عندما أدركت ملكة مصر كليوباترا انها على مشارف نهاية مغامراتها العسكرية مع عشيقها القائد الروماني أنطوان على يد منافسه سيزار أوكتاف، قررت أن تنتحر لحظة وصول جيوش هذا الأخير الى مشارف الاسكندرية، ولكن إنتحار بطريقة خاصة جدا، لا تأتي إلا على بالها هي، وحدها: كان في جعبتها عدد من الثعابين، لا تعرف بالضبط الأثر الذي تتركها لدْغة كل واحدة منها على الذي يعرّض نفسه، أو يعرّضه جلاده لها. ومن أجل «فحص» اللدْغات المختلفة، جلَبت الى بلاطها سجناء، وجرّبت كل منها في سجين: هذا يتلّوى، وذاك يختنق أو يتمزّق أو تنفجر بواطنه… كل لدْغة تنهي حياة السجين بآلام جسدية رهيبة كانت تلغيها من خطة إنتحارها. باستثناء ثعبان واحد، اسمه «السَرْبين»، أتت لدغته على احد المحظوظين من السجناء، وكانت نهايته مثل نعاس قصير ونوم طويل عميق.
بعد هذه التجارب على السجناء الفئران، وضعت كليوباترا ثعبان «السَرْبين» في وعاء زجاجي صغير خبأته في أحد جيوبها وعادت الى متابعة معركة إقتراب قوات سيزار أوكتاف من الاسكندرية. وانشغلت بالإعداد لقبرها، وأخذت تسكنه بين وقت وآخر، وتملأه بأشيائها الثمينة عملا بطقوس فرعونية قديمة. فكانت نهايتها الفريدة: دخلت الى قبرها حاملة وعاءها الزجاجي وبداخله الثعبان، وبرفقتها خادماتاها وخادم من المخصيين. أغلقت القبر بإحكام بعدما بعثت الى انطوان غير البعيد عنها برسالة تقول له فيها انها رحلت عن الدنيا الآن، في هذه اللحظة. اما البقية فللأسطورة والتاريخ: أنطوان ينتحر بسيفه ويطلب من مساعده حمله الى قبر كليوباترا.
ملكة مصر في العام 50 قبل الميلاد كانت تتفوّق على معاصريها من اصحاب السلطة في فنون القتل. شبّت في بلاط أبيها ملك مصر، بتوليميه، وهي محاطة بالأسرار والمؤامرات والشائعات. وعرفت منذ مراهقتها كل أنواع السموم، وكل طرق دسّها، حتى على أكاليل الغار. قتلت شقيقها، الذي عينته وصية والدها زوجا لها، عملا بالتقاليد الفرعونية؛ فلم تطقْ منافسته لها على عرش مصر. وانقضّت على بقية أخوتها، الا واحدة عرفت كيف تهرب الى روما إتّقاء لشرها.
القتل في العالم القديم لم يكن محرماً، وكانت كليوباترا تقتل لترتقي بسلطتها، لتبلغ أعلى سلطة، أو لتوسّع سلطتها، أو لتحتفظ بسلطتها من التهديد والمنافسة. وفي أواخر عهدها المليء بالحروب والدسائس، كانت مع انطوان في حرب ضد سيزار اوكتاف. حرب هدفها إنتزاع العرش من قيصرها الروماني، اي الاستيلاء على حكم روما.
كان القتل مباحا للقادر عليه، والثأر هو حسابه الوحيد، إن توفرت القدرة على الثأر… من كان يستطيع ان يقتل كان يتبوأ السلطة بحكم قانون القتل نفسه. وكلما توسّعت دائرة ضحايا القاتل ، كلما أتسعت سلطته. لا تحرّج من ذلك في العالم الروماني القديم. كان القتل الترجمة الساطعة لمعنى السلطة الأعلى: أملك أن اقتلك، اذن أملك القدرة على أن أحكم حياتك وحياة من يهمك، أو أكون حاكما عليكم؛ هذا اذا قررت ان لا اقتلك.
ولكن الشيء الاضافي الذي كان مباحا في العالم هو الانتحار. لم يكن الانتحار محرماً مثلما هو الآن. والأرجح انه كان ترفاً في تلك الايام، ترفاً سياسياً، يتوفّر للكبار من القوم، المقبلين على هزيمة حتمية خصوصاً. كليوباترا بانتحارها وهي في الـ39 من العمر، قامت بفعل الحرية القصوى الذي تمنحه استباحة القتل: حرية ان تكون هي الوصية وحدها على موعد موتها وطريقته المبتكرة. وباختراعها لهذه الطريقة كانت كليوباترا تؤكد على فرادتها، على عرشها، على استمرار سلطتها؛ الانتحار الرحيم، من دون وجع ولا عذابات، موت مثل النوم اللذيذ. كان فعل سيطرة على مصيرها، فعل شغف بطبائعها الانثوية: شبقا لا يدانيه إلا شبق انطوان، وفيض ملذّات الخمر والجنس والموسيقى. طبائع جديرة بملكة عاشقة لقائد عسكري كبير، وسيادة مطلقة لسلطانها.
إنتحار كليوباترا فعل من افعال التاريخ، بصمة أنثوية سلطوية لا تشبه الا نفسها. وهو نهاية طبيعية لشخصيتها الاستثنائية في جموحها السلطوي وشهيتها المفرطة بالاستيلاء على أراضي الغير وكنوزهم وبملذات الدنيا المبتدعة. هل من نهاية أكثر منطقية من هذه؟ لذة في الحياة، فلذّة في الموت، هيمنة مطلقة على حياة غيرها، فهيمنة مطلقة على حياتها.
هل كانت كليوباترا هي نفسها كليوباترا الاسطورة لو اختلفت نهايتها؟ هل كانت اسطورتها ذات نبض مختلف؟ هل كانت ستقلّدها زنوبيا ملكة تدمر بعد رحيلها بقرنين ونصف، وتؤسس مملكتها الثرية على النموذج «المصري»، لولا هذه النهاية الاسطورية؟ الأرجح لا. الموت خاتمة معنى الحياة، إكتمال هذا المعنى. الموت هو النقطة التي تنتهي بها حكاية المرء. هو خاتمة الحكاية، هو مفتاح تفسير الحكاية كلها، من أولها الى آخرها.
بعد كليوباترا ظهرت المسيحية ثم الاسلام، يحرّما إزهاق النفس والانتحار. لكن معتنقي الاديان الكتابية أوجدوا فتاويهم الخاصة التي تقرر الموت لـ»عدو» دينهم. وهذا «العدو» هو مروحة واسعة من بني البشر، من الفرد المنافس على السلطة، أو فاضحها، أو المهدّد بغيرها، الى الجماعات أو الشعوب العاجزة عن الدفاع عن نفسها. بقي البشر على حالهم كما في العالم القديم في استباحة القتل وإضفاء المشروعية عليه. وبقي الموت هو حق القوي على الضعيف. فيما ظل الانتحار محرّماً على نطاق واسع، ممنوع الانتحار، الحياة حق من حقوق لله، هو يهبها وهو يحجبها حين يشاء. أما في القتل، فالموضوع يختلف: حق الله، طبعا، ولكن من قال اننا نخالف شريعته عندما نقتل «أعداءه ديننا»؟ القتل نعم، الانتحار لا.
الآن، بعد عهود الحداثة والديمقراطية وحقوق الانسان، هل نحن متفقون على تحريم القتل المطلق أو نفعل كما فعل السابقون علينا؟ نحرم القتل من حيث المبدأ، ولكننا نحلّله في حالات معينة، قريبة من تلك التي سبقت، بل مختلطة بها غالبا؛ أعداء الدين أو المصلحة أو الاستراتيجية. الحداثة والديمقراطية، بكل جبروتهما، أضافتا القليل على مسألة القتل القديمة. الأقوى يقتل، ويقتل في طريقه أيضا من يغامر بالبحث عن دلائل مادية على هوية القاتل؛ يهزّ الناس رؤوسهم تسليماً، من انها «مجرد جريمة سياسية…!». اما الجرائم غير السياسية فخاضعة لقوانين وعقوبات، أكثرها رحمة هي تلك السجن المؤبد أو السجن لسنوات طويلة. وأشدها هي الاعدام، أو القتل المقابل؛ خاصة اذا كان القاتل من بين الأقل عزوة أو ثراء.
والانتحار؟ الانتحار بدوره يقود واجهته فنانون كبار، نجوم الموضة والسينما والغناء، وزراء تلاحقهم فضيحة… أي بمعنى آخر، الانتحار حق ضمني لأصحاب السلطة والسطوة. اما الأقل منهم شأنا، فممنوع عليهم الانتحار. خذْ العمال الصينيين، آخر الأمثال، الذين يبْنون، بقرار من الحزب «الشيوعي» الحاكم، ثروتها الجديدة بأشكال، هي الى العبودية أقرب: ماذا يفعل العشرات منهم بيأسهم؟ ينتحرون. ورداً على هذه «الحرية» التي يأخذها هؤلاء بتقرير مصيرهم، يردّ عليهم أرباب العمل باجراءات تمنعهم من الانتحار: يحصّنون النوافذ ويبنون الأسوار العالية ويرغمون العمال على توقيع تعهّد بعدم الانتحار، تحت طائلة خسارة مبلغ التأمين على الحياة.
هذه ليست دعوة للقتل ولا للإنتحار، بل للتأمل بما تغير منذ خروج كليوباترا من التاريخ ودخولها الاسطورة، وهي مكلّلة بأوراق الغار.
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية
المستقبل
الملكة كليوباترا والانتحار الرحيم
متواصلة دوما مع مقالاتك وكتاباتك اسلوبك جميل ومواضيعك مهمة وانا معجبة جدا بالملكة كليو باترا لانها كانت قوية ورمز الصمود
الملكة كليوباترا والانتحار الرحيم
رؤى البازركان — ruaabazirgan@yahoo.com
تحية وتقدير للكاتبة دلال البزري
متواصلة دوما مع مقالاتك وكتاباتك اسلوبك جميل ومواضيعك مهمة يهمني التواصل معك عبر البريد الالكتروني لمناقشتك بعض القضايا التي تهم مجتمعاتنا فبامكانك مراسلتي على عنواني البريدي
ruaabazirgan@yahoo.com
الاعلامية رؤى البازركان القاهرة