على الرغم من مرور اكثر من 62 عاما على قيامها ككيان مستقل، لا تزال باكستان حائرة ما بين الأخذ بالنظام البرلماني أو الأخذ بالنظام الرئاسي، علما بأن لكلا النظامين حسناته وسيئاته كما أثبتت التجارب في أكثر من مكان. ولعل أفضل دليل على حيرة باكستان هو موافقة جمعيتها الوطنية مؤخرا على إصلاح دستوري يستهدف العودة مجددا إلى النظام البرلماني، أي إلى النظام الذي يكون فيه رئيس الجمهورية مجرد صاحب منصب فخري يفتقد إلى أمضى سلاح ألا وهو سلاح حل البرلمان والدعوة إلى الإنتخابات، فيما السلطة الفعلية في يد رئيس الحكومة الذي عادة ما يكون رئيس الحزب الحائز على أكبر عدد من مقاعد البرلمان المنتخب.
وبتلك الموافقة التي شارك فيها أغلبية نواب الجمعية الوطنية، دون وجود أصوات ممانعة أو غائبة، وحظيت بإشادة مختلف القوى السياسية، وذلك في مشهد نادر الحدوث داخل دولة عرفت طوال تاريخها بالإنقسام السياسي على نفسها، تكون باكستان قد أقدمت على التعديل الثامن عشر لدستورها، علما بأن آخر مرة تم فيها تعديل دستورها كان في عام 2003 أي في عهد الرئيس السابق الجنرال برويز مشرف والذي سعى من خلال ذلك الإجراء إلى تعزيز صلاحياته كرأس للدولة، بمقدوره حل البرلمان وإقالة الحكومة كيفما شاء ومتى ما شاء.
ومن جهة أخرى فإن الإصلاح الجديد الذي شمل أكثر من تسعين مادة من مواد الدستور الحالي، وعكف على صياغته وإعداده ممثلو 14 حزبا سياسيا ممثلا في غرفتي البرلمان بما فيها حزب رئيس الجمهورية الحالي “آصف علي زرداري” الذي ستتقلص صلاحياته بصورة كبيرة وبالتالي سيتحول إلى رئيس ضعيف لا حول ولا قوة له – يقال أنه رضخ لذلك في مقابل وعد بعدم النبش في المخالفات وأعمال الفساد والإفساد التي أرتكبها في عهد حكومة زوجته الراحلة “بي نظير بوتو” – سيعيد باكستان مجددا إلى دستور عام 1973 الذي حكم بموجبه الراحل “ذوالفقار علي بوتو” بلاده كرئيس قوي للوزراء ما بين عامي 1973 و1977 فيما كان رئيس الجمهورية هو “تشودري فضل إلهي”، وذلك قبل أن يقوم الجنرال محمد ضياء الحق في عام 1977 بإنقلابه العسكري المشؤوم الذي تلاه إيقاف العمل بدستور 1973 وإعلان الأحكام العرفية، وتنصيب نفسه كرئيس للجمهورية بصلاحيات واسعة من عام 1979 وحتى تاريخ مقتله في حادث تحطم طائرته في السابع عشر من أغسطس عام 1988.
والباحث في تاريخ باكستان وتحولاتها السياسية، سيكتشف أن أول دستور لها كان ذلك المعروف بقانون حكومة الهند لعام 1935 . وقد ظل العمل ساريا بهذا الدستور إلى أن تم إنتخاب جمعية وطنية في عام 1947 من أجل صياغة دستور بديل يجسد الأهداف التي إنفصلت من أجلها البلاد عن الهند البريطانية. لكن هذه الجمعية لم تنه أعمالها إلا بعد مخاض عسير إستغرق نحو تسعة أعوام، ليولد ما عرف بدستور العام 1956 والذي لم يعش طويلا.
أما السبب فهو أن الميجور جنرال “صاحب زادة سيد إسكندرعلي ميرزا”، الذي كان قد عين كرئيس للبلاد في أغسطس 1955 ، قام بإنقلاب عسكري في أكتوبر 1958 من أجل تعزيز صلاحياته ونفوذه. وبطبيعة الحال لم يكن هذا ممكنا دون إيقاف العمل بدستور 1956 الذي إجتهد وتعب المشرعون المدنيون في صياغته ليكون نواة للدولة الديمقراطية العصرية.
وتشاء الأقدار أن يزاح “إسكندر ميرزا” بنفس الطريقة التي جاء بها. ففي نفس العام الذي قاد فيه إنقلابه، إنقلب عليه قائد جيشه والشخص الذي أوكل إليه قيادة سلطة الأحكام العرفية ألا وهو الماريشال “محمد أيوب خان” الذي أمسك زمام الأمور بيد من حديد كرئيس للجمهورية ورئيس للوزراء وقائد عام للقوات المسلحة بأفرعها الثلاثة. وهكذا لم يتم التطرق مجددا إلى موضوع الدستور إلا في عام 1960 ، وذلك حينما عين أيوب خان بنفسه لجنة من أجل صياغة مشروع دستور جديد. وقد أنهت هذه اللجنة عملها بعد عامين بتقديم ما عرف بدستور العام 1962 . لكن هذا الدستور أطيح به أيضا، بل أن الذي أطاح به هو من أقره أي الماريشال أيوب خان وذلك حينما أعلن الأحكام العرفية في البلاد في مارس 1969 وسلم السلطة إلى رئيس أركان جيشه الجنرال “آغا محمد يحيى خان” تفاديا للمزيد من المظاهرات الشعبية ضد حكمه.
وما يهمنا هنا هو التركيز على دستور العام 1973 الذي جاء بعد التجربة القاسية لإنفصال الجناح الشرقي للبلاد والذي لم يقلص مساحة باكستان وعدد سكانها وحجم ثرواتها فقط، وإنما أطاح أيضا بالفكرة التي بنى عليها القائد الأعظم “محمد علي جناح” دولته المسلمة المستقلة، وهي أن الأخيرة هي الممثلة والحامية والمجسدة الوحيدة لأحلام عموم مسلمي شبه القارة الهندية. وسبب تركيزنا على دستور 1973 هو أنه ركيزة الإصلاحات الأخيرة التي تنتظر مصادقة مجلس الشيوخ الباكستاني عليها لتكون نافذة.
يتطرق هذا الدستور، الذي كان قد دخل حيز التنفيذ إبتداء من 14 أغسطس 1973 ، إلى جملة من الأمور المفصلية مثل:
– دور الإسلام كعقيدة رسمية للبلاد، و كشرط يجب توفره في كل من يشغل او يسعى إلى شغل منصبي رئاسة الجمهورية أوالحكومة. أما فيما عدا هذين المنصبين فيسمح لمعتنقي الديانات الأخرى بإشغالها.
– ضرورة نشر الإسلام ومبادئه ومفاهيمه بكل الطرق والوسائل مع جعل دراسة القرآن والعلوم الإسلامية إجباريا لتشجيع وتسهيل الإلمام باللغة العربية.
– بيان دور وصلاحيات الحكومة الفيدرالية وحكومات الأقاليم.
– بيان صلاحيات ومواصفات رئيس الجمهورية (يجب ألا يقل عمره عن 45 وينتخب من قبل نواب الشعب لفترة لا تزيد عن خمس سنوات، ولا يزاح إلا بأصوات ثلثي نواب الشعب، وتنحصر مسئولياته في إصدار الأنظمة المحلية أثناء غياب مجلس النواب عن الإنعقاد ومنح العفو وأخذ العلم من رئيس الحكومة بتطورات الشئون الداخلية والخارجية)
– بيان صلاحيات ومواصفات رئيس الحكومة (ينتخب من قبل مجلس النواب بالأغلبية، ويتمتع بصلاحيات أوسع بكثير من صلاحيات رئيس الجمهورية، ويكون هو وأعضاء حكومته مسئولين أمام مجلس النواب الذي يستطيع محاسبتهم ومساءلتهم وإستجوابهم).
– توضيح دور المجلس التشريعي الفيدرالي المماثل لدور البرلمان البريطاني.
– توضيح دور ومسئوليات مجلس الشيوخ كمؤسسة تشريعية تضم ممثلين عن مختلف أقاليم البلاد بأعداد متساوية، وذلك كحل لتبديد مخاوف الأقاليم من هيمنة المركز على صناعة القرار.
– تأسيس مفوضية قومية للمالية من وزير المالية الإتحادي ووزراء المالية في الحكومات الإقليمية، وذلك بغرض تقديم النصح فيما يتعلق بتقسيم عائدات الدولة ما بين المركز والأقاليم.
– التأكيد على بعض الحريات العامة والأهداف الحيوية مثل: حق المرأة في المشاركة السياسية وشغل أعلى المناصب في الدولة، وحماية الأقليات، وتأمين الرعاية الإجتماعية، و تطوير الحياة الإقتصادية لمختلف فئات الشعب، وتوثيق روابط باكستان بالعالم الإسلامي، والعمل على إشاعة السلام في العالم، وحظر الرق والتشغيل بالقوة، و مكافحة كافة أشكال التمييز، وتأمين سلامة المواطن وأمنه وحريته في العمل والتنقل والتجمع والتعبير والتعبد والترفيه البريء.
– التأكيد على إستقلالية السلطة القضائية وتمتعها بمكانة سامية في الدولة.
.
ومما لا جدال فيه أن الإصلاحات الدستورية الأخيرة بالمضامين سالفة الذكر ستجعل – حين دخولها حيز التنفيذ – من رئيس الحكومة الحالي “يوسف رضا جيلاني” صاحب اليد العليا في باكستان. وبما أن هذا الأخير هو عضو في حزب الشعب الباكستاني الذي يتزعمه حاليا رئيس الجمهورية ” آصف علي زرداري”، فإن سلطة الأخير قد لا تهتز كثيرا رغم الجدل الكبير الدائر حول مصداقيته، وذلك إنطلاقا من حقيقة النفوذ الهائل الذي يتمتع به عادة زعماء الأحزاب الباكستانية داخل كياناتهم الحزبية.
على أن بعض المحللين ينظرون إلى هذه التغييرات بشيء من القلق، على الرغم من إستحسانهم المبدئي للفكرة و تأكيدهم على أنها خطوة مطلوبة لإزالة المطبات الكثيرة والأشواك المتراكمة على طريق الديمقراطية الباكستانية الهشة، والتي تسببت فيها كما رأينا أطماع جنرالات المؤسسة العسكرية المستبدين. أما أسباب القلق فأولها الوضع الأمني الراهن في البلاد والذي يتطلب وجود رئيس قوي يملك صلاحيات إستثنائية ويتمتع بعلاقات متينة مع مختلف القوى المدنية والعسكرية، وثانيها أن الإصلاحات المذكورة تعني فيما تعني تقوية سلطة ونفوذ الأقاليم على حساب سلطة ونفوذ المركز، وهذا أمر خطير لأنه يشير ببساطة إلى إمكانية سيطرة زعماء الأقاليم على موارد أقاليمهم وتوجيهها إلى الوجهة التي يختارونها. فإذا ما علمنا أن معظم هؤلاء الزعماء المحليين لديهم مصالحهم وحساباتهم وعلاقاتهم الخاصة التي قد لا تتطابق أو تنسجم مع السياسات العامة للدولة الباكستانية ، فإن احتمال أنجراف باكستان نحو المزيد من الفوضى والإنقسام أمر وارد كما يقول هؤلاء المحللون، وبينهم أكاديميون وصحفيون بارزون من باكستان نفسها.
الأمر الآخر الذي قد يسبب حالة من الشقاق مستقبلا هو التعديل الذي يقال أن الإصلاحات الجديدة قد تطرقت إليه بخصوص تغيير إسم أكثر الولايات الباكستانية إضطرابا وهي”ولاية الحدود الشمالية الغربية” إلى ولاية “خيبر/ بشتون”. حيث قالت بعض المصادر أن لحزب المهاجرين القومي المعارض، إضافة إلى أحد أجنحة حزب الشعب الحاكم تحفظات على هذه التسمية الجديدة.
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
elmadani@batelco.com.bh
.
.