يتفق كثيرون في ان انتفاضة تونس استثناءٌ ناجح ضمن الربيع العربي الذي شمل عدة بلدان، ولكن عديداً من الاطراف لا تنتبه للاسباب الحقيقية لهذا النجاح ولا تريد ان تتعلم منها دروسا مفيدة. اوجه الاستثناء في تمتع تونس بمجتمع مدني متقدم وحضاري متأثر بالجوار الاوروبي، وبنهج علماني اختطه العهد البورقيبي، وبقطاعات شعبية مثقفة شبابية ونسائية ونقابية فعالة ترفض اسلمة المجتمع، وقوانين متقدمة اهمها قانون للاحوال الشخصية ينصف المرأة ويعطيها حقوقها الكاملة المساوية للرجل، ومجتمع اعتاد الحوار لحل مشكلاته ورفض العنف في مراحله المختلفة، وجيش حيادي سياسيا، وهامش لا باس به من الحريات حتى قبل سقوط بن علي.
احد اوجه الاستثناء التونسي بالاضافة لما ذكر، حزب النهضة الاسلامي، الذي نجح بحصد غالبية في الانتخابات للمرحلة الانتقالية وتراجع نسبيا في الانتخابات التالية، فقد قبل الحزب التخلي عن السلطة لحكومة حيادية تشرف على انتخابات رئاسية وتشريعية، امام هبة شعبية ونقابية حاشدة ضد شبه انفراده بالحكم، وقبل نتائج انتخابات 2014 التي اعطت الغالبية لحزب نداء تونس البورقيبي التوجه، ورفض التعاون مع اي حركة سلفية اسلامية حتى لو كانت سلمية، وقبل بالدستور الجديد الذي لا ينص على ان الشريعة الاسلامية المصدر الرئيسي للتشريع ، واكتفى بالنص على ان تونس دولة ديانتها الاسلام.
قبل بالمسار العلماني لتونس الذي اختطه بورقيبة، وتخلى عن تطبيق الشريعة واعتبر العلمانية ليست دعوة للالحاد وهي لا تتعارض مع الدين. قبل بتشكيل ائتلافات وطنية في السلطة وتصالح مع التيارات السياسية الاساسية من اجل مصلحة تونس، ولو على حساب مصلحة الحزب احيانا، وقبل بممارسة رجالات العهد السابق لحقهم في العمل السياسي، اذ ان عزلهم يتناقض مع النهج الديمقراطي.
كل ذلك بعكس ما اتبعه اخوان مصر فانتهوا للفشل الذريع.
لم يتوقف حزب النهضة عند مواقفه هذه فهو في مؤتمره العاشر الاخير في ايار الماضي، قام بنقد شامل لمسيرته واتخذ قرارات هامة لتطوير مواقفه السياسية والايديولوجية، فقد اقر فصل المجال السياسي في الحزب عن المجال الدعوي الديني والمجتمعي، مما يفهم منه نوع من الفصل بين السياسي والديني الذي تنادي به العلمانية، وان لم يكن بوضوح كاف. وراي ان الثورات في تاريخ البلدان المسيحية كان لتحرير الدولة من سلطة الدين، فيما التغيير في بلدان اسلامية لتحرير الدين من سلطة الدولة ومن استغلاله سياسيا. وراي انه ليس من مهمة الدولة فرض عقيدة ما على المجتمع ف”لا اكراه في الدين”، بل مهمتها تقديم خدمات للناس وصيانة الامن.
كما اقر المؤتمر التخلي عن الصراع على الهوية باقرار اولوية الوطني على الاممي واعتبار ولاء حزب التهضة لتونس، ف “تونس اولا”، والانتماء لها يتقدم على اي انتماء آخر خارج حدودها. ففي الايديولوجيات الشمولية الشيوعية والاسلامية والقومية كانت منظماتها على الاغلب تتبع اولوياتها بشكل او بآخر مركزا امميا لتعتبر فروعا له، مثل المركز الاممي الشيوعي في موسكو سابقا، والتنظيم الدولي للاخوان المسلمين الراهن، والقاهرة التي اعتبرت ايام عبد الناصر مركزا للحركات القومية العربية.
تجربة حزب النهضة التونسي تضاف لتجربة حزب العدالة والتنمية التركي الذي تميز بانه قبل بالنظام العلماني بشكل واضح وبلا لبس وحكم حسبه بلا سعي لتطبيق اية شريعة ما. لكن رغم ما في مواقف ومفاهيم حزب النهضة من تطوير يكاد يخرج الحزب مما يسمى “الاسلام السياسي” الذي يتمثل في نماذج تنظيمات الاخوان المسلمين في اكثر من بلد، فان النهضة يحتاج براينا لاكثر مما قام به ليلحق بمسيرة الحزب التركي.
فهل تم التخلي بشكل قاطع عن “تطبيق الشريعة” ومفهوم “حاكمية الله” ام ان الفصل بين الدعوي والسياسي بشكله المعروف الذي يعتبر ان “الاسلام هو الحل”، هو تخصيص وتوزيع لقيادات الحزب بين المجالات المتعددة للعمل ضمن المجتمع؟
وهل خرج النهضة كليا من الاسلام السياسي ليتحول الى حزب مدني ذو مرجعية حضارية وحداثية مسلمة؟
وهل حدث انقلاب مؤقت في المفاهيم الايديولوجية ام تغييرات نهائية في المواقف السياسية ؟
وهل القبول بابقاء مادة في الدستور حول ان تونس بلد ديانته الاسلام، رغم تناقض ذلك مع منطق ان الدين خاص بالافراد وليس بالدول التي لا ديانة لها، هو حجة مستقبلا لعرقلة التشريعات المدنية التي لا تتقيد بنصوص الدين في مسائل المعاملات وليس العبادات؟ ام انها مجرد وصف لتونس لا يستتبع اي تدخل في حرية غالبيات المشرعين في اصدار القوانين حسب المصالح وليس حسب الايديولوجيات ؟
صحيح ما يقوله راشد الغنوشي ان لا تناقض بين الاسلام والديمقراطية ولكن لا يمكن اعتبار ذلك دقيقا وبعيدا عن العموميات ان لم يتضمن بشكل واضح التخلي عن “تطبيق الشريعة” وترك الشعب ليقرر ما يناسب مصالحه من تشريعات ومسارات.
وكنتيجة مختبرة منذ عقود ومن خلال كل تجارب الاسلام السياسي فان التوافق برأينا بين الديمقراطية والمسلمين امر ممكن ومحبذ، فيما ان التوافق بين الديمقراطية و”تطبيق الشريعة” باوجهها المختلفة مستحيل، الا بالفرض والاكراه كما فعلت داعش في العراق وسوريا، وهو ما ليس من الدين الذي لا اكراه فيه.
ahmarw6@gmail.com
* كاتب من سوريا