1- مقدمة:
يضج سوق الأفكار والمواقف السياسية بسجالات تبرز من حين الى آخر حول العلمنة والغاء الطائفية السياسية والغاء الطائفية من النفوس قبل النصوص وغيرها.
ثم تخف هذه السجالات لتعود بالمناسبات.
وتكون غالباً هذه السجالات لإحراج طرف او اطراف وللرد على احراج بأحراج آخر، الخ….
نحاول هنا ان نعالج موضوع سيرورة التوصل الى انسجام واندماج مجتمعيين في المجتمع اللبناني المتعدد الطوائف بالإستئناس بالتجربة التاريخية اللبنانية الحديثة وبتجارب دول اخرى لها بعض اوجه التشابه مع لبنان في هذا المجال.
وسنعالج في هذه المداخلة مسألة تعدد الإنتماآت وتطورها في لبنان من الإنتماء الى العائلة الى الإنتماء الى الطائفة، مع متابعة اشكال تحديث اخرى اقل شمولاً واكثر حداثة في الإنتقال الى مؤسسات متعددة الطوائف تهيء للإندماج المجتمعي الحر والتدريجي. لنختم بموضوع الزواج الحر المختلط طائفياً كعنصر اساسي في الإندماج المجتمعي ، ومساهمة ذلك في بناء مواطنة لبنانية اصيلة.
2- تعدد الإنتماءات وتطورها في لبنان
إن فكرة الوطن فكرة حديثة نسبياً في لبنان وفي عالمنا العربي بشكل خاص. ففكرة الأمة أو الطائفة أو العشيرة هي أكثر رواجاً وقدماً بسبب الأصول البدوية الراحلة لقسم كبير من ثقافتنا.
3- الإنتماء الى العشيرة أو العائلة الإمتدادية
هذا الإنتماء هو الأكثر تقليدية وقدماً في بلادنا. فكل اللبنانيين ينتمون إلى أسرة والأسر تنتمي إلى جب والجب إلى عائلة والعائلة إلى عشيرة والعشيرة إلى قبيلة. وهذا صحيح خاصة في المناطق الريفية من حيث يأتي 95 % من اللبنانيين.
أما التعبيرات السياسية لهذا الإنتماء العائلي فهي ما سمي في لغتنا السياسية التقليدية الإقطاع (وحرّف بكلمة الإقطاع السياسي). ففي الفترة العثمانية كما قبلها كان النظام الإجتماعي والسياسي هرمي. ففي كل قرية هناك شيخ للقرية أو لكل عائلة من القرية، ولكل مجموعة قرى كان هناك شيخ أو مقدم. وكل مجموعة مقدمين أو مشايخ كان عليهم أمير أو شيخ أو مقدم. وكان هذا الأمير أو الشيخ أو المقدم خاضع للوالي العثماني. لقد ورثنا في متصرفية لبنان والولايات المجاورة لها والتي ضمت اجزاء منها الى المتصرفية لتشكيل دولة لبنان الكبير كما في الجمهورية اللبنانية هذا النظام معدلاً. ففي كل منطقة لبنانية تقريباً كان هناك عائلة أوعائلات تسمى بالإقطاعية (آل المرعبي في عكار، وآل رعد في الضنية، وآل الضاهر في بشري والزاوية، وآل العازار في الكورة، وآل البيطار في بلاد البترون، وآل حبيش والدحداح والخازن في جبيل وكسروان، و آل أبي اللمع في المتنين، وآل ارسلان وتلحوق وعبد الملك والخوري صالح وجنبلاط وحماده وغيرهم في الشوفين وقسم من جزين، وآل كنعان في جزين ثم آل منقر وآل الفضل ومن بعدهم آل الزين وآل عسيران في منطقتي النبطية والزهراني، وآل علي الصغير (الأسعد) في باقي جبل عامل. و آل شهاب وآل قيس في حاصبيا. أما في البقاع فكان هناك آل حماده في شمال البقاع، وآل العريان في راشيا، وآل القادري وقزعون في البقاع الغربي، وآل حرفوش ثم حيدر وحماده في بعلبك والهرمل ثم برز آل سكاف في زحلة وآل مطران في بعلبك.
هذا السرد ليس بكامل ولا يدعي تغطية كل الزعامات التقليدية، بل هو فقط لدعم كلامنا بوقائع حسية.
هذه الزعامة الإقطاعية كانت في منطقة نفوذها، تجبي الضرائب للوالي العثماني. كانت من الناحية السياسية تترأس كل الزعامات الأصغر في المناطق التابعة لها في القرى، حيث كان لكل عائلة شيخها الذي هو تابع سياسياً لإقطاع المنطقة. وكانت القرى التقليدية منقسمة حسب الإنقسام التقليدي العربي قيسي ويمني فأصبح جنبلاط ويزبكي وأسعدي ومن هم ضد آل الأسعد في جبل عامل، ثم كتلوي ودستوري…
هذا النظام السياسي الهرمي بقي فترة طويلة في لبنان، وتطور فتغيرت بعض الزعامات وبرزت زعامات جديدة وأختفت زعامات قديمة. فالعديد منا لا يذكر ولا يعرف بعض أسماء العائلات التي ذكرت لأن بعضها قد ألغي سياسياً منذ عقود أو تغيرت أسماءها.
4- بدايات التحديث: ” من العائلة الإمتدادية الى الطائفة”
منذ مطلع العهد العثماني وخاصة في القرن التاسع عشر، شهد المجتمع اللبناني تغيرات كلها مرتبطة بتوسع أوروبا في بلادنا والعالم على كل الأصعدة العسكرية والإقتصادية والسياسية والثقافية. هذا التوسع أدى إلى إخضاع تدريجي لإقتصادنا والإقتصاد العثماني بشكل عام إلى العلاقات السلعية النقدية الممهدة للرأسمالية. واتجه إقتصادنا الى تصدير الخامات لأوروبا (الحرير، القطن، الصوف، الحنطة…)، واستيراد المصنوعات منها. فتراجع الإكتفاء الذاتي في الريف وبرزت فيه فئات جديدة من المتمولين: تجار ومستثمرين زراعيين وصناعيين ثم مصرفيين في المدن والريف. وبرزت ظاهرة العمل المأجور في التجارة والصناعة والمال والزراعة والخدمات… وبسبب التدابير الصحية التي أدخلها إبراهيم باشا إلى بلادنا وكذلك الإرساليات الغربية، تراجعت نسبة الوفيات وازداد عدد السكان بشكل هائل في المناطق المعنية بهذه التدابير أي المناطق الوسطى والشمالية في جبل لبنان التي عرفت انفجاراً ديمغرافياً منذ منتصف القرن التاسع عشر. بنفس الفترة ضرب التوسع الأوروبي الحرف والمانوفاتورة التقليدية في قرى وبلدات الريف وفي المدن، فرمي بالاف الحرفيين خارج سوق العمل. فلهذين السببين تسارعت الهجرة الى المدينة ثم الى الخارج…
وبنفس الفترة أي منذ القرن الثامن عشر بدأت الطوائف المسيحية الكاثوليكية تطور مؤسساتها التعليمية الوطنية، بتأثير من الإصلاح المضاد (Contre Réforme) الذي شرعت فيه الكنيسة الكاثوليكية منذ القرن السادس عشر لمجابهة الإصلاح البروتستانتي. وتلى ذلك في القرن التاسع عشر توافد الإرساليات البروتستانتية والكاثوليكية والأرثوذكسية الى لبنان والمشرق العثماني. وكان من أول نشاطاتها فتح المدارس والمطابع والمستشفيات… انطلاقاً من المدن الخاصة.
فهذه الهجرة الى المدينة تزاوجت مع تفكك تدريجي لبنى العائلة من خلال نمو العمل المأجور وانعدام السكن العائلي المشترك وخسارة علاقات التضامن والتعاون (العونة) التي كانت تشكل نوع من شبكة الأمان في الريف التقليدي.
لذا شكلت مؤسسات الطوائف في المدن من دور عبادة وجمعيات خيرية ومدارس ومستوصفات الوعاء البديل للعلاقات الإجتماعية العائلية الموجودة في الريف. ضف الى ذلك أجهزة الحماية الأمنية (القبضايات) التي برزت في بيروت لحماية الريفيين المسيحيين ثم الشيعة الوافدين الى المدينة. فبرزت الطائفة كشكل تضامني بديل عن العائلة والعشيرة في المدينة. فالمعبد هو مكان تلاقي المهاجرين من الريف من أصول متنوعة. والطائفة تؤمن المؤسسات الراعية والساهرة على ابنائها (مؤسسات تعليمية، صحية، حمائية، محاكم للأحوال الشخصية، جمعيات للرعاية الإجتماعية…).
من هنا، ترجم هذا الواقع الإجتماعي الجديد سياسياً: فبدأ التحديث السياسي ينطلق من المدن وضواحيها والمهاجر. هذا التغيير هو نشؤ أحزاب الطوائف في المنتصف الأول من القرن العشرين:
فالمسيحيون والموارنة ينشؤون حزب الكتائب في بيروت،
والشيعة ينشؤون حزب الطلائع في بيروت،
والسنة يبدأون بحزب النجادة في بيروت،
والأرثوذكس حزب الغسانيين في بيروت (المزرعة).
وهذا التطور قادته فئات اجتماعية وسطى صاعدة لا تنتمي إلى عائلات إقطاعية بل بالعكس ناهضتها ضمن طوائفها. وأحزاب الطوائف تجمع فئات وشرائح اجتماعية متنوعة شعبية ومتوسطة الأصول. يجمعها التضامن الطائفي و”حماية” أبناء الطائفة وإبراز دورهم وثم مناهضة “الإقطاع” لدى تمددها اللاحق في الريف.
وفي الخمسينات بدأت أحزاب الطوائف تمتد الى مدن وبلدات وقرى الريف اللبناني انطلاقاً من المدن وضواحيها. فنرى مثلاً أول نائب عن الكتائب اللبنانية في بيروت ثم في المتن ثم في كسروان وبعبدا ثم في البترون وجزين وزحلة. مما يعني إن نفوذ هذا الحزب بدأ يمتد من الوسط البيروتي الى الأطراف الريفية.
كذلك لدى الشيعة كان رشيد بيضون (مؤسس ورئيس حزب الطلائع والجمعية العاملية للتعليم) أول نائب شيعي غير منتمي الى العائلات الإقطاعية، بل من أصول مدينية دمشقية. ثم أتت حركة الإمام السيد موسى الصدر التي أصبحت حركة أمل، وأمتد نفوذها من الضاحية الجنوبية في بيروت ومدينة صور وتحالفها مع القيادات الشيعية من الصف الثاني ضد آل الأسعد (عسيران، الزين، الخليل، فواز…). ثم إكتسحت الحصون الأسعدية انطلاقاً من معركة النبطية الأنتخابية عام 1974. وجاءت حروب الآخرين على أرض لبنان، لتسرع من امتداد هذه الحركة الى مناطق التواجد الشيعي الأخرى في الأطراف. حتى أتت “الثورة الإسلامية” في ايران في آخر السبعينات وأضافت الى حركة أمل حزب الله الذي هو في الكثير من وجوهه حزب سياسي للطائفة الشيعية في لبنان، شعبي الجذور حديث التنظيم ولو ارتكز اجتماعياً في الجنوب بشكل واسع على العائلات الأسعدية سابقاً، لأن حركة أمل ارتكزت في القرى غالباً على العائلات المنتسبة تقليدياً للزعامات المنافسة للزعامة الأسعدية. لذلك نرى قوة حركة أمل أكبر في المناطق الجنوبية الساحلية (قضائي صيدا وصور) وقوة حزب الله أهم في المناطق الداخلية: أقضية النبطية، بنت جبيل، مرجعيون، حيث كانت الزعامة الأسعدية هي الأقوى. وكذلك نرى حزب الله أقوى في منطقتي بعلبك والهرمل حيث لم تترك الثورة الإيرانية الوقت لحركة امل لتتوسع كما في الجنوب فسبقها حزب الله في هذه المنطقة لأسباب عديدة.
والوضع مماثل بالنسبة للطائفة السنية التي هي غالباً طائفة مدينية، وحيث لم تستطع توليد زعامات ذات شمولية وطنية قبل التسعينات من القرن العشرين. فكانت الزعامات السنيه، أما من الوجهاء التقليديين المتفاوتين الحداثة (آل سلام واليافي وكرامي والجسر والبزري…)، أما قيادات شعبوية حديثة شبيهة بمثيلاتها في الوسطين المسيحي والشيعي (معروف سعد، ابراهيم قليلات، عبد المجيد الرافعي، فاروق المقدم وغيرهم).
لعبت جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية دوراً كبيراً في “بنينة” (Structuration) الطائفة السنية خاصة في بيروت. فبادرت منذ قرن وربع الى إنشاء المدارس، والكليات الجامعية والى تعليم أبناء المسلمين السنة في القرى. وكانت هذه الجمعية حتى فترة قصيرة باشراف آل سلام. لكن الموحد الفعلي للطائفة السنية كان الرئيس رفيق الحريري حيث شرع منذ آواخر السبعينات بعمل تربوي شاسع: فأعطى المنح لعشرات الآلاف من الشبان والشابات وأنشأ المدارس واشترى بعضها ودعم التعليم الجامعي. وكانت مؤسسة الحريري بكل أجهزتها رافعة لتحديث وتقدم وتوحيد الطائفة السنية. ومع التسعينات انبثق منها “تيار المستقبل” منطلقاً من صيدا وبيروت الى إقليم الخروب وطرابلس والضنية وعكار والعرقوب وحاصبيا والبقاع الغربي وراشيا وجميع مناطق السكن السني في لبنان. فأفل نجم الزعامات التقليدية وقسم كبير من الزعامات الشعبوية مع بعض الإستثناءات وبرز تيار المستقبل كـ” كتائب السنة” كما كان يصفه الصديق جهاد الزين. فهكذا اكتمل حلقة التحديث السياسي في لبنان مع دخول الطائفة السنية في هذه السيرورة.
وفيما يختص بالطوائف اللبنانية الأخرى فقد أثر حزب الغسانين لدى الروم الأرثوذكس، وبقيت الأحزاب الأرمنية قوية في طائفتها رغم ما أصابها في التسعينات ومطلع قرن الواحد والعشرين من تهميش سياسي.
وهناك ظاهرة لافتة في طائفة الموحدين الدروز، اذ استطاع الزعيم الدرزي الأبرز كمال جنبلاط أن يستوعب موجة التحديث بإنشاء “الحزب التقدمي الإشتراكي” الذي استقطب الحزبية الجنبلاطية من الدروز بأطر حديثة وحافظ عليها وأحاطها بحمايات من طوائف أخرى. بينما لم تستطع الزعامة الإرسلانية التكييف مع التحديث وضعفت، حتى انشاء الأمير طلال ارسلان “الحزب الديمقراطي اللبناني” في السنوات العشر الأخيرة.
ضف إلى ذلك نشؤ مؤسسات شاملة للطائفة الدرزية منذ الأربعينات من القرن العشرين مع قانون الأحوال الشخصية (1948) وتطوير وتوحيد مشيخات العقل والمحاكم المذهبية ونشؤ مؤسسات عديدة أخرى تربوية واجتماعية وصحية وعلمية وفكرية لأبناء الطائفة.
من كل ذلك يبرز ان عكس ما كانت تقول به تيارات فكرية وسياسية واعداد وفيرة من المثقفين ذوي التوجهات التحديثية بأن الطوائف ظاهرة تقليدية وتزول تدريجياً تجاه الإنصهار الوطني، ان ذلك لم يحصل فالعكس حصل. وحاملي هذه النظرية أحزاباً وتيارات وأشخاص ينتمون الى مدارس فكرية مختلفة منها القومية (السورية، اللبنانية، العربية) ومنها الليبرالية العلمانية التحديثية ومنها الإشتراكية الماركسية والغير ماركسية. وطبعاً تعود هذه الطريقة بالتفكير بالأساس الى ماضينا الإستعماري حيث استعمرتنا فرنسا ومن خلال ذلك تأثرنا فكرياً بالفكر السياسي اليعقوبي (Jacobin) النابع من الثقافة السياسية الفرنسية. وقد نسينا ان الثورة الفرنسية الديمقراطية العلمانية التوحيدية هي البنت الشرعية لمذبحة “القديس برتليمي”: في هذه الليلة من القرن السادس عشر ذبحت القيادات البروتستانتية الفرنسية وضرب البروتستانت وأصبحوا أقلية صغيرة في فرنسا وطغى الكاثوليك في ثقافتهم ثم ثاروا عليها بعد 200 سنة على الكنيسة الكاثوليكية والنظام الملكي.
فعلمانية الثورة الفرنسية هي علمنة للثقافة الكاثوليكية: فمن اثني عشر عيد وطني في فرنسا (مثلاً) هناك ثمانية منها هي أعياد كاثوليكية. أين هي العلمانية؟
وكذلك في تركيا: فعلمانية أتاتورك برزت بعد تهجير اليونانيين وذبح الأرمن في الأناضول، فأصبحت تركيا بلداً مسلماً سنياً فيه أقلية قومية كردية وأقلية مذهبية تركية ALEVI (أو الكزيلباش اي الرؤوس الحمر). وهاتين أقليتين تكاد تشكل نصف سكان تركيا.
أما إيديولوجيا الدولة الأتاتوركية فهي تقمع القومية الكردية والمذهب العلوي والأقليات المسيحية المتبقية في تركيا بإسم القومية التركية والعلمانية. هذا مع العلم ان الدين مسجل على الهوية الشخصية في تركيا. فنعم هذه العلمانية التي لها ايجابيات كثيرة من جهات عديدة..
فلو استعمرنا، آل “هابسبورغ” أباطرة النمسا والمجر أو آل “رومانوف” قياصرة روسيا وهن امبراطوريتين متعددتين القوميات والأديان وناظمة لهذا التعدد ومنتجة لثقافة سياسية قابلة للتعدد ومتفاعلة معه ومعترفة بغنى هذا التعدد وايجابياتها؛ لكانت ثقافة مثقفينا وأحزابنا السياسية أكثر تطابقاً مع واقعنا ولا تستحي بمجتمعنا المتنوع دينياً ومذهبياً وانعكساته الإجتماعية والسياسية.
5- أشكال أخرى أقلوية من التحديث نمو المؤسسات المتعددة الطوائف
لم يكن التحديث المجتمعي عبر إنشاء ونمو مؤسسات الطوائف الشكل الوحيد للتحديث الذي عرفه المجتمع اللبناني. لقد عرف هذا المجتمع أشكال أخرى من التحديث نتجت عنها نمو مؤسسات تضم لبنانيين من طوائف مختلفة حول أهداف موحدة.
5-1 التيارات الفكرية والأحزاب المتعددة الطوائف
منذ منتصف القرن التاسع عشر وبتأثير من الإرساليات الغربية وخاصة البروتستانتية تفاعل المجتمع اللبناني المديني كما غيره من المجتمعات المدنية العثمانية مع الأفكار السياسية التحديثية للغرب. وكان لهذا الفكر الغربي ثلاثة روافد أساسية:
الرافد القومي، الرافد الليبرالي، والرافد الإشتراكي.
5-2 التيارات والأحزاب القومية
نشأت هذه التيارات في الأجواء البروتستانتية البيروتية وحول مؤسساتها الفكرية والتعليمية. ومن أبرز دعاتها الشيخ ابراهيم اليازجي والمعلم بطرس البستاني. وكان تفكيرهم لا يميز بوضوح التوجه العربي عن التوجه السوري. اليازجي وجورج انطونيوس دعوا الى يقظة العرب وبطرس البستاني أصدر “نفير سوريا”. ثم تطورت هذه التيارات فدخلها لبنانيون وسوريون وفلسطنيون من طوائف متعددة. تفاعل السياسيين منهم مع الهاشميين في مطلع القرن العشرين. ولكن التيار الأبرز الذي انتظم بشكل حديث كان التيار القومي السوري ورائده انطون سعاده الذي أنشأ الحزب السوري القومي الإجتماعي عام 1933، ودعا الى وحدة “الأمة السورية” التي شملت حسب عقيدته كل من فلسطين، الأردن، سوريا، لبنان ثم الكويب وقبرص. وهي دعوة علمانية قومية على طراز القوميات الأوروبية في القرن التاسع عشر، تستند جزئياً الى تمجيد الماضي قبل الإسلامي للمنطقة (أشوريين، بابليين، كنعانيين…)
أما التيار القومي العربي فبعد محاولات “العروة الوثقى” المتجددة في الثلاثينات، نشأ حزب البعث في دمشق في الأربعينات من القرن العشرين وسرعان ما امتد الى لبنان وهو يدعو الى وحدة الناطقين بالضاد من المحيط الى الخليج وكذلك الى “الحرية” و”الإشتراكية”.
ثم أتت الحركة الناصرية في الخمسينات وبرز منها تنظيمات متعددة حتى آواخر السبعينات.
أما التيار القومي اللبناني فقد نشأ في بيروت وجبل لبنان والمهاجر المصرية في آواخر القرن التاسع عشر. ومن رواده بولس نجيم وانطون الجميل وغيرهم. وتجسد في حزب الإتحاد اللبناني ثم في حزب الكتائب اللبنانية الذي نشأ عام 1936 وله ايديولوجية قومية لبنانية شبيهة بقوميات أوروبا في القرن التاسع عشر والعشرين تدعو الى العلمانية وتستند الى تاريخ الفينيقيين القديم كعمق تاريخي للقومية اللبنانية. وبموازاة هذا الحزب نشأت تيارات وتشكيلات قومية أخرى حول الشاعر سعيد عقل وغيره، كما تبنت القومية اللبنانية أحزاب الوجهاء المسيحيين كالكتلة الوطنية وحزب الوطنيين الأحرار وغيرهم.
5-3 التيارات الليبرالية
نشأت هذه التيارات منذ آواخر القرن التاسع عشر بتأثير من الليبرالية الأوروبية في بيروت وبين اللبنانيين المهاجرين في مصر، ومن أبرز دعاتها ميشال شيحا وفرح انطون وشبلي الشميل ونعوم اللبكي. وكان قسم كبير منهم متأثراً بالبنائين الأحرار (الحركة الماسونية) الناشطين جداً في المدن العثمانية منذ آواخر القرن التاسع عشر.
وقد أثرت هذه التيارات على الفكر السياسي والإقتصادي حتى في أحزاب الوجهاء كالكتلة الوطنية، والوطنيين الأحرار، وأقتصاديا على حب الكتائب وبعض القيادات والأحزاب في الأوساط السنية (الهيئة الوطنية وغيرها). وفي مطلع وآواخر الستينات برز تيارين ليبراليين: الأول هو “الحزب الديمقراطي” العلماني التوجه والذي ضم شخصيات من طوائف مختلفة ودعا الى الإصلاح العلماني والديمقراطي ومن ابرز قياداته د. إميل بيطار و د. باسم الجسر والمحامي جوزف مغيزل. كما برزت “حركة الوعي، جبهة الشباب اللبناني” وهي حركة طلابية في الجامعة اللبنانية ذات توجهات ديمقراطية علمانية وأهداف نقابية وثم سياسية. لكن الحرب التي عصفت في لبنان منذ منتصف السبعينات لم تعطي لهذين الحزبين امكانيات اختبار حظوظهما في المجتمع اللبناني. كما برزت في آواخر الخمسينات “الحركة العلمانية الديمقراطية” بقيادة ميشال الغريب وسامي الشقيفي قد أفل نجمها فيما بعد.
5-4 التيارات والأحزاب الإشتراكية
منذ مطلع القرن العشرين بدأ بعض اللبنانيون خاصة في المهاجر المصرية، يتأثرون بالتيارات الإشتراكية الموجودة هناك. وذلك في بعض أوساط العمال والمثقفين. وبعد الحرب العالمية الأولى بدأت الحركات الشيوعية في مصر خاصة في أوساط عمال التبغ في الأسكندرية. وكان من بين روادها المحامي الزحلاوي انطون مارون الذي قتل على يد البوليس المصري أثناء نضاله مع عمال التبغ في الإسكندرية. والعامل فؤاد الشمالي الذي عاد الى لبنان ليعمل في مصنع التبغ في بكفيا حيث أسس أول تنظيم للحزب الشيوعي اللبناني عام 1925 بإسم حزب الشعب اللبناني مع المؤرخ يوسف ابراهيم يزبك وبعض الأعضاء البيكفاويون. وتطور هذا الحزب الى حزب شيوعي ورفد بمجموعات من الشيوعيين الأرمن الناجين من الإبادة. وهكذا انتشر الحزب الشيوعي من وسط الجبل الماروني والأرثوذكسي إلى بيروت وضواحيها ثم إلى المناطق الريفية والمدنية الأخرى خاصة في الشمال والجنوب الشيعي وبعض البقاع…
يجب أن نضيف الى الحزب الشيوعي تشكيلات ماركسية أخرى ظهرت خاصة بعد هزيمة 1967 وسميت باليسار الجديد: ومنها “لبنان الإشتراكي” الذي اندمج بعد ذلك مع ماركسيي حركة القوميين العرب فأصبح “منظمة العمل الشيوعي”. وكذلك مجموعات صغيرة تروتسكية وماوية وقومية عربية متمركسة.
في لاوعي مؤسسي ومناضلي هذه الأحزاب لم تكن الدوافع الطائفية غائبة، فالفكر القومي والليبيرالي والإشتراكي وتنظيماته يمكن ان تخدم مصالح الطائفة أو أفرادها بدون يافطة طائفية وهذا ما حصل في كثير من الأحيان…
6- التنظيمات الإجتماعية المتنوعة
نعني بذلك التنظيمات النقابية وهيئات أرباب العمل والجمعيات المتنوعة الأهداف والإنتماء الطائفي لأعضائها.
6-1 النقابات
نشأت النقابات قانونياً منذ عام 1946 على اثر صدور قانون العمل، واساساً بدفع من الحزب الشيوعي اللبناني ومن حزب الكتائب اللبنانية. ثم تنوعت مشاربها الحزبية. كما نمت نقابات لا علاقة للأحزاب بها. وتشكلت اتحادات على اسس متنوعة قطاعية ومناطقية ووطنية. وانتمت الى مراجع عربية ودولية متنوعة.
لكن هذه النقابات اتحدت بمجملها ضمن الاتحاد العمالي العام. وقد حافظ هذا الإتحاد على وحدته اثناء 15 سنة من حروب الآخرين على ارض لبنان ورغم ضغوط الميليشيات والأجهزة. وكان رمز هذه الوحدة التظاهرة التي جرت في آذار 1987 للإعلان عن رفض اللبنانيين للتدهور الإجتماعي والإقتصادي الذي سببته الحروب، والمطالبة بالسلم وبإجراءات اقتصادية واجتماعية تؤمن مصالح اعضائها ومن تمثلهم. وقد التقى في هذه المظاهرة على المتحف، متظاهرين من شطري العاصمة الشرقي والغربي رغم ضغوط الميليشيات والأجهزة. وكان ذلك نظيراً ما يمكن ان يحصل…
لقد لعبت ايضاً نقابات اصحاب المهن الحرة (اطباء، محامون، مهندسون، صيادلة، اطباء اسنان…) دوراً مماثلاً. فحافظت على وحدتها وعلى وحدة مطالبها المهنية والوطنية المشابهة في هذا المجال لمطالب الإتحاد العمالي العام.
6-2 الهيئات الممثلة لأرباب العمل
كما النقابات بقيت هذه الهيئات موحدة. ولم تنقسم غرف التجارة والصناعة والزراعة. بل طورت غرفة تجارة وصناعة بيروت تسميتها فأصبحت غرفة تجارة وصناعة وزراعة بيروت وجبل لبنان من اجل احتواء امكانية انشاء غرفة تجارة وصناعة وزراعة في جبل لبنان. وكذلك الأمر، بقيت الجمعيات الأخرى لرجال الأعمال كجمعيتي المصارف والصناعيين وجمعية تجار بيروت وغيرها موحدة في هيكليتها ومطالبها. ونشأت جمعيات لرجال الأعمال في المناطق على نفس الأسس.
6-3 الجمعيات الأهلية المتنوعة الإنتماء الطائفي باعضائها او ذات التوجهات العلمانية
تطورت هذه الجمعيات منذ عقود طويلة في مجالات حركات الشباب والطلاب واتحادات الكتاب والفنانين والحركات والمجالس الثقافية والنوادي الرياضية والثقافية والإجتماعية والجمعيات ذات الأهداف الإنمائية وبعض الجمعيات الخيرية والفكرية.
رفدتها في آواخر القرن الماضي الجمعيات البيئية والجمعيات المطالبة بحقوق المرأة وجمعيات حقوق الإنسان وغيرها. كل هذه الجمعيات عملت وتعمل لأهداف تتخطى العائلات والطوائف.
6-4 دور اجهزة الدولة في هذا المجال
ان الدولة اللبنانية رغم قيامها على مبدأ تمثيل الطوائف في السلطات التشريعية والتنفيذية والإدارة العامة، فتحت مجالاً لتلاقي واختلاط اللبنانيين ضمن اجهزتها في العديد من الدوائر الرسمية وفي السلك العسكري والأسلاك الأمنية، كما في العديد من المدارس الرسمية والجامعة اللبنانية قبل الحرب: في هذه الأطر ايضاً تعلم اللبنانيون الإختلاط الطائفي ومعرفة الغير الطائفي وعدم اعتباره عدواً دائماً. فنشأت علاقات شخصية واجتماعية وسياسية وعائلية بين اللبنانيين من طوائف مختلفة بسبب تواجدهم اليومي في اجهزة الدولة الإدارية والعسكرية والأمنية والتربوية وغيرها. وقد سهل ذلك التوزيع الطائفي الشبه الثابت للوظائف قبل الحرب، فأصبح التنافس على الوظيفة بين ابناء الطائفة الواحدة وليس بين ابناء الطوائف المتعددة. ولكن ذلك زال اثناء وبعد الحرب فبرز تنافساً بين ابناء الطوائف المختلفة للوصول الى مراكز ادارية معنية.
6-5 الزواج المختلط طائفياً اساس الإنصهار المجتمعي
ان الطائفة اضافة الى كونها مجموعة من المؤسسات الدينية والقضائية والسياسية والتربوية والصحية والإعلامية والمالية والإجتماعية المترابطة، هي بالإساس شبكة قرابة.
فالتزاوج يجري غالباً بين ابناء وبنات الطائفة الواحدة بسبب الميل الى عدم اختلاط الطائفة بالطوائف الأخرى من خلال الزواج. وهذا هو الأساس المتين اجتماعياً للطوائف. واذا كان هذا التزاوج بين المذاهب المسيحية قد ازداد في العقود الأخيرة بسبب التحديث والتهجير اللذين زادا من اختلاط المذهبي بين مسيحيي لبنان، فإن التزاوج بين مسلميه من الطوائف مختلفة وبين مسيحيين ومسلمين ما زال نادراً وصعباً. لذلك لا امل للإنصهار الوطني اذا لم يفتح الباب امام التزاوج بين ابناء وبنات الطوائف والمذاهب المختلفة بالإتجاهين اي السماح للبنت ان تتزوج شاباً من طائفة اخرى والشاب ان يتزوج بنتاً من طائفة اخرى وذلك في كل الطوائف دون استثناء.
هذه هي تجربة الدول التي سبقتنا في هذا المجال: فالمانيا الإتحادية مثلاً بعد الحرب العالمية الثانية كانت منقسمة بشكل واضح بين الكاثوليك والبروتستانت: تزاوج قليل، اختلاط قليل في المدارس، احزاب سياسية ذات اغلبية مذهبية، توزيع المسؤوليات الكبرى في الدولة (رئاسة الدولة والمستشارية) مداورة بين الكاثوليك والبروتستانت، تمويل رجال الدين والكنائس من قبل الدولة بواسطة رسوم يدفعها المؤمنون لكنيستهم عبر الدولة. وكان البروتستانت اكثر ثراءاً وتعلماً ونفوذاً في السياسة والدولة والثقافة من الكاثوليك.
كل ذلك ذاب تدريجياً وخاصة منذ مطلع التسعينات، فالتزاوج بين الكاثوليك والبروتستانت اصبح دارجاً جداً كذلك الأختلاط في المدارس والجامعات والنقابات والسكن. واصبح الكاثوليك والبروتستانت متساوون اقتصادياً واجتماعياً، وجرت علمنة محلية للمجتمع بالرغم من الوجود الرسمي والمعترف به والممول من الدولة لمختلف الكنائس وبالأجهزة الدينية الخاصة لليهود والمسلمين.
خلاصة:
المواطنة ممكنة في مجتمع متعدد الطوائف مثل لبنان
الأوطان لا تبنى بالحديد والنار فقط على طريقة (بسمارك) وبعقلية البسماركيين العرب و”العالم ثالثيين” (Tiers Mondistes).
الأوطان تبنى أيضاً بالتوافق والحوار والمواثيق. لدينا امثلة كثيرة عن ذلك، أهمها سويسرا وهولندا والنمسا وغيرها من الديمقراطيات في اوروبا. فرنسا ليست المثل الوحيد ولا انكلترا حيث قهرت اكثرية الأقليات الدينية والثقافية لبناء الدولة-الأمة. هناك ديمقراطيات في اوروبا جربت الحديد والنار والأنظمة التسلطية لبناء الدولة الأم كإطاليا واسبانيا ثم عادت الى الديمقراطية بالحوار والتوافق واحترام خصوصيات كل المجموعات في الوطن. تقاتل السويسريين خلال مئات السنوات واخيراً وصلوا في القرن التاسع عشر الى ميثاق وطني يحفظ وحدة سويسرا في التنوع والديمقراطية المحلية، حيث لسويسرا مثلاً اربع لغات: الإلمانية، الفرنسية، الإيطالية (5% من السكان)، والرومانشية (0.5% من السكان). ولكل من المجموعات اللغوية الحق في استعمال لغتهما في الإدارة العامة، في المدارس، والمحاكم، والإدارة المحلية، الخ…
وقد اجتازت سويسرا تجربة الحربين العالميتين الأولى والثانية التي كانت اساساً حروباً بين فرنسا والمانيا دون ان تتأثر تركيبتها، الى الإهتزاز والإنفراط. لكن هذه الديمقراطية التوافقية محمية بحيث يساهم في حمايتها عسكرياً كل مواطن كل سنة. ومحاربة هذا الجيش في سويسرا الجبلية امر صعب…
الى جانب هذه الدول الأوروبية هناك الهند اكبر ديمقراطية في العالم، مع مئات اللغات وعشرات الولايات والأديان، حيث تعترف الدولة بكل الأديان، وبكل اللغات عندما تبلغ عدداً معيناً من الناطقين وتدعم مؤسساتها التعليمية وتعطي سلطات واسعة للولايات، مما سمح لهذه الدولة – القارة من الإستمرار والنهوض وهي في طريقها الى ان تصبح قوة عالمية.
كما ان كندا بتنوعها اللغوي والقومي وسياستها المبنية على تنوع الثقافات (multiculture) وبنيتها الفدرالية واحترامها واحتوائها لكل الأديان تعطينا مثلاً عن بناء مواطنية علمانية غير معادية للدين ودامجة التنوع مع احترامه، وتسير افريقيا الجنوبية بعد خروجها من”الأبرتايد” في طريق مماثلة.
اذا المواطنة ممكنة في لبنان المتنوع طائفياً ومذهبياً ومتحاور بدافع من الرغبة بالعيش المشترك التي اختبرنا منافعه كما اختبرنا مضار فقدانه.
boutroslabaki@yahoo.com
* بيروت
نشر في جريدة النهار في 25/7/2010
الإنصهار الحر والتدريجي: مدخل الى مجتمع مدني غير متوتر فاروق عيتاني — farouk_itani@live.com بالنسبة الى انطون باشا الجميل، استغرب قول كاتب المقال انه من دعاة الفكرة اللبنانية. حمل انطون الجميل الجنسية العثمانية ثم الجنسية المصرية. ولم ار بعد انه حمل الجنسية اللبنانية. من خلال اعداد السنة الاولى من مجلة الزهور التي اصدرها انطون باشا بمفرده من القاهرة سنة 1910 شهر اذار والتي املك صورا كاملة عنها، لم المس ان انطون الجميل كان لبناني التوجه، بل كان يدور في فلك اللغة العربية وادابها. كان اقرب الى العروبة من اي شيء اخر. اما جمعية الاتخاد اللبناني في القاهرة فهي تجمع اقرب الى… قراءة المزيد ..