على الرغم من أن الدين الإسلامي ينتمي إلى عالم ما بعد الطبيعة، إلا أنه، ومنذ بدء البعثة، تدخّل بصورة جلية في حياة المسلم، أي في عالم الطبيعة، وساهم في تشكيل صورة الحياة وبث الروح فيها وفي أسبابها وعللها.
وبما أن الإنسان هو مجموعة من الأفكار والأسباب، فإنه عادة ما يتبع الأسباب، التي فيما لو قالوا بأنها دينية فإنه سيصبح إنسانا دينيا، أما إذا اعتبرت غير دينية فسيصبح إنسانا علمانيا. وهذا الأمر ينطبق كذلك على أفراد المجتمع في أن يوصفوا بالمتدينين أو بالعلمانيين.
ويوصف إنسان العصر الحديث بأنه علماني، لأنه استبدل الأسباب الدينية بأسباب أخرى دنيوية، أي بأسباب علمانية. فمن أسباب نظافة الإنسان المسلم اتباعه الحديث النبوي “النظافة من الإيمان”. أي أنه بسبب ارتباط النظافة بالإيمان لابد أن يكون المسلم نظيفا. في حين أن العلماني لايبحث عن أسباب النظافة في النص الديني أو من خلال عالم ما بعد الطبيعة، إنما يبحث عنه في الطبيعة من خلال العقل البشري الذي من شأنه أن يوصله إلى نفس النتيجة حتى لو لم يتوفر في الدين ما يحث على ذلك.
إن الشخص العلماني ينفذ أفكاره وأهدافه إنطلاقا مما يمليه عليه العقل البشري من أسباب دون النظر إلى رضى الله أو عدم رضاه، في حين أن الشخص الديني ينفذ أهدافه وأفكاره إنطلاقا مما يقوله النص الديني السماوي المرتبط بعالم ما بعد الطبيعة. كما أن الثاني يعتقد، ومن دون أي دليل عقلي أو نصّي، أن الدين يمتلك مشروعا متكاملا للحياة، بمعنى أن الدين الإسلامي بالنسبة إليه هو “دين ودنيا”. في حين يستند الأول إلى العقل لا إلى النص الديني في رسم صورة الحياة الطبيعية وفي تطوير مختلف جوانبها.
إن تدبير أمور الحياة، المادية الطبيعية ومشكلاتها وقضاياها، هي مسؤولية العقل والعقلاء لا مسؤولية النص الديني ورجال الدين. فالحروب التي خاضها نبي الإسلام ضد الكفار والمشركين كانت بشرية في الشكل والظاهر، بمعنى أنها من الأمور التي خطط لها العقلاء لا الوحي. كما أنها كانت تختلف في الأسباب والعلل والنوايا، حيث كان المسلمون يحاربون أعداءهم من أجل رضى الله.
وفي اعتقادي فإن نبي الإسلام لم ُيبعث لكي يطرح في رسالته نظرية خاصة تتعلق بالحرب. غير أنه من الممكن أن تكون للنبي رؤيته الخاصة في هذا الشأن، لكنها لم تكن دينية، أي لم يطرحها أو ينظّر لها إنطلاقا من الشأن الديني، وإنما انطلاقا من بشرية الموضوع.
فأدوات الحرب في زمن نبي الإسلام ظلت هي نفسها ولم تتطور أو تتغير، أي باتت السيوف والخناجر والدروع هي أدوات الحرب لمئات السنين. كما أن النبي أطلق على الحرب مسمى “الجهاد في سبيل الله”، أي غيّر أسبابها وعللها ووجهتها، لكن شكل وظاهر الحرب ووسائلها كانت تتبع الشأن العقلي لذلك الزمان الذي لم يكن هناك اختلاف فيها بين المسلمين والكفار.
إن الأنبياء، ومنهم نبي الإسلام، لم ينظّروا للشأن السياسي، ولم يعرّفوا أنفسهم بأنهم طارحو نظريات سياسية أو غيرها من النظريات، بل كان انشغال النبي في الشأن السياسي موضع استغراب العديد من الناس في ذلك الزمان، على أساس أن الأنبياء من قبله، وخاصة النبي موسى والنبي عيسى، لم يمارسوا السياسة.
وإذا ما كانت أسباب أي عمل أو التفكير في أي عمل هو من أجل رضى الله، فإن هدف ذلك العمل سيخدم الشأن ما بعد الطبيعي أو السماوي الديني. أما إذا ما كانت الأسباب تسير في غير طريق رضى الله بل من أجل خدمة أهداف دنيوية بشرية غير سماوية، فسوف يوصف ذلك العمل بالعلماني.
فهناك من يقبل على الزواج بدواعي رضى الله، وهناك من يقبل على ذلك لأسباب شخصية أو اجتماعية أو إنسانية لا ترتبط بالشأن الديني السماوي ما بعد الطبيعي، غير أن الشكل والهدف في الاثنين هو واحد. فإذا نظرنا إلى الأسباب في العمل، أي عمل، سنجد أنها أسباب دينية بالنسبة للإنسان الديني، لكن شكل وظاهر العمل من شأنه أن يقوم على الانفصال عن الدين، لأنه لايمكن أن نستخرج من الدين نظريات سياسية أو اقتصادية أو صناعية أو حربية أو طبية أو رياضية أوغيرها.
وإذا اعتقد البعض بأن الدين لا ينفصل عن السياسة وأنه يؤسس لنظريات متعددة من ضمنها النظرية السياسية، فسيكون هناك مزج بين الدين والسياسة، لأن الدين هنا قادر على إنتاج نظرية سياسية. أما إذا اعتقد البعض الآخر أن ممارسة السياسة مسببة لرضى الله، من دون طرح نظرية سياسية دينية في هذا الشأن، وأن هذه الممارسة شبيهة بممارسة العلماني للشأن السياسي، فإن الدين والسياسة سيتطابقان.
لذلك، إذا تساءلنا: هل يمكن للهندسة أن تصبح دينية، فإن الجواب من جهة هو: الدين منفصل عن الهندسة، لأن الدين غير قادر على إنتاج نظريات متعلقة بعلم الهندسة. وهناك جواب آخر: إننا نمارس الهندسة للوصول إلى رضى الله.
لذلك، قد تكون العلمانية قادرة على التعايش مع التفسير الديني الذي يعتقد بعدم قدرة الدين على إنتاج نظريات سياسية واقتصادية واجتماعية وعلمية وغيرها، لأن انتاج هذه النظريات من مسؤولية العقلاء لا الأديان. في المقابل فإن العلمانية لاتستطيع التعايش مع التفسير الديني الذي يدّعي بأن الأديان قادرة على تأسيس تلك النظريات، لأن ذلك سيكون حجر عثرة أمام عمل العقل العلماني.
لننظر إلى موضوع الحجاب في هذا الإطار. فلا يمكن للحجاب، من وجهة النظر العلمانية، إلا أن يكون موضوعا مرتبطا بالشأن الدنيوي في علاقته بمسألة الستر والحشمة التاريخيين وعلاقة ذلك بطبيعة المجتمع الذكوري الماضوي. في حين أن الفهم الديني ينظر للحجاب في سياق تداخل الشأن الطبيعي مع الشأن ما بعد الطبيعي، لذلك هو لا يبحث في أسباب ودوافع ونتائج الحجاب، ولا يهمه كل ذلك، بل يبحث في كيفية فرضه بوصفه أمرا عباديا غير قابل للنقاش.
الحجاب له صلة بالعادات والتقاليد التاريخية المرتبطة بمفهوم الحشمة وتفسيره الماضوي الذي كان سائدا في المجتمع العربي قديما، ليس هو فحسب إنما ارتبطت أمور شكلية أخرى بذلك المجتمع، كمسألة اللباس للرجل، ووضع اللحية وغيرها، وهي أمور تعلقت بتلك العادات والتقاليد، حيث جاءت آيات القرآن متوافقة مع متطلبات المرحلة الاجتماعية لذلك المجتمع، ومن غير المنطقي أن تكون العادات والتقاليد صالحة لكل زمان ومكان، وبالتالي من غير الطبيعي أن تكون الأحكام الدينية الاجتماعية “واجبة” و”فرضا” على كل مسلم ومسلمة في جميع الأزمنة والأمكنة.
ومن ثم، فإن عدم لبس الحجاب في الوقت الراهن لا يمثل خروجا على مفهوم الحشمة وفق التفسير الحالي للحشمة. كما أن لبس الحجاب من عدمه، لا صله له بالوضع الإيماني الروحي الخاص للإنسان. وقد أشار النص الديني إلى الحجاب بوصفه ضرورة اجتماعية تاريخية لا بوصفه ضرورة إيمانية.
إن تفسير مفهوم الحجاب لدى الخطاب الديني والمدرسة الفقهية التقليدية التاريخية، هو تفسير اجتماعي تاريخي لا يتعلق بأصل الإيمان والتديّن. لكن، لأن هذه المدرسة تعتقد أن الإسلام هو “دين ودنيا” وصالح لكل زمان ومكان، فإنها تعتبر كل ما جاء في القرآن، ومن ضمنها مسألة الحجاب، يجب تطبيقه في الماضي والحاضر والمستقبل، ضاربة عرض الحائط اختلاف الظروف الاجتماعية وتطور حياة الإنسان وتجددها وتغير العادات والتقاليد وتبدل النظرة إلى الكثير من المسائل الاجتماعية ومن ضمنها ما يتعلق بمفهوم الحشمة. لذلك تعتبر المدرسة الفقهية الحجاب من الأحكام الاجتماعية، لكنها لا تستطيع الإجابة على السؤال التالي: لماذا لم تغط الأحكام الاجتماعية التي جاءت مع نزول القرآن جميع مناحي الحياة على مر التاريخ؟ ولماذا اختفت بعض تلك الأحكام مع مرور الزمن وتغير ظروف الحياة وتطورها، مثل الزواج المتعدد وزواج المتعة والزواج من ما ملكت إيمانهم وعشرات الأمثلة الأخرى التي بات الواقع الاجتماعي لا يقبل استمرارها في الحياة؟
وإذا كان الحجاب، بالنسبة للفقهاء، يدخل في إطار حفظ كرامة المرأة وإنسانيتها، إلا أن تجربة بعض المجتمعات مع فرض الحجاب (إيران والسعودية) تثبت أنها لم تكن عاملا في حفظ كرامة المرأة، بل كانت سببا في إهانة المرأة وفرض الوصاية الذكورية عليها.
في المقابل نجد أن الحرية واحترام حقوق الإنسان كانا سببين رئيسيين في إعطاء المرأة كرامتها وإنسانيتها. ومن ثم، إن كانت الحرية قد تسببت في بعض السلبيات، لكنها لم تخص المرأة فحسب وإنما خصت الإنسان بشكل عام. فكل الحضارات جلبت السلبيات والإيجابيات للبشر، لكن من دون شك فإن الحضارة العلمانية الليبرالية الراهنة فاقت كل الحضارات التي سبقتها في جلب الكرامة والإنسانية للرجل والمرأة معا. في حين كانت الحضارات الغابرة، بما فيها الحضارة الإسلامية، يشوبها نقص كبير في هذا المجال.
إذن، لا علاقة للكرامة والإنسانية بلبس الحجاب، وإنما أفضى “فرض” الحجاب على المرأة، الذي عادة ما يرافقه انعدام في الحريات الأساسية للإنسان وعدم احترام حقوقه الفردية، إلى مزيد من الضغوط على حرية المرأة، وأدى ذلك إلى ممارسة انتهاك فاضح على إرادتها وحقوقها الشخصية.
لكن، هل يؤدي عدم الالتزام بالحجاب إلى فساد المجتمع، أم أن “فرضه” يؤدي إلى الفساد؟ وهل كل مجتمع غير ملتزم بالحجاب هو في المحصلة مجتمع فاسد؟ وهل توجد مجتمعات فاسدة أخلاقيا على الرغم من أن غالبية نسائها محجبات؟ وهل الحشمة هي الأصل في مفهوم الفساد الأخلاقي، أم شكل الحجاب ولبسه هما القاعدة هنا؟…
ssultann@hotmail.com
كاتب كويتي