مثلما تكثر أدبيات الهجوم على الدولة ذات العيوب اللامتناهية، تزدهر أيضا أدبيات الدولة و»المواطنة» والمفهوم المواطن الخ. جمعيات تتبنى قيام الدولة، وتأخذ على عاتقها «توعية» المواطن على وظائف الدولة وواجباته حيالها. تعقد الحلقات وتنظم ورش العمل وتكلف القيام بالدراسات والأبحاث. هنا أيضا يتضخم عدد الصفحات ويمتلئ الجو بالكلمات. أما النتيجة، فعكسية: الذين تعرضوا لحملات التوعية هذه لم يعتادوا قول أشياء متناقضة تنسجم مع ما يقومون به. والجمعيات المنكبة على قضايا المواطن، هي أيضا إما ملغومة، أي مدعومة، او تابعة لهذا «المسؤول» أو ذاك…
ولكن الأهم من ذلك ان سحر كلمة «مواطن» لم يتغلغل إلى النسيج الاجتماعي، إلى العقل الاجتماعي الجمعي، كما تغلغل السؤال الساخر «ويْنِيّي الدولة؟». لماذا؟ لأن المواطنة تتطلب القيام بواجبات، لا مجرد المطالبة بالحقوق. فيما هذا الواجب تحتضنه بيئة معادية، في الممارسة، للقيام بهذه الواجبات. بيئة ذات ثقافة ناقصة أخلاقيا، حتى وسط ضعفائها، لا تكتفي بقول شيء وفعل شيء، وبصراحة متناهية أحيانا، بل تمجّد كل أوجه القوة غير الأخلاقية، وتلجأ لها لحل مشكلاتها اليومية الخاصة، ولا تدور الا حولها، حول الرغبة بالقوة، حول اشتهائها، حول بذل الغالي والنفيس من اجلها.
ظروف موضوعية تحرم اللبنانيين بناء دولتهم. ولكن هذه الظروف لا تكفي لتفسير قصورهم الفادح، خاصة وإنهم يتمتعون بنوع من الحرية والتعددية هما نبْتة الدولة بامتياز. لكن هاتين الحرية والتعددية تنقصهما الرؤية التي من دونها لا دولة الا اذا كانت دولة بوليسية أو مستبدّة.
dalal.elbizri@gmail.com
كاتبة لبنانية – بيروت
المستقبل