كلكم، كلهم… كلنا قتلة، من معركة “الهوليدي إن” إلى الأسواق وتل الزعتر وتل عباس والدامور والسبت الأسود والجبل والعلمين والتحرير والإلغاء وإقليم التفاح والمخيمات ومعارك طرابلس والميناء والقاع ومغدوشة… إلى آخر ما أطلقناه من رصاص ابتهاجا في سماء بيروت، إلى كل هذا “الرقص فوق الرمل” بعد استشهاد الحريري وخروج الجيش السوري.
باستثناء الرصاصات التي أطلقت على العدو الصهيوني، كل ما أطلقناه في الهواء الطلق أو على صدور المواطنين أو في القصف العشوائي،من أجل قضية أو دفاعا عن أحزاب وطوائف، أو عن أحياء ودساكر،أو عن أفكار، كان للقتل ثم صار مع الوقت للقتل المجاني.
كلنا قتلة. من كان منا يطلق النار في الخندق الواحد أو بين الخنادق، بين شرقية وغربية أوفي عيون السيمان، في الخنادق الطائفية أو العلمانية، في الخنادق الغميقة أو على سطوح القناصة أو في الغرف المثقوبة بالقذائف والمناظير.
كلنا. من كان يحمل بندقية أو يحشو مدفعا أو يقود محمولة أو يجهز تموينا… من كان يصدر الأوامر ومن ينفذها. من قَتَلَ على الهوية أو من تخصص في نهب البنوك والأسواق والجيوب، من سطا بالسلاح ومن أقام حواجز الجباية، حتى الذي تبرع للمجهود الحربي كان شريكا في أعمال القتل.
كلنا. من صمد منا ومن هاجر، من أدمن على حياة الحرب واستطاب أخبارها، ومن كان يرسل برقيات التضامن. حتى نحن الذين لم نغمس أصابعنا بالدم، الذين كنا نقاتل بأقلامنا وأفكارنا، نحن المزعومين مثقفين، بعنا أقلامنا أو أجرناها لمشاريع القتل فتوزعنا على الخنادق لنبشر بالثورة الاشتراكية أو بالوحدة القومية أو بالوطن القومي المسيحي أو بالإسلام هو الحل، وجعلنا أفكارنا مطية لجنون الحرب ومجانينها.
كلنا. حتى من عجز منا عن وقف مسلسلات الدم، ممن كان في سدة المسؤولية الفعلية أو المعنوية، السياسية أو العسكرية، من عجز عن فتح باب للخروج من نفق الحرب الأهلية هو قاتل بالقوة، لأن قاتلا بالفعل استخدمه متراسا وأطلق من ورائه الرصاص على الوطن كله لا على المواطنين الأفراد فحسب.
قتلة آخرون أولئك الذين لم يكن لديهم ما يقاتلون في سبيله، لم يكن لديهم جماعة فمنحوهم عصابة، ولم تكن لهم قضية، فراحوا يقاتلون عن قضايا سواهم،أولئك هم القتلة المأجورون. هؤلاء اكثر القتلة خطرا لأنه ليس لديهم ما يخسرونه فيقامرون بالوطن والمواطنين ويتاجرون بالقيم. المتاجرون بالطائفية، مدمرو القيم، شبيحو الحرب، المتسلقون ومساحو الجوخ والانتهازيون، ناقلو البندقية من كتف إلى كتف، المستزلمون، المتطاولون على العلم والكفاءة، مدمرو المؤسسات، الخ. إنهم أهل الفتنة، والفتنة أشد من القتل.
كلنا قتلة، ولا أستثني من جريمة القتل إلا المغلوبين على أمرهم ممن لم يكن لهم في طول الحرب الأهلية لا حول ولا طول. لكنني لا أستثني أحدا من جريمة بيع الوطن والمتاجرة بحجره وبشره، أي من جريمة العمالة للأجنبي أو للغريب، باللغة الكتائبية.
كلنا، إن لم نكن حزبيين، فأنصار وأتباع وجمهور حزبي. لم نكن نؤمن بلبنان وطنا نهائيا لجميع أبنائه، وكنا نخطط لإلغائه، بتقسيمه إلى دويلات أو باقتطاع الوطن القومي المسيحي منه، أو بتذويبه في العوالم الأرحب، عالم الأمة السورية أو العربية أو الإسلامية أو الأممية الاشتراكية. يعني أننا جميعا شاركنا أو رضينا بالتآمر عليه، واستسهلنا الاستقواء بالخارج على أبناء وطننا، واستدرجنا من استدرجناه وما زلنا ماضين في لعبة المبرد ذاتها حتى اللحظة، نستقوي بالخارج فيستضعفنا ويستخدمنا ويجعلنا حشوة إضافية في مدفعه أو متراسا في معاركه أو مطية للمواجهات أو لتسوياته الملتبسة.
مع أن الخارج ليس واحدا ولا الغريب، إلا أننا نحن واحد في الغباء وفي اقتراف فعل التآمر، سيان إن طلبنا المساعدة من القريب أو من الغريب، من العدو أو من الصديق، للتآمر على الوطن. نعم. نحن اليساريين الذين قاتلنا أبناء وطننا بالبندقة الفلسطينة نشبه الذين قاتلونا بالبندقية الاسرائيلة، بالرغم من الفارق الكبير بين البندقيتين، ومع أننا نعتز بتضحياتنا دفاعا عن القضية الفلسطينية ولسنا نادمين عليها، و نعتز بمقاومتنا الباسلة ضد العدو الإسرائيلي، إلا أننا حيال وطننا لبنان، كنا نشبه بعضنا بعضا، لأن كلا منا رفع بندقية غير لبنانية في وجه مواطن لبناني. نعم، نحن، أهل الحركة الوطنية اللبنانية وأحزابها اليسارية، من حملنا البندقية الفلسطينية في وجه الجيش اللبناني وشجعنا الفلسطينيين على تهديم الدولة، وحين انتبهنا إلى خطيئتنا بحق الوطن كان قد فات الآوان، وسوانا من اللبنانيين استدرج سوريا وإسرائيل، وها هو اليوم يستدرج كل التناقضات الإقليمية، العربية والإيرانية، ليكرر الخطيئة ذاتها: لبنان الساحة لا لبنان الوطن.
لا نقول ذلك لندافع عن أحد، عن أنفسنا، قتلة ومتآمرين وعملاء، بل لنذكر الجميع بأن اتفاق الطائف قرر طي صفحة الحرب الأهلية ولم يعد مفيدا لإعادة بناء الوطن نكء جراجها، ولندعوهم إلى استخراج الدروس المفيدة والمرة من تجربة الحرب الأهلية، ومن أهمها درس العلاقة بالخارج، لكن من أكثرها مرارة موافقتنا مرغمين على أن تناط عملية إعادة بناء الوطن والدولة بالقوى ذاتها التي صنعت الحرب الأهلية او شاركت فيها كلها أو في حقبة منها، والتي اصطفت لاحقا في جبهتي 8 و14 آذار. ذلك أن إعادة بناء الوطن والدولة لا يمكن أن تحصل من دون مكونات هذين الاصطفافين، لكنها لا يمكن أن تتم بعقلية هذين الاصطفافين، عقلية الفسطاطين والاستقواء بالعروبة والمجتمع الدولي، أو عقلية التكفير والاستقواء بالمحور السوري الإيراني، ولا طبعا بعقلية الخروج من الاصطفافين على الطريقة الجنبلاطية التي لا تظهر فيها بوضوح ملامح مراجعة نقدية سليمة بقدر ما تظهر فيها ملامح ندم، وهو اسوأ أنواع المراجعة.
ليس هذا تجديفا على أحد، بل هو دعوة للكف عن عمليات الشحن الداخلي والتحريض ونكء الجراح التي لا تخدم الوحدة الوطنية اللبنانية، وهو دعوة لتلك القوى إلى أن تتعلم من دروس الحرب الأهلية ألا تعلق مصالحها بأذيال القوى الخارجية فتسعى إلى استدراجها والاستقواء بها، وتبرئ نفسها من الضلوع في الحرب الأهلية، وتعفي نفسها من مسؤولياتها عن الإصلاح السياسي، وهو ما يفسر مواقفها المتناقضة ظاهريا، والمتماثلة حقيقة لأنها وجه العملة وقفاها. فالعداء الشوفيني لسوريا هو الوجه الآخر من عملة الالتحاق بها، لأن كلا منهما يعبر عن فهم مغلوط لعلاقة لبنان بالخارج، ويعبر عن انعدام الثقة بالعوامل الداخلية. هذا هو بالضبط ما يفسر لماذا لم تكن تريد قوى الثامن من آذار أن تصدق في حينه أن سوريا ستخرج من لبنان، ولماذا استنفرت وتظاهرت لتشكرها وتثنيها عن تنفيذ قرار الخروج (أعلن بعضهم أنه سيقف أمام الدبابات السورية لمنعها من الانسحاب)، ثم عسكرت في مخيم ساحة رياض الصلح، وعطلت الدولة وعمل الحكومة، واستمرت تتصرف كالمضروب على رأسه؛ والأغرب من ذلك أن قوى 14 آذار، هي الأخرى، لم تصدق حتى اليوم أن سوريا قد خرجت، وما زالت تعتبرها موجودة من خلال قوى لبنانية موالية لها تجردها، بالتالي، من لبنانيتها، تماما في عملية تكفير وتخوين متبادلة لا تبقي أي لبناني على لبنانيته، فإما عميل لسوريا وإيران وإما عميل لإسرائيل والغرب. وهذا هو بالضبط أيضا ما يفسر اتفاق الاصطفافين، عند المنعطفات، على الوقوف ضد القيام بإصلاح سياسي للنظام السياسي اللبناني، على غرار ما حصل يوم عادوا من الدوحة باتفاق على قانون انتخابي يستبعد النسبية.
لكن ذلك كله يكون تجديفا إن لم نذكر أن اثنين فقط من القادة، على حد علمنا، أجريا مراجعة نقدية جريئة لتاريخهما في الحرب اللبنانية: سمير جعجع، لكن مراجعته قد تحتاج إلى من يلاقيها لبناء حزب وطني غير طائفي ؛ وجورج حاوي الذي، بعد اغتياله، أمعنت قيادة حزبه في التخلي عن تلك المراجعة الشجاعة التي أقرها مؤتمر الحزب والتي جمعت الرجلين، حاوي وجعجع، غداة اتفاق الطائف، للبحث في صيغة للمصالحة تعيد تجميع أوصال الوطن المقطعة.
moukaled47@hotmail.com
* كاتب وجامعي لبناني – بيروت
دفاعا عن جعجع… وعن سائر القتلة armando -lebanon — has-rojina@hotmail.com بالاذن من كاتب المقال..لايكون استسخاف الذاكرة الجماعية للقراء بهذه الخفة والاستخفاف بحركة التاريخ..هنك من قاتل ضمن المشروع الاسرائيلي في لبنان وهناك من انجر الى القتال للدفاع عن عروبة لبنان.. لم تكن الحرب في لبنان حربا لمجرد اطلاق النار في الهواء او حبا بالتدمير.. كانت هناك مؤامرة يقودها من ينتمي جعجع وزمرته الى مدرستهم الفكرية بارتباطهم بمشروع كيسنجر وبن غوريون واناس وطنيين بذلوا الغالي والنفيس في سبيل بلدهم وغير هذا هو افتراء وتجني على الشهداء واستغباء لذاكرة القراء… من اراد تشبيه قاتل ومجرم مثل جعجع وزمرة القتلة والسفاحين التي يقودها بالناس… قراءة المزيد ..
دفاعا عن جعجع… وعن سائر القتلة
أولاد الق……… لا أستثني منكم أحدا …..ثقافه مشوهة ودين يقدس الرذائل ويقمع انسانيتنا.
الانسان العربي بين سندان معتقداته ومطرقه جلاديه.