الحياة الجديدة ثورة في جميع أبعاد الحياة بما فيها الدينية. ودعاة التيار الديني يرفضون تلك الثورة ويواجهونها بكل ما يملكون من “سلاح”، مستندين في ذلك إلى النص الديني والنقل التاريخي، ويشترطون لقبول أي منجز علمي وعقلي جديد أن يكون متوافقا مع الماضي ومتماشيا مع فهمهم الديني التاريخي. لذلك، كانت المواجهة في كثير من الأحيان عنيفة، لأنهم اعتبروا الأمر بمثابة تحد للدين، ومن شأنه أن يعرّض للخطر الصورة التاريخية الكامنة في ذهنهم بشأن الحياة. فالحياة الجديدة هي ثورة بكل المقاييس ضد الحياة القديمة، فكيف يمكن لأنصار القديم والماضي والتراث أن يقفوا مكتوفي الأيدي إزاء ذلك؟ كيف يمكن أن يستغنوا عن مفاهيم بنت لهم حضورهم في المجتمعات؟
إن كل قديم لا بد أن يفنى ما دام الجديد قادرا على أن يحل مكانه. فالحداثة هي عملية لاستبدال الأجساد الميتة بأجساد جديدة. فالإنسان حينما يصل إلى مرحلة يستنتج خلالها أن الآلة المحركة لمنابعه لم تعد تشتغل بصورة جيدة، وأنها فقدت تأثيرها في الحياة، سوف يتجه بصورة أوتوماتيكية إلى منابع أخرى قادرة على الإنتاج.
هذا المبدأ بالنسبة للدعاة الدينيين يعتبر أحد الأخطار الرئيسية التي تهدد منابع قوتهم وحضورهم في المجتمع. فاعتقادهم يستند إلى عدم التفريط بالقديم حتى لو كان الجديد أفضل منه.
فعلى سبيل المثال، تغيرت النظرة إلى الإنسان في الحياة الجديدة، وظهر مفهوم جديد يفسر تلك النظرة، وبات وجود الإنسان يستند إلى حقه في الحياة انطلاقا من استقلال عقله لا إلى ما يملى عليه من مسائل وأمور وتكاليف يجب إطاعتها. وانطلاقا من ذلك تغيّرت النظرة إلى حقوق الإنسان، وبات احترام حقه في الحياة، بغض النظر عن دينه ولونه وجنسه وجنسيته، هو الأصل (النظرة الليبرالية). في حين لا تزال النظرة الدينية الدعوية ترجع إلى التاريخ وتعتمد على الرؤية التراثية التي تكبل الفرد بأغلال تاريخية – اجتماعية. فلا يزال المسلم وغير المسلم، والذكر والأنثى، والعبد والحر، معايير يستخدمها الدعاة لتحديد احترام الإنسان للإنسان. ولايزال مفهوم المساواة بنظرته الحديثة يواجه صدا وتحديا من قبلهم.
إن العقل حينما تحرر من أسر الرؤية الدينية التراثية، ومن النقل التاريخي، استطاع أن يحقق قفزات نوعية في الحياة، وقد ظهرت نتائج ذلك في التطور الذي نشاهد منجزاته راهنا في جميع مناحي الحياة، المادية منها والمعنوية. وما معارضة الدعاة لذلك إلا دليل على خوفهم من فقدان سلطاتهم الدينية ووصايتهم على المجتمع (وحتى فقدان مصالحهم الشخصية).
فارتباط الدعاة بالنص الديني التاريخي، أدى بهم إلى عدم القدرة على التوافق مع الحياة الحديثة التي أفرزت المجتمع المدني، وبالتالي إلى ممارسة العنف اللفظي والبدني من أجل إعادة الأمور إلى نصابها الماضوي التاريخي. لذلك نراهم يؤكدون على المشاريع الدينية الماضوية، ويفرحون من فرض الحجاب والصلاة والصيام بالقوة، ومن قتل المدنيين لأنهم يهود وصليبيين، ومن الوصاية غير الإنسانية للرجل على شؤون المرأة، بل ومن وصاية التاريخ الديني على الحاضر المدني، كما يشددون على أولوية الفقه على القانون والدستور، ويسمحون بالممارسات غير الأخلاقية في بلاد غير المسلمين على أساس أنها بلاد كفر جلبت مشاكل الحياة المدنية والحديثة. فتلك الممارسات ما هي إلا نتيجة طبيعية لسعي حثيث من طرف الدعاة وجماعاتهم للعودة إلى التاريخ، وحينما يفشل مشروع العودة لن يترددوا في طرح ادعاءاتهم غير المنطقية ضد المنجز الحداثي (كادعاءات الداعية نبيل العوضي ضد الليبرالية والليبراليين) ولن يترددوا في ممارسة مزيد من العنف من أجل تحقيق أهدافهم التاريخية.
ورغم ضرورة أن يكون الدين مصدرا للعلاقة الروحية، ومنبعا للقيم الأخلاقية، فإن سؤالا يواجهنا: هل ما نريده منه هو الدين فقط أم شيء آخر؟
ليس من مسؤوليات الدين الإجابة على كل تساؤلات الحياة، بمعنى أنه ليس “سوبر ماركت” يمكن أن يتبضع منه الشخص لمختلف حاجيات الحياة، بل بضاعته الرئيسية هي العبادات والطاعات والأذكار، أي الإيمان والحض على فعل الخير واجتناب فعل الشر. لذلك لابد للمتديّن أن يفكر بالدنيا بقدر تفكير غير المتديّن. فالدنيا لا ترتبط بذات الدين وأسسه وإنما بقضاياه الثانوية العرَضية. فمثلا: هل من ذات الدين أن يتبنى مشاريع تتعلق بالطب أو الإقتصاد أو الإدارة السياسية؟ فرغم أن الإجابة على السؤال هي لا، إلا أن هناك مسعى في هذا المجال استطاع أصحابه تحقيق نتائج معينة، حيث استندوا إلى بعض النصوص الدينية ووظفوها لاستخراج “بعض” الطب و”بعض” الاقتصاد و”بعضا” من أنواع إدارة الحكم.
لكن من أجل حل هذه الإشكالية، أي لكي لا يكون الدين “سوبر ماركت”، لابد من طرح تساؤل يساهم في إبعاده عن هذا الطريق، والتساؤل هو: ماذا نريد من الدين؟
ليس من الحكمة القول: ماذا يريد الدين من البشر، بل لابد أن نقول: ماذا يريد البشر من الدين. فمن الخطأ إلقاء جلّ مطالب الناس على الدين، بل الصحيح أن نتساءل: ماذا يستطيع أن يفعل الدين تجاه مطالب الناس.. وماذا يمكن أن يقدم من إجابات على أسئلة الحياة؟ فهناك من يقول بأن إذا لم يستطع الدين تحقيق جميع مطالب الناس سوف لن يحتاجوا له. هنا تكمن الخطورة على الدين. فالبعض يدّعي أن من مسؤوليات الدين معالجة جميع الأمراض وحل جميع المشاكل وتحقيق جميع المطالب. إن الإدعاءات التي ربطت تحقيق جميع مطالب الحياة وفرشت أرضية حل جميع مشاكله وقضاياه بالدين، اعتمدت على فهم خاص لنصوص دينية. فكثيرون يعتقدون أن الدين الكامل هو بمعنى أن الإنسان يستطيع أن يأخذ منه حلولا لجميع مشاكل الحياة وقضاياها. لكن الواقع يقول أن الدين ليس كاملا إلا لهدفه، وبالتالي لا يمكن أن يكون كاملا لجميع مسائل الحياة. فالنص الديني فيه هداية للناس ولم يأت ليعطّل دور العقل.
يقول أحد الباحثين إن السبب الذي جعل الدين عند غالبية المسلمين مرجعا لمختلف أمور الحياة، وهو ليس كذلك، أنه لم يعد مجرد علاقة روحية مجردة، بل أصبح جزءا من مشروع سياسي واقتصادي وقانوني وثقافي، أي أصبح منظومة فكرية وموروثا ثقافيا يبني عليه المشروع الديني بكافة إفرازاته وتداعياته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
وهناك سؤال آخر: ماذا إن فشل الفهم الديني التاريخي في جعل الدين مصدرا للعلاقة الروحية للإنسان في عصرنا الحديث؟ يطرح المفكر الإيراني مصطفى ملكيان عدة تساؤلات: هل ثمة مفارقة وتناقض في الجمع بين الإيمان والحداثة في المجتمع الإنساني؟ وهل يكون سلوكنا غير متجانس حينما نكون مؤمنين وحداثيين في آن واحد؟ وهل لنا أن نلتزم بأي شكل من أشكال القراءات للدين في هذا العالم الحديث الذي يتجه بنا نحو ما هو أحدث؟ هل بمقدور الإنسان الحديث أن يتمسك بما يشاء من قراءة للدين؟ ويجيب: إذا لم يكن بوسع الإنسان القبول بالقراءة التقليدية التاريخية للدين يستطيع أن يقبل الدين بهيئة جديدة وفهم جديد، ويسمي ذلك بـ”المعنوية”.
يؤكد ملكيان على أن “لكي نكوّن لأنفسنا تصورا صحيحا عن المعنوية، لابد لنا أن نفهم السبب في عدم قدرة الإنسان المعاصر على التعايش مع الفهم التقليدي التاريخي للدين، ولإدراك هذه المسألة يجب الرجوع إلى مفهوم الحداثة واستجلاء عناصرها وسماتها ومقوماتها”. ويضيف: “لا يدرك الإنسان ضرورة المعنوية إلا حين يستشعر أمرين: الحاجة إلى الدين، والإحساس بأن الدين بمفهومه التقليدي التاريخي الأصولي لا ينسجم مع عناصر الحداثة التي لا يمكن اجتنابها، أو عناصر الحداثة الممكن اجتنابها ولكنها حق. لو شعرنا بهذين الأمرين معا لن يكون بوسعنا الحديث عن الدين بمعناه المتعارف، في هذه الحالة إذا تعارض الدين مع عنصر غير قابل للاجتناب من عناصر الحداثة، فلن يكتب له النجاح، وكذلك لو تعارض الدين مع عنصر حق وحسن من عناصر الحداثة القابلة للاجتناب، حينها سنلجأ إلى القول بالحاجة إلى قراءة جديدة للدين لا تتعارض أو تتقاطع مع كلا النوعين من العناصر آنفة الذكر. وهذا هو ما أعبر عنه بالمعنوية”.
ssultann@hotmail.com
كاتب كويتي
الدين.. الليبرالية.. والحياة الجديدة
التحليل نابع من رؤية تحررية لواقع المجتمعات العربية الاسلامية في هذا الزمن .وهذا الطرح تبناه المصلحون منذ أواسط القرن التاسع عشرفي المشرق والمغرب على حد سواء . وهو يواجه اليوم مقاومة شديدة من قبل الحركات الأصولية بالأخص والدينية بشكل عام . وكل الحجج في الدفاع عن الحداثة والتحديث والتطور والتغيير معروفة وأرى أن الحسم رهين عاملين داخلي وخارجي : قدرة الأنظمة الساسية المحلية على تبني الخيار الحداثي في كل مجالاته وبالأساس التشريعية والتربوية وقدرة الغرب على الكف من التلاعب بمصالح الشعوب العربية الاسلامية والسعي لمساعدة قوى التغيير في مختلف مواقها …