1-
لم يعد الفلسطيني “الكامل” نموذجا صالحا للفاعل الروائي. حضر الفلسطيني “الكامل” في أعمال غسان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا، وآخرين حاولوا تقليدهم. تجسّد لدى الأوّل في صورة الفدائي، ولدى الثاني في صورة حامل المعرفة والنور والنار.
وكان كلاهما، الفدائي والمنوّر، من صنع كاتبين يعيشان في المنفى، ويبحثان عن طريق العودة إلى فلسطين. الأوّل يشق الطريق بالبندقية، فيكتمل بقدر ما يستمد منها اليقين، والثاني على غرار بروميثيوس تكتمل أسطورته بقدر ما يسرق من نار.
الأوّل أقل تراجيدية والتباساً، والثاني كينونة تراجيدية وملتبسة. وعلى الرغم من الفرق بينهما، إلا أن كليهما يمثل الوجه الآخر لعملة الأدب الرِسالي، ويصلح كوسيلة إيضاح لوظيفة الكاتب باعتباره مُنتجاً لنصوص أدبية، وصاحب وظيفة اجتماعية.
ولكن إميل حبيبي زعزع مركزية الفلسطيني “الكامل” في الحقل الثقافي بنموذج الفلسطيني “الناقص”، أو البطل ـ الضد، كما تجلى في “المتشائل”. لم ينجم هذا التحوّل في مركزية النموذج السائد عن تمرّد على الأدب الرِسالي، بل نجم عن وجود الكاتب في الوطن لا في المنفى، وبالتالي كان محكوما باعتباره مُنتجا لنصوص أدبية، وصاحب وظيفة اجتماعية، بأسئلة من نوع آخر. فالبندقية، كما التنوير، لن يتمكنا من اختزال رواية الفلسطينيين عن أنفسهم.
والواقع، أن زعزعة النموذج السائد بنموذج مضاد كانت بداية لعملية انتهت بفقدان الأدب الرسالي نفسه لمركزيته في الحقل الثقافي الفلسطيني. يمكن، بالتأكيد، تفسير التحوّلات في الحقل الأدبي على خلفية ما شهده الحقل السياسي من تحوّلات. وهذا ما حدث بأشكال متفاوتة على مدار العقدين الماضيين، لكن قراءة الفرق بين “روايات” الوطن و”روايات” المنفى، على خلفية نموذج سائد، واستنادا إلى محاولات لتكريس النموذج السائد أو زعزعته، لم تتحقق بالمعنى النقدي حتى الآن.
2-
الخلاصة أن الحقل الثقافي الفلسطيني يفتقر إلى نموذج سائد في الوقت الحاضر، كما أن الأدب الرِسالي انتقل من المركز إلى الهامش. وفي كلتا الحالتين نجد أنفسنا أمام نماذج متعددة، وأشكال مختلفة من التجريب في الوطن والمنفى على حد سواء.
وهذا، بين أمور أخرى، دليل صحة وعافية بالمعنى الثقافي. وفي سياق كهذا، أيضا، يمكن التعامل مع رواية أحمد حرب “الصعود إلى المئذنة” الصادرة عن دار الشروق (2008) باعتبارها جزءا من هذه التعددية، وإضافة إلى مشهد يزداد ثراءً.
يتحدد الإطار الزمني للرواية في عقدين سبقا احتلال الضفة الغربية في العام 1967، ويتحدد إطارها الجغرافي في إطار قرية أصبحت حدودية بعد حرب العام 1948، ويتمحور فعل السرد فيها حول ذكريات الفاعل الروائي، المولود بعد النكبة، والشاهد على لحظة الاحتلال. ويمكن تصنيفها ضمن جنس الرواية المسماة بالألمانية bildungsroman أي رواية التحوّلات العاطفية والنفسية والثقافية للراوي بداية من فترة الطفولة وصولا إلى مرحلة النضج. وقد أصبح الميل إلى سنوات التكوين الأولى شائعا إلى حد كبير في الرواية الفلسطينية في السنوات الأخيرة.
وكما يليق بهذا الجنس الروائي فإن الماضي يحضر باعتباره فعلا تربويا، يحضر كسرد متقطّع وانتقائي لأحداث خارجية، وتجارب شخصية، كما يراها إنسان بعيني طفل. لذا، تبدو عفوية، ساذجة، وبريئة. ومجرد الميل إلى تقنية سردية كهذه ينطوي على نقد غير مباشر لخطاب البالغين حتى دون استعادته، ودون حضوره في النص. فالعفوية، والسذاجة، والبراءة هي الأدوات الوحيدة التي يملكها الطفل في مواجهة العالم.
العالم في النص برزخ يمتد من لحظة الولادة بعد عام من هزيمة سابقة، إلى لحظة موت البراءة، أي ضياع الطفولة إلى الأبد، في هزيمة لاحقة. في المشهد الأوّل يصف الفاعل الروائي مكان ولادته في مغارة اسمها “صنع الجابري”، وفي المشهد الختامي، يوم التاسع من حزيران 1967، وبعدما سقطت البلدة في قبضة الإسرائيليين، يركض هاربا في اتجاه المغارة نفسها. ودلالة المغارة إما العودة إلى رحم الأم، أو الموت. في الحالتين ثمة محاولة للانسحاب من العالم. والمفارقة، هنا، أن اسم الطفل الذي عبر البرزخ يسير. وقد تكون من اليُسر، لكن المفردة تنطوي على دلالة المشي، أيضا.
يسلّط حرب الضوء على الشائع والمتداول من أوصاف البرزخ، الذي مشى عليه الفاعل الروائي على امتداد ثمانية عشر عاما ما بين لحظة الهبوط إلى الدنيا في مغارة والعودة إليها: الزيف، والخداع، والكذب، والأوهام، والقمع، والقيم الاجتماعية البالية، والمصائر الفردية التي يجندلها عالم لا يعترف بالتفرّد، والمُغايرة، ولا يمكّن الواقعين في قبضته من حق الاختلاف.
لذا، تعاني الشخصيات التي يؤثث بها حرب عالمه الروائي من خطيئة أولى، حقيقية أو مُفتعلة. ولا يهم ما إذا كانت نتيجة خطأ غير مقصود، أو نجمت عن تشوّهات في بنية السلطة والمجتمع. المهم أن لكلٍ عاره الشخصي (بما فيها الفاعل الروائي نفسه)، ونقطة ضعفه التي يصعب التحرر من تبعاتها الاجتماعية. والمهم، أيضا، أن الهزيمة هي ما ينتظر الجميع، وأن الخلاص بعيد.
بما يشبه هذه الكلمات يفتتح أحمد حرب روايته بمقطع من قصيدة للشاعر الأيرلندي ييتس يقول: “فوضى جامحة تقتحم العالم/ وأرض يغمرها سيل بعتمة الدم/ لقد غرقت محافل البراءة في كل مكان/ فالمؤمنون ينقصهم الإيمان/ والأشرار تملؤهم قوة الشهوة والطغيان”.
ولكن لماذا يعود كاتب إلى عالم ما قبل هزيمة حزيران؟
وبقدر ما يتعلّق الأمر “بالصعود إلى المئذنة” فليس ثمة ما يبرر الاجتهاد. في جملة افتتاحية تسبق النص يقول حرب: “بمناسبة بدء الأربعينية الثانية للسقوط” في إشارة إلى تجاوز الهزيمة الحزيرانية للعقد الرابع من عمرها، ودخولها في ما قد يمتد إلى أربعة عقود إضافية.
إن كل محاولة لقراءة الماضي ليست في حقيقة الأمر سوى قراءة غير مباشرة للحاضر. فالماضي لا يمضى تماما، وما كان يؤثث عالما قديما بين هزيمتين، ما يزال جزءا من أثاث الحاضر، حيث الشاهد شارد، والفاسد سائد، والأجملُ بيننا يموت.
Khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني يقيم في برلين
جريدة الأيام
الشاهد شارد، والفاسد سائد، والأجملُ بيننا يموت..!! – لم أقرأ لجبرا ابراهيم جبرا اي شيء , وقد فات الاوان فقد توقفت عن القراءة في الساعة السادسة في الرابع من تموز عام 1999 .. ولدي احساس انه بالتأكيد ليس فلسطيني , وربما عراقي .. والله اعلم , (من قتل ليلى الحايك) سؤال ورواية جيدة وهو (وهي) افضل ما قرأت لغسان كنفاني .. ان لم تخني الدقة فقد قرأت كافة اعمال (اميل حبيبي) واحببتها وتعلمت منه مهارة حمل بطيختين بيد واحدة , القيت احداهما على ديفيد غروسمان (David Grossman) واعلنته امام القاصي والداني منتحلا كأدونيس في حفل توقيع كتابه (The Zigzag Kid)… قراءة المزيد ..