بعد عامين على النجاح الباهر للجزء الأول من فيلم «الجنس والمدينة»، يُعرض الآن في إحدى صالات العاصمة الجزء الثاني منه، حيث يشهد إقبالا عليه لا يقلّ عن الإقبال على الفيلم الأول. قبل ذلك انشغل مشاهدو التلفزيون الأميركي بحوالى تسعين حلقة لمسلسل «الجنس والمدينة» أيضاً. والاثنان، أي السينما والتلفزيون، استوحيا موضوعهما من كتاب يحمل العنوان نفسه، صدر عام 2002 بقلم الكاتبة الأميركية كانداس بوشنل، وبيع بملايين النِسخ وتُرجم إلى عشرات اللغات، ليست العربية من بينها. الفيلم بقسميه والمسلسل بحلقاته المتمادية لم يكررا موضوع الكتاب بحذافيره، ولكنهما غرفا منه كل التلاوين، كل الاحتمالات الممكنة، مع الإبقاء على الشخصيات الأربع الرئيسية الأصلية محور الكتاب.
شخصيات الكتاب هي إذن محورُهُ، وقصصها الجديدة أصبحت الآن قديمة، بعد ثماني سنوات فقط: أربع نساء في قمة مجدهن المهني وزخمهن الجنسي، يعشن في مدينة نيويورك الصاخبة والمثيرة؛ واحدة صحافية والأخرى تاجرة مقتنيات فنية والثالثة محامية، والأخيرة مسؤولة علاقات عامة في إحدى المؤسسات الكبرى. النساء الأربع لامعات وفاتنات ومستقلات، وشابات. حصلن على كل شيء في الحياة، إلا على الرجل شريك حياتهن. وكما في كتاب «مذكرات بريدْجست جونز»، الصادر عام 1996، فإن محور العقدة الدرامية، أو بالأحرى العقد الدرامية الأربعة تدور حول بحثهن البائس عن الرجل المناسب، رجل حياتهن. المغامرات المضحكة المبكية تخوضها كل واحدة منهن سعيا الى هذا الرجل، وجميعها تحيلك الى قصص تعرفها وسمعت عنها بالقرب منك. وهذا هو ربما أساس نجاح الكتاب ورواجه وقدرة السينما والتلفزيون على توليد حالات متفرّعة عنه: فهو يحكي عن ظاهرة باتت عالمية، ظاهرة افتقاد النساء الشابات، اللامعات خصوصا، إلى الرجل الشريك، الرجل الذي يستاهل أمر الارتباط به، بالزواج إن أمكن وإلا فبعلاقة عاطفية جنسية «جدية».
في المقْلب العربي لهذه الظاهرة، هناك كتاب المصرية غادة عبد العال، صاحبة مدوّنة الكترونية خاصة، صدر بعنوان «عايزة أتجوز»، وقد لاقى، هو أيضا، رواجا، بل اعتُمد بدوره كمسلسل تلفزيوني سوف يُعرض في شهر رمضان المقبل. وغادة عبد العال لا تتكلم بدورها عن شيء آخر، وبنفس القالب الكوميدي الساخر، مع التحفظ الخاص ببنات الشرق. بطلتها، وقد تكون هي شخصيا، امرأة شابة وناجحة مهنيا، تصل الى الثلاثين ولا تتزوج. وهي أيضا تبحث، على الطريقة المصرية، عن رجل، عن «عريس». كل فصول الكتاب-المدوّنة هي قصة عريس بعينه، لم يكن مناسبا، لسبب أو لآخر؛ فلكل عريس عيب مضحك.
لا حاجة للتأكيد بأننا بإزاء ظاهرة بعينها، الكتب والأفلام والمسلسلات التلفزيونية ليست سوى الصياغة الفنية لها، ظاهرة تناقص فرص نساء شابات ناجحات وجذّابات، لإيجاد شريكهن المطابق لأذواقهن وتطلعاتهن او احلامهن… ظاهرة تسرّب الرجال نحو فضاءات مجهولة، ترجمته السؤال الذائع بين اولئك الشابات: «أين الرجال…؟!»، لا يقتصر على اللبنانيات فحسب، اللواتي يعتقدن بأن الهجرة أو الحرب مسؤولان عن اختفائهم عن الأنظار. انها ظاهرة عالمية، ضربت الغرب قبل ان تطالنا، وبقوة مفاجئة. فالذي عهدناه نحن بنات الاجيال السابقة لم يكن هكذا: الشباب كانوا مقبلين على الشابات، خصوصا المتعلمات منهن؛ ولطالما تكلم المصلحون الاجتماعيون عن الشريكة المتعلمة التي تستطيع ان تفهم رجلها وتربّي الأجيال الطالعة الخ. كانت البنات تتعلم لتحسين شروطها.
ما الفرق بين جيلنا المحظوظ بالرجال، على الأقل باقبالهم على النساء، وبين جيل الشابات أولئك الباحثات، ومن دون جدوى غالباً، عن رجل؟ الفرق ربما قائم في طبيعة العصر. في عصر الجيل السابق كانت النساء قضية نضالية ثقافية. كانت القلّة الناجحة من بينهن، الطليعية «المحظوظة»، تخرج من أسر التقاليد، وتشقّ طريقا واعدة وجديدة نحو مستقبل مختلف عن ذاك الذي كان لسابقاتها. كان سعيهن نحو الجنس الآخر مليئا بالثقة والامل والاحلام، تماما مثل الحداثة التي آمن بها اولئك النساء. كانت الثقة بالحداثة اذن كبيرة وكذلك بالنموذج الجديد من النساء والرجال.
ما الذي حدث كي تنقلب الامور بهذه السرعة وتصبح هذه النوعية من النساء تحديدا هي الأقل حظاً في ايجاد الرجل المناسب؟
فُقدت الثقة بالحداثة مع بزوغ ما بعد الحداثة، عصر الخلط بين التقاليد الأكثر قِدما والإنجازات التكنولوجية الأكثر تقدما. دخلت النساء بأعداد مخيفة الى الحيّز العام وفرضن وجودهن الذي لم يكن دائما خفيفا، بالنسبة لرجال اعتادوا منذ آلاف السنين احتكار هذا الحيّز. وانفجرت المثلية الجنسية ربما نتيجة هذا الخوف الرجالي المستجد من النساء الحاضرات بقوة. وأُقيمت العوازل بين الجنسين، ليس بسبب الدين فحسب، بل بسبب العدوانية والعنف الجديدَين ازاء النساء، ومن بعده عنف النساء تجاه الرجال. وأكثر من دفع الثمن هن أولئك المسماة سابقاً «المحظوظات» من النساء الشابات. وصار عليهن إبداء التواضع لو أردنَ الوصول إلى مبتغاهن من الرجال. معظمهن في منطقتنا يتحجّبن لنيل العريس، فيما الشابات الأخريات يلعبن أدوارا حريمية سابقة كنهج ناجح لنيل رجل، عريسا كان أم عشيقا. وسوء الحظ الإضافي، اننا في عصر الصورة، عصر الهندام والهيئة الخارجية، وأسبقيتهما على أي مضمون؛ الصورة المتواضعة أو الفاجرة… فجازت التقية في هذه الحال، ودخل المزيد من المكر في عملية الصيد. إنها مرحلة ما بعد حداثية بامتياز: شابات لامعات ناجحات لم يعد لهن وجود في المكان الخاص لكثرة ما خرجن إلى الحيز العام، يلعبن دور لوليتا بغية الفوز بالعريس أو العاشق أو الخطيب.
«أين الرجال…؟!»، تسأل الواحدة منهن. فيما الرجال يطرحون السؤال المعكوس: «أين النساء…؟!». صحيح انهن امام ناظريهم… لا ينتظرن غير اشارة؛ ولكن لسنَ هن المرغوبات من النساء. الرجال يبحثون عن امرأة اخرى، لا يعرفون هم أنفسهم ملامحها بالضبط: يريدونها تقليدية غير تقليدية، تماما مثل ما بعد الحداثة؛ تجمع في متنها عالمين، عالم أمينة الخاضعة تماما لمشيئة أحمد عبد الجواد (في ثلاثية نجيب محفوظ)، وعالم الحرّة القوية القادرة على الصدق وتجاوز الصعاب. أمينة التي تُقمع من دون عنف ظاهري، بفضل قمع عضوي، لا تراه ولا تسمعه، وصاحبتنا القوية المعرّضة لعنف جديد لم تألفه نساء التقاليد الراسخة. التقليد اهتز والحداثة تطعمت بما بعدها، وافترق الجنسان كلٌ في عالمه ومسابحه ومقاهيه وصالاته وأدبه وحميمياته الخ. (يبدأ الجزء الثاني من فيلم «الجنس والمدينة» بمشهد عن عرس لمثليّين من الرجال؛ طقوس العرس، بل العرس بحد ذاته، يُفهمك بأن عالم المثليين الرجالي واشاراته صارت من النوافل؛ تلحقه المثلية النسائية بشيء من الخجل، عندما تكتشف احدى بطلات الفيلم بأن مربية أولادها المثيرة، ذات نهدين متحررَين من الحمّالات، والتي خافت منها على زوجها، هي أيضا مثلية، وتتفاهم جيدا مع الطبّاخة، المثلية بدورها؛ فترتاح بطلتنا).
هل الرجال والنساء «الحاصلون» على مبتغاهم أكثر سعادة وهناء من هؤلاء الباحثين اليائسين؟ الجواب في نسبة الطلاق المتنامي عالميا، وفي بلادنا العربية خصوصا. بعدد الزيجات المتتالية والفاشلة؛ والأهم من ذلك بالباقين على قيد الزواج، وبقدرة ظروفهم الضعيفة على ردعهم عن تغيير تعاستهم الزوجية وركاكة عواطفها والرتابة القاتلة لأيامها.
هل كان زمن القمع العضوي الأخرس أكثر رحمة على العلاقة بين الجنسين، على السلام والاستقرار والتناغم القائم بينهما؟ ربما؛ هذه أمور لا تتقرّر بفكرة، بل بتيار جارف يأخذ معه الأفراد إلى أماكن مجهولة وليست دائما مرغوبة ولا هي مطابقة للتوقعات. اننا الآن في ما يشبه الفترة الانتقالية. العلاقة بين الجنسين مهتزة، فهى لم تستقر بعد على نمط، وقد لا تستقر الآن، في زمن حياتنا، قد تكون حركات تحرر المرأة أخرجت الشيطان من القمقم، ولن تعيده بسهولة، حتى لو أرادت، وغيرت رأيها في موضوع تحرّرها.
وفي المراحل الانتقالية التي قد تمتدّ لعقود أو قرون، سوف يكون المناخ بين الجنسين غير مشجع على المضي قدما بما تمليه أحيانا النشأة أو التربية أو الظروف أو الوضع الجغرافي والطبقي. فترة من سوء التفاهم والشك وانعدام الثقة والمعايير؛ وبالتالي فترة عنف جسدي أو معنوي، معلن أو مبطن. فترة انعدام الوزن، قد يكون الجواب عليها بالسعي إلى إنسانية جديدة.
dalal.elbizri@gmail.co
* كاتبة لبنانية- بيروت
المستقبل