ها نحن وللمرة التانيه نُجر إلي الجنة بالسلاسل , بلادتنا وضيق أُفقنا تُحتم على قادتنا أن يجرونا جراً إلي برّ النجاة من اعناقنا , ولولا هؤلاء القادة لضِعنا في متاهات التيه ولانقرضنا منذ زمن بعيد وهذا ما يعطيهم الحق في حكمنا مدى الحياة حتى أنهم عندما يدركهم الموت يظلون مهمومين بهمنا ولا يرحلو عن هذه الحياة حتى يُسلمونا إلي أيادي امينة يعرفون أنها قادرة على إلزامنا بالتزام برّ النجاة ومن مثل ابناءهم لمثل هذا الأمر الجلل بالأمس القريب ثمَّ إجبارنا رغم أُنوفنا على الخروج من مستنقع الجهل والمرض والأميه وحكم العهد المباد وتحكم القواعد الأجنبيه التي كانت تريد الإنحراف بنا عن تقاليدنا البدويه العظيمة وأضطر قائدنا الذي أرسلته عناية السماء إلي ربطنا من اعناقنا إلي ذنب ناقته المأمورة لتقطع بنا الوهاد والصحارى مبتعده بنا عن عالم المدنيه الذي كان أعدائنا يخطِطون لإدخالنا فيه , وبعد جُهد مضني للناقة ونائقها وصلنا إلي برّ النجاة وعدنا إلي شواطئ بداوتنا سالمين ,عدنا إلي تقاليدنا البديعة فنبذنا لغة المستعمر وعدنا إلي لهجتنا البدويه الفصيحه وتخلينا عن كل أدواته الشيطانيه وعدنا الي مخترعاتنا الخاصة بنا من الخيمة الي الرحى , أستعدنا أنفسنا وتراثنا وحطمنا في الساحات العامة آلاته الموسيقيه القبيحة وعدنا للزكرة والبندير وأقمنا عرس فردوسنا الأرضي المنشود .
لكنَّ صاحب الناقة والفردوس وبعد جلسة تأمل مع نفسه في ظل ناقته المتعبة من حمِل جرنا وراءها , لم يُطق هو نفسه البقاء في الفردوس الذي أحضرنا إليه وأقسم بأنه مستعد للفرار حتى لجهنم ليخلص من هذا الفردوس اللعين , لكنه لم يفر لأي مكان ربما لأنه لم يجد جهنّم اخرى تتطلع على الأفئدة مثل جهنم فردوسه الجهنمي .
بعد مراجعات عديدة وكثيرة وجلسات تأمل وتخمين وإعمال رأي لم يجد قائد رحلتنا بديلاً عن أخبارنا الحقيقة , والحقيقة كانت أن نائق الناقة الذي كان يقودنا إلي الفردوس المنشود قد خدعه السراب فتاه وأخطأ الطريق الي فردوسه , ولأن العمر تقدم به والرحلة أتعبته فعشى بصره وضعفت ذاكرته وترهلت قواه ولم يعد قادراً على بدأ الرحلة من جديد نحو الفردوس الحقيقي فلم يكن أمامه من خيار إلا أن يستأمن علينا أحد ابناءه ليتولى زمامنا ويجرنا نحو الفردوس الضائع.
ولأن الابن لا معرفة له بطبائع الإبل ولا كيفية ركوبها ولا كيفة التحكم في تغيرات مزاجها ولأنه أيضا لم يتعود على أجواء الغبيري والقبلي فقد قرر أن يستغني عن سفينة أبيه الصحراوية البطيئه والمعاندة ويستعيض عنها بسفينه الماء لأنه أدرك أن الفردوس الموعود هو في المكان المعاكس تماماً للمكان الّذي ظل والده يجرنا نحوه لما يقرب من نصف قرنٍ من الزمان.
ألقى الابن الفادي المُخلص مراسي سفينته الغدويه على الشاطئ البعيد وأمرنا بالفرار إليها إن أردنا النجاة ولأننا أُنهكنا تماماً ولم نفق بعد من هول الصدمة وخيبة الرجاء التي تلقيناها بتضيع أربعة عقود ويزيد من أعمارنا النحِسة ونحن نسير نحو المجهول فقد تقاعسنا عن تلبية دعوته فلم يكن أمام ابيه الحريص على أن يرانا نسير الي برّ النجاة قبل أن يرحل عن هذه الدنيا ليموت وهو مطمئن علينا, لم يكن أمامه من خيار إلا أن يشعل النار تحت أقدامنا ويُحرق الأرض التي نقف عليها حتى لايظل أمامنا إلا سفينة المُنقذ ابنه مكاناً نلجأ أليه.
وهاهي السفينة تبحر بنا ميممة وجهها شطر ذات الإتجاه الذي طالما حذرنا قائد سفينتنا الصحراويه منه واوصد علينا الطريق نحوه وخوفنا من الأخطار الكامنة فيه بل انه أضطر لدبح البعض منا ممن لم يصغوا لنصائحه ورفضوا إتباع الناقة وفروا باتجاه اليم.
هاهي السفينة تسير بنا نحو الغرب مبتعدة بنا عن الشرق القديم العظيم وعن صحرائه المعشوشبة بالقيم والمبادئ والأخلاق , تنطلق سفينة الإصلاح تمخر عباب البحر السماوي الزرقة مبتعدة بنا عن بحر الرمال الأصفر , تجري بنا في موج كالجبال يدير دفتها الابن وتباركها أيادي الأب الرحيمه.
تشق السفينة طريقها نحو الغدّ المنشود تحمل على ظهرها المؤمنين الّذين أمنوا أن لا عاصم اليوم لهم من الغرق إلاها , تمضي سفينة الإنقاذ وقد حُشر على ظهرها من كل زوجين أثنين.
خليط من مخلوقات بعضها داجن وبعضها مفترس .. خليط عجيب غريب .. ثوار قدماء ورجعيون متراجعون عن رجعيتهم .. جلادون وضحايا .. سجناء وسجانيهم .. قتلة وقاتليهم .. أزلام أمن قدماء فقدو شهيتهم للدم ومعارضون قدماء فقدوا شهيتهم للحرية .. رجال إستقالو من مهام الرجولة .. أتقياء أعلنوا براءتهم من التقوى .. ملاحدة ومؤمنون .. ليبراليون مفترضون وشيوعيون منقرضون.
وتختلط الأصوات على ظهر السفينة المُعجزة .. تأتيك أصوات التلاوات القرآنيه مختلطة بصوت أغاني ماجنة .. أصوات منظرو الفكر القديم الجديد تختلط مع صوت الفقيه الواعظ المتهدج .. صيحات سُكراى مع صرخات تهليل وتكبير .. بنادير أئمة الصوفيه مع مزامير القيان .. الجميع يجلسون على ظهر ذات السفينة .. جنبا لجنب في حلقات متراصة تتحلق حول مسرحٍ صغير تعتلي ركحه حجالة.. حجالة تهزُ أردافها المكتنزة هزاً إرتجاجيا يرجُ العُقول المرتجة أصلا.
تتقدم سفية الإنقاذ وبين وقت وآخر ترسو على ميناء من المواني البعيدة لتلتقط أحداً من تلك المخلوقات التي تلقت من رب الفردوس القديم كلمات فتاب عليها ورفع عنها تعويذته التي مُسخت بها إلي كلاب ضالة لتعود إلي طبيعتها مخلوقاتٍ آدميه مهتديه تفوز بمغفرة الأب ورضوانه فيمنُ عليها ويرسل لها بركاته مع الفادي ابنه ليفتديها من اللعنة التي حاقت بها بسبب أكلها من شجرة زقوم الحرية
تمضي السفينة لتهبط بالمعتصمين بها من فردوس الأب الذي يعج بالأشجار المُحرمة ألي أرض الأبن الفادي المثقلة بأشجار وعود وعهود لا ثمر لها.
تمضي بهم السفينة لترسو بهم على مرافئ أرض الفادي أبن ابيه لينتظروا هناك حتى يتلقى الابن الفادي من اباه هدىً يبلغهم إياه فمن اتبعه منهم فلن يضل بعد ذلك ولن يشقى.