يرصد المراقب للموقف الشيعي على الساحة المحلية ظهور توجهين مختلفين في داخله تجاه الأحداث المحلية وتجاه الموقف الحكومي، وهو ما قد يعكس انقساما وتباينا كبيرا في التوجهات السياسية والاجتماعية داخل البيت الشيعي، وأيضا قد يعكس مجمل صور الحياة السياسية والاجتماعية في الكويت والقائمة على الطائفية والقبلية والعوائلية، فالانقسام الشيعي يعكس خلافا حول تفسير إحدى تلك الصور والمتمثلة بالطائفية.
كما يعكس الانقسام الشيعي إخفاقا حكوميا في المحافظة على الأوراق السياسية الموجودة في جعبتها لاستخدامها في مناوراتها التكتيكية للحصول على ما يسمى بالولاءات السياسية التي تحتاجها في عملية إدارة البلد. بمعنى أن الحكومة لم تعد تستطيع أن تضمن وجود صوت شيعي قوي موحّد وغير منقسم يقف إلى جانبها مدافعا عن سياساتها. أي أن الموقف الشيعي المنقسم بات مؤشرا على ضعف الشيعة من جهة، ودليلا على تخبط تكتيكات الولاء الحكومية.
وتبرهن الأحداث على الساحة المحلية منذ تولي الشيخ ناصر المحمد مسؤولية رئاسة الوزراء، أن الحكومة لم تساهم فحسب في انقسام الموقف الشيعي، بل ساهمت عبر سياساتها التكتيكية غير الموفقة في فقدان العديد من الشرائح السياسية والاجتماعية، ومن ضمنها شريحة كانت معروفة تاريخيا بمساندتها للمواقف الحكومية، وهي شريحة أبناء القبائل، حتى أن الكثير من المراقبين باتوا يطلقون على تلك الشريحة في الوقت الراهن مسمى المعارضة الجديدة.
كل ذلك لم يكن ليحدث لولا التكتيكات الخاطئة التي مارستها الحكومة. بل إن مراقبين يتوقعون أن تفضي مثل تلك التكتيكات إلى فقدان مزيد من الأوراق السياسية والاجتماعية من أيدي الحكومة. فعلى سبيل المثال، لم يبق من التيار السلفي، المعروف بمواقفه القريبة في غالبها من الحكومة، إلا التوجه التقليدي المتمثل في جمعية إحياء التراث والذي لا يزال يميل إلى الموقف الحكومي لاعتبارات سياسية واجتماعية ودينية، في حين أن التوجه السلفي الشبابي (إن جاز التعبير) بات يعتبر نفسه معارضا قويا ضد السياسات الحكومية.
لقد عكس الاجتماع التشاوري الشيعي الذي عقد في منزل الأديب الشيعي الحاج علي المتروك قبل أكثر من شهر، الانقسام الشيعي تجاه السياسات الحكومية وتجاه الأحداث المحلية وتجاه الموقف الشيعي منها، وفي مقدمتها تلك المؤججة للطائفية. لقد أشار ما دار من حديث خلال الاجتماع إلى أن البيت الشيعي بات منقسما إلى توجهين:
الأول يسعى لرفع شعار الوحدة الوطنية ونبذ الطائفية وضرب مشعلي فتنها، واستخدام الخطاب الهادئ والمعتدل تجاه القضايا السياسية والاجتماعية، وتشخيص الموقف الحكومي لتحديد رأي إما مساند وإما معارض له وإما محايد، مستندا في ذلك إلى تاريخ التعايش بين الشيعة والسنة وإلى ما يتضمنه تاريخ الحكم في الكويت من تباينات في إدارة البلد. ويمثل هذا التوجه غالبية الشخصيات التي التقت في الاجتماع التشاوري بديوان المتروك، وهي معروفة تاريخيا بمواقفها السياسية والاجتماعية المعتدلة وتمتلك رصيدا مناهضا للطائفية وترفض “الارتماء” في الحضن الحكومي. وقد أشار البيان الصادر عن الاجتماع إلى جملة من التوصيات تؤكد في مجملها على رفض الممارسات، سواء الشيعية أو السنية، المؤججة للطائفية، وتؤكد على المحافظة على الوحدة الوطنية والتآلف بين كل الأطياف والتصدي للممارسات السلبية والمساهمة في التعايش الأخوي المشترك، حيث كان الاجتماع – حسب البيان – بمثابة تبادل للآراء للتصدي لكثير من السلبيات التي انتشرت في الساحة المحلية في الآونة الأخيرة، كالمد الطائفي الذي أخذ يزداد ويمكن أن يعرض أمن البلاد إلى ما لا تحمد عقباه، حيث أشار إلى وجود مجموعات تستثمر ذلك.
أما التوجه الثاني فيتكون من الجماعات والشخصيات البارزة سياسيا واجتماعيا ودينيا في الوسط الشيعي والتي لم تحضر اجتماع ديوان المتروك، وهي تتميز بصوتها الطائفي العالي المثير للجدل، حيث تستخدم الملف الطائفي في دفاعها عن الحقوق الدينية والسياسية والاجتماعية للشيعة، وكذلك تدافع عن جميع المواقف الحكومية من دون تمييز بين موقف وآخر، ويمثل هذا التوجه طيف متباين من الشخصيات والجماعات، من ضمنها تلك العاملة في إطار جريدة “الدار” وقناة “العدالة” على وجه الخصوص، وكذلك بعض الشخصيات المثيرة للجدل يأتي على رأسها رجل الدين الشيعي السيد محمد باقر المهري.
إن التاريخ السياسي للشيعة في الكويت يشير بوضوح إلى أن صوت الشيعة كان يعتبر باستمرار الصوت الموالي للحكومة، ويعود ذلك إلى اعتبارات متعددة يأتي على رأسها أن الشيعة كانوا (ولا يزالون) يمثلون أقلية في المجتمع الكويتي، وبالتالي احتاجوا، في النصف الأول من القرن الماضي، إلى مظلة يستظلون بها (وهي الحكومة) في وجه الدعوات العروبية آنذاك الداعية إلى إقصائهم، لذلك كانت مواقفهم السياسية تقف إلى جانب الموقف الحكومي.
في بداية الثمانينات من القرن الماضي ظهر لأول مرة في تاريخ الكويت السياسي توجه شيعي ذو مغزى سياسي تنظيمي واضح معارض للحكومة وللسلطة هو حزب الله الكويت. وترتبط ولادة هذا التوجه بالثورة الإسلامية في إيران، التي سعت إلى تجنيد مناصرين لها من أبناء دول المنطقة للدفاع عن مشروعها الثوري وأهدافها التوسعية التصديرية، وهو ما حدا بحكومات المنطقة – ومن ضمنها الحكومة الكويتية – أن تقف ضد تلك الأهداف، الأمر الذي أدى إلى ظهور خارطة سياسية جديدة في المنطقة من صورها مواجهة مناصري الثورة. وما لبث أن أدت الحرب العراقية الإيرانية إلى ترسيخ أقدام المعارضة الشيعية الجديدة في الواقع السياسي الكويتي، كون هذه المعارضة تساند الحكومة الثورية في طهران دينيا وحركيا، في حين كان الموقف الحكومي الكويتي مساندا للموقف العراقي بمبررات من ضمنها السعي لوقف المد الثوري الهادف إلى التوسع.
بعد حرب تحرير الكويت عام 1991 استمر الصوت المعارض لحزب الله في الكويت ولكن بوتيرة أخف. فالعنصر الذي ساهم في توتير العلاقة بين الحكومة الكويتية والشيعة، أي نظام صدام حسين، أصبح عدوا مشتركا. واستمرت الوتيرة على هذا المنوال صعودا وهبوطا حتى انفجرت قضية تأبين المسؤول العسكري في حزب الله لبنان عماد مغنية الذي قتل في دمشق قبل عدة أعوام. فقد كان الموقف الحكومي من قضية التأبين بمثابة فرصة ذهبية للانقضاض سياسيا على حزب الله وجعله يستظل بظل الحكومة، أي إخراجه من حالته الثورية المعارضة إلى الحالة الجديدة القديمة التي عنوانها: لايوجد في الكويت معارضة شيعية للحكومة والسلطة. فقد مارست الحكومة الكويتية دورا “ذكيا”، إثر وقوف الشيعة عموما إلى جانب المتهمين في تنظيم التأبين، حيث برأت الحكومة أي دور لمغنية في جرائم إرهابية جرت في ثمانينات القرن الماضي ضد طائرة “الجابرية” وضد موكب أمير البلاد الراحل الشيخ جابر الأحمد. وكان المقابل هو بعض المزايا الحكومية للشيعة ولحزب الله بالذات، كوجود وزير من حزب الله لأول مرة في الحكومة وإعادة فتح جمعية الثقافة الاجتماعية، حيث ساهم ذلك في تغيير الصوت الشيعي من صوت معارض إلى صوت حكومي جديد.
لقد ساهمت قضية تأبين مغنية في تقريب وجهات نظر جميع المكونات السياسية والاجتماعية والدينية الشيعية، إلى حد أن الشيعة صُوّروا وكأنهم كتلة سياسية اجتماعية واحدة، وهو ما انعكس في نتائج الانتخابات البرلمانية الماضية وقبل الماضية. غير أن التكتيكات الحكومية الخاطئة ساهمت مجددا في انقسام هذا الصوت وتحوّله إلى صوتين مختلفين بل ومناهضين لبعضهما البعض. لقد كان للصوت الشيعي الطائفي العالي الغلبة النسبية في الساحة الشيعية، وساهم في ذلك الموقف الحكومي المساند لهذا الصوت، عن طريق قيام شخصية شيعية لها ثقلها التجاري والإعلامي ومعروفة بقربها الشديد من الموقف الحكومي، برعاية هذا الصوت. غير أن هذا الصوت الطائفي العالي ساهم في انفراط مسبحة الوحدة الشيعية. إذ الكثير من الشخصيات الشيعية المعروفة والمؤثرة على الساحة السياسية والاجتماعية عارضوا الوتيرة الطائفية المرتفعة واعتبروها مسيئة للوحدة الوطنية ومؤججة للطائفية وتخدم أجندة خارجية. وأبرز مثال على ذلك احتجاج الأديب الشيعي علي المتروك على تصريحات السيد محمد باقر المهري، وآخرها تلك التي تعهد خلال لقاء له في ديوانه بحضور بعض الشخصيات الرئيسية المحسوبة على الصوت الطائفي العالي بأن الشيعة سيسعون إلى إيصال محمد الجويهل – وهي شخصية مثيرة للجدل – إلى سدة البرلمان، حيث وصف المتروك المهري بأنه “مفتن” ولا يمكن أن يمثل الشيعة، وحذر من أن هناك من يتربص بالكويت وهناك من لا يريد للديموقراطية أن تستمر، وحذر من وجود أناس يشترون بالمال ولهم صحف تنطق باسم الخارج، في إشارة واضحة إلى المحسوبين على نبرة الخطاب الإعلامي الطائفي العالي.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com