يعتقد الكثيرون بأنه لابد أن تكون الأخلاق أحد نتاجات الدين، وهي قد تعتبر جوهر الدين لدى البعض الآخر. لكن تصرفات غالبية كبيرة من المتدينين المسلمين، تؤكد وجود هوة واسعة بين تنفيذ تعاليم الدين وأحكام الشريعة وعلاقة ذلك بتحقيق الفضائل الأخلاقية، والأمثلة على ذلك كثيرة.
من جانب آخر، هناك رأي يعتقد بأن تنفيذ أحكام الشريعة لابد أن يسير في إطار تقيد المؤمنين بالأسس والفضائل الأخلاقية المسيطرة على واقع الحياة وظروفها. بمعنى أن أخلاق المجتمع مرتبطة بالواقع وظروفه، وأن تنفيذ أحكام الشريعة يجب أن يسير في إطار احترام الواقع وظروفه الاجتماعية والأخلاقية. أي أن الأطر الأخلاقية الواقعية المسيطرة على المجتمع هي التي يجب أن تحدد ما يجب أن ينفذ من أحكام دينية، وكيفية التنفيذ، وما يجب ألا ينفذ، وما يمكن أن يعاد فهمه من أجل أن يلائم الواقع.
وهناك رأي ثان يرى أن تنفيذ أحكام الشريعة غير مرتبط بأخلاق المجتمع وظروفه، بل يجب التنفيذ تحت أي شرط، وأنها – أي الأحكام – لا يمكن أن تخضع لأمر الواقع وأخلاقه وشروطه، كالخضوع لظروف المفهوم الحديث لحقوق الإنسان وحرية الاعتقاد والاختلاف.
وحينما تتم مناقشة مسائل تتعلق بحرية الاعتقاد المكفولة بالدستور، لا يدر في خلد الرافضين لتلك الحرية ضرورة احترام الثقافة الأخلاقية الحقوقية المسيطرة على الواقع الاجتماعي في الكويت وفي العالم أجمع، إذ يعتقد هؤلاء أن هدفهم الرئيسي في الحياة هو تنفيذ فهمهم التاريخي لأحكام الشريعة حتى لو جاء على حساب المفهوم الحديث لحقوق الإنسان.
ولا يبالي هؤلاء الرافضين، الذي يعتبرون من أنصار الرأي الثاني، تحقيق أهدافهم من خلال وسائل قد تصل إلى حد إزهاق الأرواح مثلما يحصل في إيران والعراق وأفغانستان وباكستان. كما أن في العديد من المجتعات يفتح رجال الدين أبواب الوصاية الاستبداد والخضوع والطاعة، المناهض لأبسط معايير الأخلاق، من أجل تنفيذ فهمهم التاريخي لأحكام الشريعة، ضاربين بعرض الحائط وعودهم باحترام حقوق الإنسان وحرية الاعتقاد والاختلاف.
إن أنصار الرأي الأول يعتقدون أن الشريعة التي يجب أن تفرض رأيها على الواقع هي شريعة العقل. فالعقل الحديث أنتج مفاهيم وأخلاق ووسائل وأحكام جديدة، تختلف عن تلك التي أنتجها العقل القديم. من هنا فإن العقل الحديث استلهم أفكاره من العقل الجمعي المسيطر على الحياة الراهنة. أما العقل القديم فقد اعتمد أساسا على شريعة النقل التي استلهمت أطرها من واقعها. إن أنصار العقل الحديث يعتقدون أن العدالة، في المسائل المتعلقة بالواقع الاجتماعي وظروفه، لها أولوية على الشريعة. بمعنى أن تنفيذ “الأحكام الأخلاقية العادلة” أهم من تنفيذ “الأحكام الشرعية التاريخية”، وأن الرجوع إلى العدالة من أجل تنظيم حياتنا الاجتماعية يسبق الرجوع إلى الشريعة. وانطلاقا من مفهوم العدالة، يجب الغوص في الشريعة لاستخراج أحكامها التي تحقق العدل في المجتمع. ومن دون بوصلة العدالة فإننا قد نصل إلى فهم لأحكام الشريعة يخالف الأخلاق العامة المسيطرة على الواقع الاجتماعي الراهن.
يعتقد أنصار شريعة العقل أن حقوق الإنسان تتقدم في الأهمية على حقوق الله، وأن الدفاع عن حقوق الإنسان يؤدي بالضرورة إلى رضا الله، وأن الإضرار بحقوق الإنسان يؤدى إلى سخط الله. بمعنى أن الأخلاق المتعلقة بحقوق الإنسان تأتي في مرتبة أعلى من الأخلاق المتعلقة بحقوق الله، لأن احترام القيم الإنسانية الحديثة هو مقدمة ضرورية للإيمان بالله ومنبع الأخلاق في العالم الجديد، وبالتالي هي إحدى الطرق نحو فهم ديني أعمق. فبناء علاقة روحية عميقة من دون أن يسبق ذلك احترام حقوق الإنسان، هو مسعى معنوي غير واقعي، بمعنى أنه لا يمت بصلة لظروف الحياة ولا يستطيع أن يحقق أي قيمة أخلاقية فيها. فالتدين المتشكّل في الحياة الجديدة لابد أن يهدف إلى احترام القيم الأخلاقية الحديثة ومن ضمنها احترام حقوق الإنسان. في حين أنه لن تكون مخرجات التدين التاريخي إلا سلوكا تاريخيا لن يستطيع أن يخدم ظروف الحياة الراهنة، وفي أغلب الأحيان يشكل تهديدا للأمن الاجتماعي.
إن المفهوم الحديث لحقوق الإنسان، ليس جزءا من الشريعة ولم تأت الآيات والأحاديث لذكره أو الإشارة إليه، لأنه لم يكن يمثل تحديا ثقافيا واجتماعيا وسياسيا في عصر نزول الدين الإسلامي. فالمفهوم هو أحد إنجازات إنسان العصر الحديث، فيما أحكام الشريعة لا تزال تمثل أحد تجليات العصر القديم. لذلك لا يمكن للأصولي أن يخلط بين تحقيق الأهداف الدينية التاريخية وتحقيق الأهداف الأخلاقية الحديثة، لكنه قد يقدم على خطوة الدفاع عن مفهوم حقوق الإنسان إذا ما حقق له المفهوم نتائج تخدم قضاياه ومسائله.
لقد ساهمت النظرة الدينية التاريخية للأخلاق في ترسيخ لامبالاة الفرد الأصولي تجاه المفهوم الحديث لحقوق الإنسان. فالأخلاق الإسلامية لم تهدف إلاّ إلى تحقيق السعادة الفردية الأخروية للإنسان، والتي هي في نظر المفسرين الإسلاميين التقليديين، السعادة الوحيدة المنطلقة من الحق الديني. لذلك، هي لم تكن تملك تصوّرا واضحا حول دور القيم الأخلاقية الحديثة في تنظيم العلاقات الاجتماعية، ما جعلها غير مبالية بتنظيم العلاقة بين الأفراد داخل المجتمع، ومثال ذلك لامبالاتها تجاه انتهاكات حقوق الإنسان. إن الفردية في الأخلاق الإسلامية لا تتمثل إلا في تهذيب النفس وإصلاح الروح وبث الفضائل في الإنسان وإبعاده عن الرذائل التي من شأنها أن تنقذه من النار في الدنيا الآخرة، لا أن تساعده في تنظيم علاقاته الاجتماعية مع الآخرين وأن تحقق له رؤى اجتماعية تعايشية.
وعلى هذا الأساس فإن القيم الأخلاقية التي تساهم في تنظيم العلاقات الاجتماعية المختلفة بين البشر، مثل مفهوم الدفاع عن حقوق الإنسان مهما كان نوع ودين وجنس ولون هذا الإنسان، هي القادرة على أن تتبنى التعايش بين البشر، لأنها تدافع عن حق كل إنسان في الاختلاف، وفي جعل المختلفين يعيشون في إطار اجتماعي واحد، كل طرف يحترم وجود الآخر، ويحترم حقه – مثلا – في الإيمان بأي دين من الأديان، أو حتى في عدم الإيمان بأي دين، لكن ضمن نهج لا يهدم الواقع الاجتماعي التعايشي بل ينظمه.
في حين يثبت السلوك الآخر، سلوك الأخلاق الفردية والأخروية، أنه غير قادر على تقديم نهج يساهم في التعايش بين البشر المختلفين والدفاع عن حقوقهم، لاسيما إذا ما سعى أنصاره إلى فرض رؤاهم الأخلاقية الدينية على باقي أفراد المجتمع، حيث يعكس سلوكهم هذا انتهاكا للحقوق الفردية الأخلاقية للأشخاص الذين يعيشون معهم في نفس المجتمع.
إن فقدان السلوك الذي ينظم الاختلافات الفردية والاجتماعية في المجتمع، شجع مفهوم “الوصاية” الدينية من أن يمارس دوره المستبد على أكمل وجه. وصاية الحاكم، والمؤسسات السياسية والاجتماعية، ورجل الدين، والإنسان الذكر. في حين أن مساعي نشر ثقافة احترام حقوق الإنسان، ومواجهة الانتهاكات التي تنفذ ضده، منوطة بعدم تدخل الآخرين بالسلوكيات الشخصية الخصوصية للأفراد، ومنوطة أيضا بالسعي لنشر الأخلاق التي تساهم في تنظيم الاختلافات الفردية والعلاقات الاجتماعية التعايشية.
إن من شروط احترام حقوق الإنسان في أي مجتمع من المجتمعات، ألا يفرض فرد أو مجموعة من الأفراد ينتمون إلى فهم مشترك أو متقارب تجاه بعض القيم الدينية التاريخية، رؤاهم الأخلاقية ضد الآخرين المختلفين معهم، كفرض الحجاب في إيران أو اللاحجاب في تركيا. تلك السلوكيات “الوصائية” التي تعزز من هيمنة فرد أو جهة على أخرى، يمكن معالجتها من خلال نشر السلوك الاجتماعي المنظم للاختلافات الفردية. فالأخلاق الاجتماعية ترفض الهيمنة والوصاية المسببة للظلم والمنافية للعدل، ومن ثم تنظم السلوك الفردي والتنوعات الفردية وتضعها في قالب اجتماعي يحقق التعايش، كما تشجع عملية الانتخاب لمختلف صنوف الحياة الفردية. وهنا يشترط أن تكون عملية انتخاب أي شخص لدين من الأديان، أو لتغيير دينه أو مذهبه إلى دين أو مذهب آخر، أو حتى عدم إيمانه بأي دين، عملية فردية خاصة، وإلا فمن شأن الوصاية أن تؤدي بأتباع دين الأكثرية إلى الهيمنة على أتباع دين الأقلية أو اللادينيين والتضييق على حقوقهم. فحق الإنسان الفرد في انتخاب طريقة حياته الشخصية وانتخاب دينه ومذهبه وتدينه الشخصي ولا تدينه، هو شرط أساسي من شروط احترام حقوق الإنسان في أي مجتمع، وكذلك هو أحد مقومات نظام التعايش الاجتماعي.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com