ان أي حركة تهدف الى الاصلاح الديني سوف يعترضها الكثير من العوائق، لأن متعلقها النقدي سيكون محصورا بالموضوعات الدينية الخارجية، من الشكل الطقسي الى جوهر التفاصيل المتشكل منها الموضوع الذي يُعبّر عنه بالطقس. وقد تتطوّر عملية النقد في كثير من الاحيان لتطال البنيّة الثقافية والفكرية التي تُعتَبر المصدر المُؤصّل على أيديٍ بشريّة معرّضة للوقوع في الخطأ أو الشُبهة أو في بعض الاحيان القصد في الخطأ تأثرا بعوامل الاغراء السلطوي. وهذا ما قد حصل فعلا وقد يكون هو الدافع الاساسي عند مَنْ يرفع شعار الاصلاح الديني، حيث ان الدعوة في الواقع هي لقراءة التراث الاسلامي من جديد بمنهجيات علمية جديدة، وخاصة أن هذا التراث لم يتعرّض للنقد والغربلة ليتميّز الديني عن البشري. والسبب المانع من ذلك هو وجود حرّاس من فقهاء المذاهب الذين يخافون على مصالحهم اذا ما انفتح باب النقد للتراث المتشكل من تراكمات بشرية. والامثلة على ذلك كثير لسنا الآن في صدد ذكرها وتعدادها، إلا أننا قد نحيل القاريء الى بعض الاشكاليات الفكرية المتعلقة بانتاج الفقهاء المُخالف للنص الديني اذ أنهم اعتمدوا على تراث مذهبي وليس على تراث اسلامي مع ما في الاثنين من اشكاليات لها علاقة بظروف تشكُلها التاريخي لا بد من قراءتها من جديد على ضوء المستجدات العلمية المعاصرة وعلى ضوء ظروف زمنية واجتماعية اختلفت عن تلك الظروف التاريخية التي تمّ فيها الانتاج. هذه الانتاجيات قد فرضت سلوكيات في الاجتماع الاسلامي المعاصر،(قد يكون لهذه الانتاجيات الفقهية ظروفها التاريخية وبالتالي صلاحية في مرحلة تاريخية خاضعة لظروفها ومعطياتها، وهذا ليس نقصا في المُنتج ولا في المُنتَج، الا أن احتياجات المرحلة كانت تفرض على المُنتج مثل هذا الانتاج، ولم يعد هذا الانتاج صالحا لمرحلة اختلفت احتياجاتها ومتطلباتها). لكن قد اعتبرها البعض أنها مُخالفة لمقاصد الشريعة الاسلامية حتى في زمانها، فضلا عن الزمن المعاصر. منها على سبيل المثال لا الحصر “العدالة – الحرية”، لأن مفهوما العدالة والحرية واحد في كل زمان ومكان، ولا يخضعان لأي ظروف لكي يتبدلا ويتغيرا، وهناك كم هائل من الفتاوى التي صدرت من فقهاء المذاهب، موضوعها الحقوق والواجبات، والعلاقة مع الآخر، أسست ثقافة دينية خالية من النزعة الانسانية قد ساهمت في تشكيل مخزون من التصورات عن الآخر المختلف دينيا أو مذهبيا .
الا أن ثمة مَن يقول بأن الدعوة الى الاصلاح الديني في مجتمعاتنا تستبطن الدعوة للقطيعة مع التراث ولعل هذا الذي يُخيف البعض من أصحاب المدارس التقليدية “الحوزات الدينية”. هذه المدارس تعتبر التراث البشري هو الدي ، وبالتالي تقدّس التراث وتعتبر أي نقد له نقدا للدين. وبسبب التمترس المذهبي لم تستطع ثقافة الحوار أن تخترق ساحاتهم المقدسة، فأطبق السائد التاريخي على عقولهم وعلى مفاهيمهم، وباتت أي محاولة للنقد تُعتبر خروجا عن السائد المألوف عند رجال الدين وأتباعهم من المتدينين.
ان كل الحركات الاصلاحية التي برزت تاريخيا في مجتمعاتنا،وخاصة الحركات التي اعتبرت أن الاصلاح الديني هو المدخل الاساس للاصلاح السياسي والاجتماعي، قد ووجهت بنوعين من رجال الدين. الاول، تقليدي وقد تحرك في المواجهة باندفاع ذاتي لما يحمله من ثقافة دينية تقليدية. الا أن الذي أوقف الحركات الاصلاحية وأثّر على مسارها التصاعدي هو النوع الثاني، وهم تقليديون أيضا بامتياز، لكنهم كانوا مدعومين من سلطات سياسية خافت على مصالحها السلطوية، بعدما أوشكت الحركات الاصلاحية أن تطال أو تنال منها ومن هيبتها، فاستعانت بل استغلّت هذا النوع من رجال الدين الذين تربطهم مع السلطة السياسية مصالح سلطوية. وأبرز مثال على هكذا مواجهات للحركات الاصلاحية كانت حركة العلامة الشيخ أحمد رضا العاملي، الذي قُتل عام 1952 م، في ساحة مدينة النبطية وأمام الملأ، بفتوى من أحد رجال الدين لأن الشيخ رضا كان قد تحالف مع مَن رفض ممارسة التطبير باسم الدين واعترض على كثير من الشعائر الدينية وحاول الوقوف بوجه السلطة الاقطاعية آنذاك والمتمثلة بآل الاسعد. فتحالف الاقطاع السياسي مع الاقطاع الديني من أجل اخماد تلك الحركة الاصلاحية. فاستعيدت الفتوى الدينية بقتل الرأي المخالف بأمر من السلطة الى ما هنالك من أمثلة شاخصة أمام أعيننا اليوم، ابتداء من لبنان ومحيطه ومرورا بالعراق وجواره وصولا الى ايران وما يجري قريبا منها. كل هذا يُلقي على عاتق المثقفين والمفكرين في العالمين الاسلامي والعربي مسؤولية كبرى، مسؤولية الوقوف بوجه خطاب ديني مذهبي غزا الاجتماع الاسلامي من جديد، قادما من أعماق التاريخ، ومسلّحا بكل ما انتجته القرون الوسطى من ثقافة مذهبية، وأخطر ما في هذا الخطاب أنه ملك السلطة .
لم نُسرد ما سردناه لنُحبط عزيمة المعترضين الاصلاحيين. بل نريد من ذلك أن نؤكد بأن هذه المواجهات والمعوقات التي تعترض حركات النقد والاصلاح ما هي الا ردّة فعل طبيعية من عقليّة اعتادت وألفَتْ السائد الديني وباتت تخاف من أيّ فكرة جديدة تُخالف ما اعتادوه وألفوه. وهذا يشير أيضا الى ضرورة اعادة النظر من قِبَل روّاد الحركات الاصلاحية في آليات وأولويات تحركهم، والتي برأيي ينبغي أن تتركز على الفصل بين الاسلام ومفسريه، لأن عملية الفصل بينهما تعني تلقائيا بأن ما انتجه الفقهاء لا يمثّل الاسلام بالضرورة، انما يمثّل رأيا اسلاميا وليس بالضرورة ان يكون رأيا مقدسا مثل قدسية الدين. وهذه هي أول خطوة على طريق غربلة التراث الديني والاسلامي، ومن ثمّ توجيه النقد له بعد تحويله الى موضوعات اشكالية ليَميزَ الخبيث من الطيّب، بمعنى التمييز بين الديني وغيره .
رجل دين لبناني *
قيادي في اللقاء العلمائي اللبناني
إشكالبات حول حركات الاصلاح والمعارضة
جرأة كبيرة وبارزة في التحدث عن موضوع غربلة الدين من الاراء التي اثرت على خلط الاصل بالفرع وجعلت الممارسات الدينية البشرية بعيدة عن فحوى الدين واهدافه لتجعل الدين قيدا للبشر بدل ان يكون يسرا لهم في حياتهم يواكب تفاصيلهم اليومية ويجد حلولا لكافة مشكلاتهم,
حاليا تداخلت المصالح الشخصية والسياسية والاجتماعية لتصبح جزءا من مسلمات دينية نضطر وبالعرف والتقليد الالتزام بها علما ان القناعة الداخلية بعيدة كل البعد عمن نقوم بالالتزام به.