إنْ كان الداعية الكويتي السلفي نبيل العوضي يعتقد أن الليبرالية هي من أخطر الملل والنحل والأفكار، فإننا نستطيع بكل ثقة أن نقول له إن الفكر الديني الأصولي التاريخي الذي ينتمي إليه هو من أخطر الأفكار وأكثرها تهديدا للقيم الإنسانية. يقول العوضي إن أحكام الدين وما تعارف وأجمع عليه العقلاء أو سلم العارفون أنها من الأخلاق والقيم، لا يعترف به عند الليبراليين. ونحن نقول له: ما تعارف عليه الناس والعقلاء راهنا من قيم وأخلاق، بل وفهم ديني جديد أيضا، لا يمكن أن يعترف به العوضي، لأنه يريدنا من خلال قيمه وأخلاقه أن نعيش في إطار التاريخ، السياسي والثقافي والاجتماعي، يريدنا أن نعود إلى أخلاقيات وأفكار لا تقبلها قيم الواقع الراهن.
للأسف لا يستوعب العوضي أن القيم والأخلاق تتغير عبر التاريخ، ولا يستوعب أنها نسبية، لذلك هو لا يملك إلا أن يطرح المشروع الماضوي، وفي مقابل ذلك يريدنا أن نؤمن غصبا بهذا المشروع، أن نتمسك بمرّه “الكثير” وحلوه “القليل”، بوصفه المشروع المنقذ المؤدي إلى رضا الله. هو لا يستوعب أن الماضي كان متوافقا مع الماضويين، فهما دينيا واجتماعيا وثقافة وتفكيرا، أي فهما معبّرا عن نهج حياة. غير أن هذا النهج لا يمكن أن يتوافق مع الحاضر، لسبب بسيط: أن الحاضر تغيّر، في القيم والأخلاق والثقافة والتفكير، أي بات يعبّر عن نهج جديد في الحياة.
لا يعي العوضي أنه لولا النهج الليبرالي، القائم على المطالبة بالحقوق والحريات الفردية، ومن ضمنها حق اختيار الدين وحرية التديّن، لما استطاع أن يدافع عن الحقوق الدينية للأقليات المسلمة في المجتمعات المسيحية، وعن حقوق الأقلية السنية في المجتمع الشيعي (إيران).
كما لا يعي العوضي الفرق بين الليبرالية السياسية والليبرالية الفلسفية. فما يطرح في الكويت من دعوات ليبرالية، تنتمي غالبيتها العظمى إلى الليبرالية السياسية لا إلى الليبرالية الفلسفية، على الرغم من شكوكي بشأن قدرة العوضي التمييز بين الاثنين. فالليبرالية السياسية التي ترفض تدخل الفقه التاريخي لرجال الدين في الشأن العام، تختلف عن الليبرالية الفلسفية التي تمس أصل الحياة وأصل الوجود. وانطلاقا من قناعتي بالليبرالية كنهج حياة، وقربي من الليبراليين، فإنني وغالبيتهم العظمى ننتمي إلى الليبرالية السياسية. لذلك فإن الكثير من الليبراليين متمسكون بقناعاتهم الدينية التي ترفض تدخل رجل الدين في كل صغيرة وكبيرة في الحياة، بمعنى أنهم يرفضون استبداد رجل الدين وتدخله في الشأن العام. كما أن الليبراليين متمسكون بعادات المجتمع وتقاليده وأخلاقياته أكثر من التيار الديني الذي بات يفرض على المجتمع سلوكيات غريبة وأخلاقيات متشددة تحت شعار الالتزام بالسنن الدينية، وهي سنن لم يعرفها تاريخ الكويت ولا عاداته وتقاليده.
إن الليبرالية لا يمكن إلا أن توصف بأنها مدرسة أخلاقية، بسبب طرحها مفهومين اعتبرا أرضية أساسية لولادة التعايش: مفهوم التعدد ومفهوم التسامح. والتيار الديني الذي ينتمي إليه العوضي كان أكثر المستفيدين من المفهومين، خاصة في المجتمعات التي يعتبر المسلمون فيها أقلية. فلقد استطاعت الليبرالية أن تؤصل للتعايش بين مختلف الأطياف الدينية والفكرية والاجتماعية المختلفة، ولولاها لكانت البشرية لا تزال تعاني من مرض الإلغاء الديني والعرقي والطبقي. ومن الظلم بمكان نزع الأخلاق عن الليبرالية واعتبارها صورة من الصور الجنسية غير الأخلاقية فحسب.
فالليبرالية تشدد، في دفاعها عن الحريات الشخصية، على ضرورة التقيد بالقانون في معركة كسب الحريات، وتناهض أي دعوة للتعدي على القانون. فكيف إذن يدّعي العوضي ادعاءاته غير الأخلاقية وغير الدستوربة تلك؟ فجميعنا يعلم أن أكثر الناس دعوة للتقيد بالقانون هم الليبراليون، فيما أقل الناس تقيدا به هم أنصار التيار الديني، لأنهم لا يعتبرون الدستور الوطني أصلا أساسيا يجب التقيد به، بل يعتبرون أحكام الفقه والفتاوى الشرعية هي التي لها الأولية في التنفيذ.
لا أريد أن أخوض في الموضوع الجنسي وغير الأخلاقي الذي أشار إليه العوضي في مقاله المثير في جريدة الوطن الكويتية (عن عدم ممانعة الليبرالي أن يتزوج الرجل أخته!! أو ينكح أمه!! أو ابنته!! طالما يحصل الأمر بالتراضي)، لأن ما جاء في المقال يعبّر عن ثقافته المحدودة جدا تجاه الليبرالية. كما لا أستطيع أن أتطرق إلى ما تحتويه التجارب الجنسية التاريخية المنطلقة من الدين – التي يشدد العوضي بل وعموم التيار الديني على التمسك بها بوصفها أخلاقيات منقذة للبشرية – من قصص جنسية تعرق لها الجباه وتفضح مزاعم المحافظة على الأدب والشرف، لأنها بكل سهولة سوف تمنع من النشر. ناهيك عما يحتويه تاريخ المسلمين من صور مفزعة بشأن كيفية التعامل مع العبيد والجواري والسبايا والاستمتاع بما ملكت إيمانهم “فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع. فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت ايمانكم”.
تقول الكاتبة المصرية شذى أحمد في مقال لها إنها “لا تجد مبررا لأخذ نساء وبنات الآخرين سبايا، فقط لأن جيوشا سمت نفسها فاتحة غزتهم وانتصرت على رجالهم”. ويشير الكاتب المصري خالد منتصر إلى “كتب هي على رفوف مشايخ الأزهر وليست تحت وسائد المراهقين، ولا يخفيها الشخص عن الأعين، بل على العكس هو يدرسها ويطالب بحفظها عن ظهر قلب، ولايستطيع هو أو غيره أن يصادرها لأنها قد كتبت فى عصر لم يكن فيه رقيب يتحكم فى تفكير الناس ويفتش فى ضمائرهم، لكنها كتبت فى عصر كان الشاعر يكتب شعره وكأنه يتنفس، والفقيه يدون آراءه فى أدق الأمور الخاصة بدون أن يتهم بالتهتك والانحلال، عصر كان يعيش فيه أبو نواس الإباحى وأبو العلاء المعرى المتشكك بجانب الإمام مالك المتبتل وأبى حنيفة الحكيم”.
لذلك نتساءل: ألم تكن للصحابة، بالإضافة إلى زوجاتهم، علاقات جنسية مع السبايا والجواري، حيث كان البعض منهم يجمع مع زوجته الكثير منهن من أجل ممارسة علاقات جنسية معهن؟ ألا يعتبر ذلك مخالفا للقيم الأخلاقية الراهنة؟ هل يريد العوضي أن يعيدنا إلى تلك الحياة؟ هل تقبل زوجة رجل منتمٍ إلى التيار الديني أن يمارس زوجها الجنس في الوقت الراهن مع جارية واحدة أو مع العديد من الجواري؟ هل يمكن التقيد بسيرة النبي الأكرم في إطار الآية التالية: “يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ”؟
إن المسلم يستطيع أن يطأ أو يضاجع الجارية وإن كانت متزوجة. وابن عمر حينما أراد أن يشتري جارية وضع يده بين (…) وعلى (…) من فوق الثياب وكشف عن ساقيها. لذلك طالب الكاتب الكردي سردار أحمد المسلمين بأن يكتبوا عن السبايا، عن سوق النخاسين لبيع وشراء الجواري والعبيد، وكيف كان المسلم يتفحص الجارية عندما كان يريد شراءها… هل يستطيع العوضي أن ينتقد مثل هذه السلوكيات؟ هل يستطيع أن يدعو لها في العصر الراهن؟ هل يريد للسنن التاريخية أن تصبح ممارسات صالحة لكل زمان ومكان؟
إن تعدد الزوجات، وإجبار المرأة على ممارسة الجنس مع زوجها، والزواج المبكر غصبا، وتأديب الزوجة بالضرب، وزواج المسيار وزواج المتعة (وهما بمثابة سلوك جنسي عادة ما يمارسه المتزوج من دون علم الزوجة، لذلك لا يمكن إلا أن يعتبر خيانة للزوجة) هي سلوكيات وسنن تاريخية تتعارض مع قيم وأخلاق العصر الراهن. فهل نستطيع أن ننتقدها وأن نرفضها دفاعا عن إنسانية المرأة من دون أن توجه لنا اتهامات دينية؟
ssultann@hotmail.com
كاتب كويتي
العوضي.. والليبرالية.. وأخطر الأفكار
لم يبهرني مقال من المقالات العديدة التي كتبت عن مقال (الشيخ) العوضي كما بهرني وأعجبني مقالك.
لقد وضعت النقاط على الحروف وفضحت المستور من عادات وتقاليد (إسلامية) وحاججته بالحجة والمنطق…فلا شلت يمينك.