حتى نهاية الثمانينات كانت تونس تعتمد الحساب الفلكي لتحديد دخول الأشهر الهجريّة. فكان الناس يعرفون مواعيد الأعياد الدينيّة ودخول شهر رمضان قبل عام على الأقل. و كان بإمكانهم تنظيم عطل الأعياد مسبقا والقيام بالحجوزات قبل وقت طويل. غير أن الإسلاميين الذين اشتدّ عودهم في تونس في تلك الفترة، بدأوا يضغطون من أجل فرض تطبيق الشريعة، غير آبهين بالتقدم العلمي وتغيّر الواقع، رافضين الأخذ بالأسباب، لأسباب سياسية بحتة وليس عقائدية. وتحت الضغط، لجأ النظام القائم إلى تكتيك ما نسميّه في تونس بـ”سياسة سحب البساط”. فأعطى للإسلاميين ما ينتج عنه أخف الأضرار وحافظ على ما لم يعد ممكنا الرجوع فيه لأنه يؤدّي حتما إلى التهلكة، مثل السماح بتعدد الزوجات الممنوع في تونس قانونا منذ 54 سنة.
تنازل النظام إذن عن تحديد الأشهر الهجرية بالحساب الفلكي وعوّضه بالرؤية. ومن يومها تتم في تونس عملية دخول الأشهر الهجرية بواسطة لجان رؤية ترفع نتائجها إلى مفتي الجمهورية الذي أصبح الطرف الوحيد المؤهل للإعلان عن دخول الأشهر الهجرية. أما المختصين في العلوم الفلكية، الذين يتخرّجون بالمئات من كليات العلوم والذين تفتح لهم مراكز البحوث الغربية ذراعيها لتلتهم كفاءتهم، فيكتفون بالرصد الجوّي وتنبيهنا من العواصف و الزوابع الرّعدية.
ومنذئذ وجد الناس أنفسهم في حيص بيص. فقد عمّت الفوضى والبلبلة حياتهم، خاصّة حين يحين تحديد دخول شهر رمضان وعيد الفطر. فبالنسبة لرمضان، فإن المسألة دينية بحتة حيث يخشى الناس وقوع جماعة الرؤية في الخطأ، والعين خطّاءة كما نعلم. أما بخصوص العيد، فالمسألة دينيّة أيضا، وعمليّة خاصّة لعل أهمها العجز عن تحديد مواعيد العمل لليوم اللاحق على عملية الرصد واليوم الثالث بعد العيد. إذ تقتصر عطلة العيد في تونس على يوم العيد واليوم الثاني منه، وبذلك تتعطل المصالح الاقتصادية أربعة أيام عوضا عن يومين. و أذكر كيف كنا نحتار في مجالس الأقسام بالجامعة لتحديد يوم العطلة بالنسبة لعيد الفطر ورأس السّنة الهجرية. ويحصل أن تتزامن هذه الأعياد مع فترة الامتحانات ، فكنا نقرّر توقيف الامتحانات ليومين متتاليين تحسّبا لمفاجآت الرؤية بالعين المجردة. و في كل مرّة يقع نظرنا على التعميم المتعلّق بهذه القرارات التي تصلح للقرون الوسطى والمنشور بجوار الإعلانات على الندوات و المطبوعات العلمية نشعر بالخجل والعار من هذا التناقض.
هذه السنة جابه الناس معضلة. فقد حدّدت عملية رصد الهلال ليوم الثلاثاء 10 آب باعتباره اليوم ال29 من شهر شعبان، بحيث يمكن للمفتي الإعلان عن دخول رمضان إما يوم الأربعاء 11 أو إتمام شهر شعبان بحيث تكون بداية رمضان يوم 12. وتتمثل المعضلة في أنه فلكيا يولد الهلال يوم 10 آب فجرا ولكن تستحيل رؤيته بالعين في تونس. غير أنه و بحلول مغرب الأربعاء 11 آب يكون هلال رمضان قد بلغ من العمر زهاء 39 ساعة أو أكثر، بما يعني أن رؤيته تصبح ممكنة لكنه يكون كبيرا بشكل واضح. أي أن الصائم سيعرف وبالعين المجرّدة أنه أفطر يوم أول رمضان، و هي مسألة خطيرة بالنسبة إليه . التونسيون تعاملوا مع هذا الوضع بالتنديد والتنكيت. أغلب الناس، بمن فيهم، العديد من الإسلاميين، أصل المشكلة، يطالبون اليوم باعتماد الحساب. لذلك قلنا في بداية المقال أن مطالبتهم باعتماد الرؤية كانت سياسية بحتة وليست عقائدية، وقد غيّروا اليوم رأيهم حين فهموا أن مطلبهم لا يحضى بالقبول والشعبيّة. و البعض روّح على نفسه بالتنكيت على الفايس بوك فقيل:
“لولا العلم الإفرنجي الملعون لكانت رؤيتنا خمسة على خمسة”
“إن قالوا إنهم رأوا الهلال مساء الثلاثاء فهم يكذبون و إن قالوا رمضان الخميس فهم يكذبون”
“هذا ما جناه أصحاب رهاب العلم علينا وما جنته الأنظمة التي تخشى بطش الذين يخشون العلم.”
نهاية، رمضان مبارك و ينعاد علينا بالعقل و الحرية وهي أفضل الخيرات.
saloua.charfi75@gmail.com
* كاتبة وجامعية من تونس