منذ الثمانينات من القرن الماضي، لم تكن جماعة «حزب الله» الشيعية الإرهابية معتادة على الوعظ العلني الفظ حول حاجة النساء لارتداء الحجاب. فلم يخف هذا «الحزب» في الأصل، رغبته في تحويل لبنان إلى دولة إسلامية شيعية — حيث دعا بيان التنظيم من عام 1985 إلى إقامة “حكومة إسلامية”، وتحويل المسيحيين إلى الديانة الإسلامية — لكن أثبتت هذه الجهود وبصورة كبيرة بأنها لا تحظى بشعبية، نظراً للتعددية اللبنانية المؤلفة من المواطنين المسيحيين والمسلمين السنة. ولذا فعندما اغتيل زعيم «الحزب» عباس الموسوي عام 1992 امتنع خليفته حسن نصر الله عن إبداء الدعم الصريح لحكومة دينية في لبنان، بل وتراجع بصورة كبيرة عن مساعيه لفرض تقاليد دينية محافظة على كوادر «حزب الله» من الإناث. بيد، أصبحت المنظمة الآن وبصورة فجائية، تتصرف مرة أخرى بطريقة تكشف عن اضطراب عميق فيما يتعلق بالآداب التي ينبغي أن تتحلى بها المرأة الشيعية.
وهنا مثال واحد، بعد مرور شهرين على اعتراض إسرائيل للسفينة “مافي مرمرة”، يستعد أسطول مساعدات آخر للإبحار نحو قطاع غزة الفلسطيني الذي تسيطر عليه «حماس»، ومن المقرر أن يرحل هذا الأسطول اللبناني في الأسابيع القادمة، تتقدمه السفينة “مريم” التي تنقل الإناث فقط. والفكرة وراء هذا التجهيز الخلاق والتقدمي هو رفع الأثر السلبي ضد إسرائيل لو حاولت فرض الحصار ومنع دخول القارب الذي ليس على متنه سوى سيدات رقيقات.
غير أنه تبين بأن ليست جميع النساء اللبنانيات محل ترحيب في هذه النزهة البحرية. ففي حزيران/يونيو أفادت صحيفة “السياسة” اليومية الكويتية أن المغنية اللبنانية الفاتنة هيفاء وهبي — ربما هي أشهر إمرأة في لبنان كلها — قد حاولت الإلتحاق بهذه الرحلة لكنها قوبلت بالرفض من قبل «حزب الله». لماذا؟ يبدو أن «حزب الله» كان قلقاً من أن [ظهور] هيفاء بملابس “غير محتشمة سيضرب بسمعة كل النسوة المشاركات في الرحلة”.
إن رفض الميليشيا الشيعية مشاركة هيفاء كان جديراً بالملاحظة، فليس فقط أن حضورها كان سيرفع من الدعاية لهذه الرحلة، ولكنه أيضاً كان سيزيد بصورة مثيرة من الثمن الذي “ستدفعه” إسرائيل [في كل ما يتعلق] بعلاقاتها العامة لو أساءت مرة أخرى في اعتلائها السفينة. وعلاوة على ذلك، فإن هيفاء — مسلمة شيعية من المنطقة التي تسيطر عليها «حزب الله» في جنوب لبنان — هي داعمة قوية لـ “المقاومة”. فقد امتدحت الميليشيا [الشيعية] في عام 2006 لدفاعها عن لبنان ضد إسرائيل، كما صرحت في عام 2008 بأنها كانت “تحت إمرة” زعيم «حزب الله» حسن نصر الله.
والشيء المميز أكثر هو الحملة الأخيرة التي أطلقتها الميليشيا لإقناع النساء بارتداء الحجاب. فالإناث في حي “ضاحية” بيروت الجنوبية التي تقع تحت سيطرة «حزب الله»، لم تكن محجبات بأعداد كافية [ترضي] المقاومة، ولذا أطلق «حزب الله» من خلال مؤسسة دعائية شبابية تابعة له تدعى “جمعية المعارف الإسلامية الثقافية”، حملة ملصقات ضخمة تستهدف أولئك اللاواتي لم يرتدين الحجاب بعد. وتصور هذه الملصقات البرتقالية الساطعة في كل مكان — على المعابر الفوقية ولوحات الإعلانات على جانبي الطرق– إمرأة غير معروفة الهوية ترتدي الحجاب الإسلامي التقليدي، مع سلسلة من الشعارات تحث على ارتداء الحجاب. وقد كُتب على إحدى أشهر هذه اللوحات: “أختي، حجابك أغلى من دمي”. وقد كُتب على لافتة أخرى بأن الحجاب هو “للحفاظ على مكانة المرأة”. وثمة لوحة ثالثة تصف الحجاب بأنه: “حصن العفاف” وهو قول مأثور تنسبه اللافتة إلى رجل الدين الإيراني الراحل آية الله الخميني.
ويقول لقمان سليم المراقب القديم للسياسات الشيعية المحلية شارحاً: إن الحملة هي جزء من “جهد دعائي إصلاحي يمدح المثالية الأخلاقية الدينية للبدايات الماضية لـ [المنظمة]”. ويضيف: “المقصود منها هو إعادة طمأنة تلك النساء اللاواتي يرتدين الحجاب بطهارة اختيارهن، وهي في ذات الوقت إشارة للمتحررات — بطريقة ودية — بأنهن على خطأ”.
لكن لماذا ينخرط الآن «حزب الله» بهذه الحملات؟ إن اختيار الوقت ليس مصادفة، فعلى المستوى السياسي والعسكري كان عام 2009 العام البارز للميليشيا. لكن سمعة «حزب الله» في النزاهة قد شوِّهت عندما تم القبض على مموله المحلي الرئيسي لارتكابه [عملية نصب كبيرة] من نوع مخطط بونزي مشابه لذلك الذي ارتكبه بيرني مادوف [في الولايات المتحدة]، الأمر الذي يورط هذا التنظيم الإسلامي المتشدد في فساد بغيض. ومنذ ذلك الحين، تحاول الجماعة لململة شتاتها ليس فقط من خلال إصدار أول “بيان” جديد لها منذ عام 1985، ولكن بإعادة تركيز «الحزب» على غاياته الدينية. وكل هذا يبدو جزء من مساعي «حزب الله» لتقويم موقفه الأخلاقي والتربوي المتقلص من خلال العودة إلى جذوره المحافظة اجتماعياً.
وتشير هذه الأحداث إلى شئ مهم عن طبيعة «حزب الله» نفسه. فمن الواضح أن قادته يشعرون بقلق من الحقيقة بأنه على الرغم من أن التنظيم هو شعبي بصورة كبيرة بين الشيعة اللبنانيين، إلا إنه لا يزال غير قادراً على إقناع كوادره بالإلتزام بأعرافه الاجتماعية المحافظة. وبعبارة أخرى فإنهم منزعجون من أن دعم «حزب الله» يأتي من مآثره العسكرية، وليس من رسالته الدينية المستلهمة من إيران.
وهذا أيضاً يعني وبصورة أكثر جوهرية أن دوافع «حزب الله» لم تتغير بنفس القدر الذي كنا نظنه. فأعمال التنظيم تناقض أجندة اجتماعية أوسع والتي تبدو أنها تتجاوز بكثير “مقاومة” الاحتلال الإسرائيلي. وبينما لم يعد «حزب الله» يفصل الحديث عن هدفه طويل المدى لتصدير الثورة الإيرانية إلى لبنان، إلا إن حملة الحجاب والقرار المناقض للبديهة بمنع هيفاء وهبي من الإنضمام إلى أسطول المعونات إلى غزة، إنما يؤكد أن آمال التنظيم في إقامة دولة إسلامية في لبنان ما تزال حية وثابتة.
ويبدو أن «حزب الله» لن يكون قادراً على تحقيق تلك الأهداف. لكنه بلا شك سوف يستمر في المضي قدماً في أجندته العسكرية والمحافظة دينياً في لبنان. فهو ما يزال يمتلك الكفة الراجحة للقوى في الدولة، لكننا لو اعتبرنا الاستجابة — التي من الواضح أنها فاترة لحملة الحجاب — دلالة على شيء ما، فإن الاعتبارات السياسية والطائفية سوف تؤدي بمساعي الميليشيا إلى الفشل. ومن حسن الحظ — بالنسبة لواشنطن وللأغلبية في لبنان — أن حقيقة رفض كوادر «حزب الله» قبول أجندة التنظيم الدينية الإجتماعية، تشير إلى أنه باستثناء “مقاومة” إسرائيل، لا يتمتع «الحزب» سوى بجاذبية محدودة.
ديفيد شينكر هو زميل أوفزين، ومدير برنامج السياسات العربية في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى.